لان مسببات الموت قد انعدمت في وطني العراق، ولم يعد للموت من سبب
غير السجائر فقد اعلنت الحكومة عن تشريع قانون يحد من التدخين... لكن
هناك رأيا آخر مخالف يبدأ بالذكريات ليصل الحاضر اذ يقول:
على أينا نبكي مرارة جرحنا مرارة جرح واحد وعذاب؟ في طفولتك كنت
تتحسر على قطعة من الحلوى، وفي صباك بح صوتك وانت تنادي بحرية الجزائر
وفلسطين عربية تسقط...
ما سمعتك الجزائر وما ميزتك فلسطين بين الاصوات.
سقطت انت ولم تسقط الصهيونية... كنت احيانا تزوغ عن الاجتماعات لا
لشيء الا لانك لا تملك عشرة فلوس تبرع بها لما اسماه حزبك مشروع القرش
لكن حزبك تركك تعيش في فقرك وراح يغدق على غيرك من مشارق الارض
ومغاربها حتى الغواني سبقتنك الى الغنيمة بشوط بعيد في حين ظللت تحلق
انت في مدارات السماء... ويوم انتهت الحرب الضروس اختفى صوتك بين
ملايين الاصوات المهللة (بالنصر) وضاع وجودك بين الالوف الباحثة عن (استثمار
الفوز) اما انت، فحصيلة الحرب ذكريات تجترها... طائرة عمودية تحملك
والارض ترشقها بالصواريخ الصغار والرصاص من حولها كأنها زغاريد نساء
يحتفلن بمقدمها... حقول الغام تتلمس طريقاً بينها وعندما يضنيك البحث
عن المجاز بين ما تخبئه الارض فانك تفوض الامر لله، ثم للصدفة...
قذائف مدفعية تقرضك ذات اليمين وتزاور عنك ذات الشمال وانت في فجوة
بينهما تشغلك عن اصواتها الهموم.
عندما كنت تدعى الى المعتقل ايام الصبا بترحاب ولباقة، كان ذلك لا
يهمك كما يهم الآخرين... فانت ليس عبئا على احد يلزمه بالزيارة وجلب
المأكل والملبس وابدال ملابسك القذرة باخرى نظيفة... كنت وحدك في
الدنيا لا احد معك سواك... وكانت صحبة اللصوص والقتلة، والنشالين، وذوي
المهارات الخاصة باغراء النساء، افضل عندك من المجرمين ذوي الياقات
البيض، ثم ان طعام المعتقل مما يجلبه ذوو المعتقلين، وحتى الكباب الذي
هو قد يكون اي شيء الا كبابا مع قطعة الخبز المطوية كجلدة معزة والحشيش
القذر الذي كان يعده متعهدو المعتقلات في الجردل الصديء كان افضل من
اللاشيء...
في تلكم الايام كنت تحب الشعر والاغاني ولا سيما شجا الريف العراقي
الحزين وعتابة بيدائه اللائذة بالصمت، واغاني الرعاة على الجبال
المكللة الهام بنديف الثلج، كان ذلك كله يروق لك ويخفف عنك عبء حياة
القيت فيها مصادفة ومصادفة بقيت....
رغم ذلك كله كان هناك شيء بين حنايا النفس يبهجك بمقدار ما يضنيك...
فراشة صغيرة ترفرف بين الجوانح... انها الامل... كان الكون عندك يعيد
تنظيم نفسه، كانت الارض في تصورك تنفث التغيير وقد بدت بواكيره بالظهور
هنا وهناك...
كان وميض البرق يوحي بفيض رائق من الغيوم الدواكن هطال...
كان هنالك ثوابت في مخيلتك كفيلة بصنع يوم جديد في عالم جديد...
صلاة جدتك المليئة بالاخطاء والتي تنقلها الملائكة على مضض الى رب يهمه
المقصد والنية قبل اللغة، وعباءة ابيك وكيس تبغه ودفتر (البافرا)
الصغير الذي يلف باوراقه الرقيقة سجائره.. ومن يومها وانت تعتبر
السجارة افضل صديق، فهي معك في الحل والترحال، وهي معك حيثما كانت
الضراء حيث لا توجد في حياتك سراء، ودخانها وحده هو الذي يصغي لما يدور
في مخيلتك الرعناء..
لكن خفافيش من التي تقتات على الدماء، ونافثات السم بدأ يروق لها
العيش على جلدك الكالح هذا يمتص منك جذوة الامل، وهذا يعوض عروقك
بالسموم.. ما كنت تتوقع ان تلوذ بعروقك السموم فتجد فيها مرتعا خصبا.
ها انت اليوم بلا وطن تجوب شوارعه، تلعب النرد في مقاهيه، تعشق فيه
وجها صبيا يبث اشراقة الحياة الى قلبك عبر العيون.
وطن يتمنى لك ما تتمناه له من صفو العيش، وتنطلق فيه الاغاني عاشقة،
حرة، ناعمة، تجعلك تهتز طربا رغما عنك بدلاً من اصوات الانفجارات التي
تهز الناس رعبا فتلوذ بالجدار خوفا من ان يسقط عليها الجدار...
كل شيء بات اسهما تتصاعد اثمانها وتهبط، وانت لا تجيد المضاربة
وتجهل مغزاها... وتمقت المقامرة بالمال، وتعشق المغامرة بالافكار حتى
الجنون... ولكن من يصغي لمن؟ انك سمكة صغيرة تتقاذفها الامواج، وتحيط
بها الضواري، ويتربص بها الصيادون منذ ان عرفوا الصنارة والشبك.
تغلق آذانك لا ينفع... تغمض عينيك... ليس في ذلك جدوى فالمآسي تعرف
كيف تشق طريقها الى العقل كيف تستوطن الروح...
فماذا يهمك قانون منع التدخين المعلن ما دمت قد صرت خارج الوطن
والقوانين التي جاءت بصيغة فتاوى والتي حرمت كل شيء يعطي للحياة معناها
الا اللصوصية والقتل..
عد الى سجارتك اذن فهي للخائبين نعم الصديق...... |