تعد إشكالية تقييم نشاط البحث العلمي في ضوء الإطار العلمي الحالي
المتميز بتعاظم عدد وحدات البحث وكذلك عدد العلماء وضخامة إنتاجهم
الفكري من أهم الإشكاليات التي يواجهها البحث العلمي في الوطن العربي.
وأصبح متخذو القرار والممولون نتيجة ذلك يسعون لتحقيق معادلة تكلفة
- فاعلية الأنشطة البحثية. وقد طور علم المعلومات التوثيقية منهجية
لتقييم أداء نظام البحث العلمي بقياس الإنتاج الفكري للباحثين ودراسة
سلوكياتهم إزاء المعلومات، وهي الببليومتريا. وتستخدم هذه المنهجية
أيضاً في دراسة تداول المعلومات لتحسين نظم المكتبات وتفسير الظواهر
التي تتحكم في الانفجار الوثائقي. وهذه المنهجية الببلومتريا هي:
الأساليب الرياضية والإحصائية التي تطبق على الكتب ووسائل الاتصال
الأخرى.
إن الببليومتريا ما هي إلا امتداد للإحصائيات الببلوغرافية التي
ظهرت في القرن التاسع عشر الميلادي، ولكن من الضروري تبرير استخدام
الإحصاء في علم المعلومات التوثيقية على مستوى كافة العلوم. لقد سمحت
الطرق الكمية لهذا العلم بقياس موضوع دراسته ووفرت الأدوات العلمية
المناسبة لنموه وتطوره. إلا أن الإحصاء له حدود ويبقى اللجوء إلى الطرق
الكيفية دائماً ضرورياً. يتمثل قياس الوثائق في جمع البيانات
الببلوغرافية مع نقد مصادرها، واستخدام المؤشرات ومعالجة تفسير الأرقام
واختيار القوانين الأمبيريقية.
وتعد مشاغل الباحثين وهمومهم والآليات البحثية المعتمدة أو المنعدمة
وبخاصة منها الطبيعة والمشاكل والعوائق الإدارية والنفسية من أهم عوائق
البحث العلمي في الوطن العربي، والتي مازالت تعيق، حركية وإشعاع وحسن
مردودية الباحثين العرب، إذ بعد أربعين سنة من الاستقلال السياسي
للبلاد العربية، لم تتبلور بعد سياسة للبحث العلمي في العلوم الإنسانية
والاجتماعية، ولم يعط تنظيم الندوات ولا المؤتمرات لدراسة وتقويم
النتاج البحثي في العلوم الإنسانية والاجتماعية على مستوى الوطن العربي
في معظم الاختصاصات الاهتمام الكافي إلا نادراً وبشكل جزئي وظرفي، مع
توفر الآلاف من الباحثين. بل ولم تبرز أية دراسة جامعية متأنية فاحصة
هذا الإنتاج البحثي والمعرفي.
بدأ اهتمام الباحثين العرب ينصب في العقدين الأخيرين على قضايا
الجسد والمتخيل والمقدس بعد أن ظل هذا الميدان حكراً على الاستشراف
والأنثروبولوجيا الغربية. والهدف دائماً هو تحليل مدى الاستقلال الفكري
والمنهجي الذي تحقق في هذا الميدان، ومدى خصوصية النتائج التي توصل
إليها الباحثون العرب. إن التباس هذه الموضوعات من جهة، وبطء التطور
الذي تعرفه سوسيولوجيا القيم والأنثربولوجيا الثقافية والتحليل النفسي
من جهة ثانية يجعل الكثير من البحوث في هذا المضمار إما ذات طابع
أيديولوجي وإما ترديداً لمعطيات معرفية ومنهجية متداولة في المرجعيات
الغربية، بيد أن حداثة البحث في هذه الموضوعات تبرر بعضاً من تلك
الخصائص.
