أي رقم قياسي هذا؟!

عريب الرنتاوي

في العشرين من كانون الثاني/ يناير الجاري، أصدرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، تقريراً مثيراً للاهتمام، تناول تاريخ استخدام المادة الدستورية الخاصة بـ"إهانة" الخديوي، السلطان، الملك، ولي الأمر، الرئيس، من الفترة القرن التاسع عشر (1892) وحتى يومنا هذا.

وتبلغ المفاجأة حداً "صاعقاً" حين نعرف أن أول رئيس مدني منتخب لمصر، الرئيس الإخواني محمد مرسي، هو صاحب الرقم القياسي في "تفعيل" هذه المادة واللجوء إليها، واستخدامها كسلاح لتكميم الأفواه، وبصورة فاقت كل التوقعات.. فخلال مائتي يوم فقط في الحكم، لجأ الرئيس إلى هذه المادة، أكثر مما فعل ملوك مصر ورؤسائها وخديوييها، خلال أزيد من مائة وعشرين عاماً.

الخديوي عباس حلمي باشا، وطوال 22 عاما في الحكم، سجل ثلاث قضايا فقد، والسلطانان حسين كامل وفؤاد الأول، سجّلا ثلاث قضايا في 22 عاماً خلال عهديهما معاً.. والملكفاروق سجّل خمسة قضايا طوال 16 عاما.. ولم تُسجل في عهد أول رئيسين لمصر محمد نجيب وجمال عبد الناصر (1952- 1970)، أية قضية "إهانة للرئيس".. أما في عهد الرئيس السادات فقد سُجّلت قضية واحدة فقط وطوال 11 عاما.. وفي عهد المخلوع حسني مبارك (30 سنة) تم تسجيل أربع قضايا فقط.. أي أنه طوال تاريخ مصر الحديث، قبل مرسي، لم تسجل سوى 15 قضية، في حين تم تسجيل 24 قضية وبلاغ خلال أقل من ستة أشهر من حكم أول رئيس إخواني منتخب للشعب المصري.

صورة مؤسفة بلا شك، تعكس ضيق الرئيس والجماعة بحرية الصحافة والرأي والتعبير، ملاحقة رؤساء تحرير، إغلاق صحف ومجلات ومحطات فضائية، محاولة سيطرة على الإعلام "القومي".. مطاردة مذيعي ومقدمي البرامج السياسية والحوارية، حملات تحريض ضد التيارات الفكرية والسياسية العلمانية والليبرالية.

ولعل أخطر ما في هذا الهجوم الشامل على الصحافة والإعلام، تزامنه وترابطه مع هجوم مماثل على القضاء والمحكمة الدستورية، وهي قلاع نجحت في مقاومة نظم الفساد والاستبداد والصمود في مواجهة محاولاتها ضرب استقلالية القضاء واستلحاقه.

هي تجربة لا تدعوا للتفاؤل بلا شك، بل وتثير المخاوف على مصائر ثورة الخامس والعشرين من يناير التي تشرف على الاحتفال بعيدها الثالث، كما أنها تتهدد مستقبل مشروع التحول الديمقراطي في مصر.. ولن تنفع كافة التبريرات التي تسوقها الجماعة، والناطقون باسم الحكم الجديد في البلاد، تسويق وتسويغ هذه حملات التضييق على الإعلام وإرهابه واحتوائه.

ولقد أثبتت التجربة المصرية المعاصرة، أن أكثر النظم استبداداً وفساداً، أخفقت في "كسب" معاركها مع القضاء والإعلام.. فكيف أن كانت "المعركة" تستهدف إلى جانب هاتين الركيزتين الناشطتين بقوة، قوى شعبية وسياسية وتيارات سياسية وفكرية، لم تعد تشكل أقلية ضئيلة، لا يُحسب حسابها، كما كان عليه الحال من قبل.

ما يجري في مصر مقلق للغاية، لجهة تنامي احتمالات استبدال "الأوتوقراطية" بـ"الثيوقراطية".. ومحاولات فرض ديكتاتورية دينية على حساب ديكتاتورية علمانية (إن جاز أن نسميها كذلك.. ما يجري في مصر، سيلقي بثقله ونتائجه الكارثية، على مختلف فروع الحركات الإخوانية، في المنطقة العربية، وليس في مصر وحدها... فمهمة هذه الجماعات، باتت اليوم أصعب من أي وقت مضى، في إقناع حلفائها وأصدقائها، بأنها مؤمنة حقاً بحرية الإعلام واستقلالية القضاء والتعددية السياسية والفكرية وحرية الرأي والتعبير... ما جرى في مصر خلال الأشهر الستة الفائتة، لا يشيع مناخات الثقة ولا يبعث على الارتياح، بل يثير القلق والمخاوف، ويوفر المبررات لكل القوى الرجعية والمحافظة والمناهضة للثورة، للانقضاض على قوى ومشاريع الإصلاح والتغيير في دولها ومجتمعاتها.

وإذا كان بمقدور الفريق الحاكم في مصر، أن يكسب جولة أو جولات في حروبه المتنقلة على الإعلام والقضاء، فهيهات أن يكسب الحرب، وساعة الحساب مع كل من سينتهك حقوق المواطنين وحرياته، آتية لا محالة.. قد تتقدم أو تتأخر، لكنها آتية لا ريب فيها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/كانون الثاني/2013 - 11/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م