وإذا قمنا بقراءة للكتابات الأنجلو ساكسونية من خلال تجربة مجلة
المغرب Maghreb Review، حالة المغرب العربي كموضوع للبحث. نجد أن
محاولة فهم هذه الكتابات والأعمال كطرائق للاستدلال والبرهنة العلمية
وكممارسة معرفية خاصة بفضاء سوسيوثقافي متميز ضمن المنظومة الغربية،
تهدف للكشف عن تمثل هذا النوع من المنهجية في المغرب العربي. وتسمح
قراءة السمات والخصائص المدونة والمنتقاة من المجلة بملاحظة ما يلي:
- هناك هوس بجمع المعلومات والمعطيات مع اعتناء خاص بالتفاصيل مقابل
تساهل في تقديم بناء نظري قادر على تتبع السيرورات.
- مقابل اعتماد باحثين غير انكلوساكسونيين فيما يخص مرحلة ما قبل
استعمار المغرب ودون استعمال نقدي، هناك اعتماد مطلق على
الأنكلوساكسونيين كمراجع لمرحلة الاستقلال، وعلى مستوى المتن يمكن ضبط
عدة توجهات في البحث نذكر منها أساساً: التحليل الانقسامي والتحليل
التأملي واتجاه الاقتصاد السياسي. تترك قراءة هذه الأعمال انطباعاً حول
وجود ثلاثة مغارب:
1- مغرب ما قبل الاستعمار يفسر بنظامه القبلي.
2- مغرب الاستعمار يفسر بعامل الاستعمار.
3- مغرب الاستقلال (وينعت غالباً بمغرب ما بعد الاستعمار) ويفسر
بطبيعة نخبه وبمواقفها.
يجب اعتبار البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية في الوطن العربي
ضرورة قومية ملحة لتعميق المعرفة بمجتمعاتنا العربية ومشكلاتها واقتراح
الحلول المناسبة ووضع سياسات للبحث العلمي في كل دولة عربية من أجل
تحقيق هذه الغاية.
1- توفير الدعم المالي الطويل الأمد لمراكز البحث العلمي في
الجامعات والمعاهد العربية القائمة وإنشاء معاهد ومراكز جديدة حيث تدعو
الحاجة إلى ذلك. وبخاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية.
2- دعوة مؤسسات البحث العلمي الخاصة والعامة ذات التوجهات
المستقبلية القومية السليمة لتطوير نشاطها وزيادة فعاليتها في العلوم
الإنسانية والاجتماعية.
3- تعزيز التعاون بين مراكز البحث العلمي والباحثون العرب في العلوم
الإنسانية والاجتماعية وتقديم التسهيلات اللازمة لهم وتبادل المعلومات
والمصادر والخبرات دون أية عوائق.
4- التنبيه إلى مخاطر الهجرة الدائمة للباحثين العرب والنتائج
السلبية التي تترتب عليها.
6- توثيق وتطوير التعاون العلمي القائم بين مراكز البحث العلمي في
البلاد العربية والدول الأوربية على أسس من الاحترام المتبادل والمنفعة
المشتركة.
إن تطور أي منظومة بحثية في الوطن العربي لا يبدأ من فراغ، وإنما
تكون له مقدماته الأولية التي تصله بمنظومة البحث العلمي العالمية
وبخاصة الغربية المجاورة له، مما يشكل قدرة على الاستمرار في تطوير
البحث العلمي وتأثيره الإيجابي على التحولات الاقتصادية والاجتماعية في
الوطن العربي. كما أن للبحث العلمي مقدماته وأصوله وجذوره، فالتاريخ
الإنساني لم يعرف قط تطويراً جديداً تماماً لا يمت بصلة بما سبقه، وحتى
التحولات الكبرى والثورات نراها قد عكست البيئات الاقتصادية
والاجتماعية التي ظهرت حينها ولو في حدود معينة.
الأمل في قيام نهضة جديدة للعرب ليس بالأمر غير المشروع، ولا هو
يدخل في إطار الرجم بالغيب بل على العكس من ذلك فإن عناصر ومقومات هذا
النهوض متوفرة وكثيرة، لكن الأمر يستدعي الإيمان بوحدة هذه الأمة
ودورها ورسالتها الحضارية.
* كلية الاقتصاد - جامعة دمشق |