الأردن بقلم ديفيد شينكر

عريب الرنتاوي

خلال الأشهر القليلة الفائتة، تحوّل ديفيد شينكر إلى اسم يتردد كثيراً في الأوساط السياسية والإعلامية الأردنية.. الرجل يكتب في الشأن الأردني بين الحين والآخر، وهو يعمل في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في واشنطن، وكان قدم ورقة "إرشادية" مؤخراً، إلى الإدارة الأمريكية، تضمنت نصائح لإدارة أوباما الثانية في كيفية التعامل مع الأردن، وهو تقليد درجت عليه مراكز الأبحاث الأمريكية، التي "تتنافس" لتقديم قراءاتها وتوصياتها للإدارات الأمريكية المتعاقبة عند تسلمها مهام ولايتها.

الورقة الأخيرة لشينكر جاء تحت عنوان "هل ستكون الأردن أول ملكية عربية تسقط؟.. وفيها قراءة للوضع السياسي والاقتصادي الداخلي، لا تخلو من كثيرٍ من عناصر الصحة، على الرغم من عنوانها "المثير" والدراماتيكي".. وهو عرض في ختامها لتوصيات ومقترحات، من شأن الأخذ بها عدم الوصول بالأردن إلى السيناريو الذي تضمنه عنوان الورقة وسؤالها الرئيس أصلاً.

في الأردن أزمة "إصلاح سياسي"، لا تضاهيها أو ربما تتجاوزها، سوى الضائقة الاقتصادية التي تعصف بالأردنيين وتتهدد اقتصادهم الوطني وموازنة دولتهم.. هذا أمر يتفق معظم الأردنيين مع شينكر على صحته، بل ولديهم من "القصص" و"الشواهد" ما يزيد عمّا جاء في ورقة شينكر.. والأردنيون كما قال شينكر محقاً، وضعوا محاربة الفساد في صدارة أولوياتهم وجداول أعمالهم، حتى أن شعار محاربته وإسقاط الفاسدين، كان تصدر التظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات في السنتين الأخيرتين، ولا يزال.

ومن "سوء طالع" الأردن، أن الجغرافيا، منحته مكانة "القلب" بين معظم أزمات المنطقة.. من إيران والعراق والخليج إلى فلسطين وسوريا ولبنان، وهو بهذا المعنى، يدفع أثمان الجيوبولتيك الباهظة، كما لو كانت الأزمات تتفاعل على أرضه وفي داخله، وليس في جواره أو بعيداً عنه.

لكن "سوء الطالع" هذا، لطالما استحال إلى "عنصر قوة"، ومصدر اهتمام إقليمي ودولي، مكّن الأردن من اجتياز أزمات كبرى وجديّة متعاقبة، كان يمكن لأي منها، أن تعصف به وتجعل منه أثراً بعد عين.. فالأردن حين يتعلق الأمر بـ"الصورة الأكبر" للإقليم، يُؤخذ عادة من منظار إقليمي، وبالارتباط مع واحدة أو أكثر من ملفاته وأزماته المفتوحة: عملية السلام، الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، العراق والآن سوريا، ودائما الحرب على الإرهاب، وربما إيران مستقبلاً.. لكن الأردن، يؤخذ ككيان خاص عندما يتعلق الأمر بأمنه واستقراره ووجوده.. ولو لم يكن الأردن موجوداً على خريطة المنطقة، لعملت إطراف وقوى عديدة، على خلقه إيجاده، ومن باب أولى التذكير بأن هذه الأطراف، وحتى إشعار آخر، لن تسمح بانهياره أو بسقوط الملكية فيه، والسبب كما قلنا: ديكتاتورية الجغرافيا.

لقد رأينا حالة "شظف العيش" تعتصر الموازنة وترفع أرقام العجز والمديونية وتأكل رواتب ومداخيل صغار الكسبة والفئات المهمشة.. رأينا شُحاً في الدعم المالي والاقتصادي... ولكن "عندما بلغت الموسى الذقن" كما يقال، رأينا صنابير الدعم المالي والاقتصادي والغاز تفتح من جديد، وإن على استحياء، ورأينا بصيص أمل وشعاع في نهاية النفق المظلم.. لكأننا أمام معادلة "قَدَريّة": لا يحق للأردن أن يشبع، ولا يجوز له أن يقضي جوعا.

داخلياً، لا يبدو أن ثمة من بين التيار الرئيس في حراك الشارع والمعارضة في الأردن من يدعو لإسقاط الملكية.. ستجد حتماً من يدعو لإصلاحها ودسترها.. وثمة "طلب متزايد" على الملكية الدستورية، تردد صداه عند الملك شخصياً عندما قدم لأول مرة، صورة مغايرة عن الملكية في الأردن في السنوات القادمة.. وأحسب أن ما ينقص التجربة الأردنية، هو اتباع الأقوال بالأفعال، الأفعال الجادة التي تعيد بناء علاقة المواطن بدولته ونظامه.. وهي مهمة لم تدخل في إطار المستحيلات في الحالة الأردنية كما هو عليه في دول عربية أخرى، من بينها دول ملكية كذلك.

هذا لا يعني أن ننام على حرير أوهامنا، مطمئنين إلى غدنا.. فنحن في إقليم، بل وفي عالم متغير بسرعة.. وما يصح اليوم، قد يفقد صحته غداً.. وما يقترحه شينكر هو غيض من فيض ما يقترحه الأردنيون على نظامهم السياسي، وقد آن أوان الاستجابة الحقيقة الواسعة، لمطلب الإصلاح في أبعاده المتزامنة والمتوازية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإدارياً وماليا، إلى غير ما هنالك من ميادين وحقول.

أهمية ما جاء في ورقة شينكر، المختصرة على أية حال، ليس في "نبوءتها السوداء" و"عنوانها المثير".. ولا في حملات وفزعات "الردح" التي يمكن أن تستثيرها.. أهميتها تكمن في كونها قرعت ناقوساً، يملي علينا التدقيق والتأمل في مختلف المعطيات الواردة في الورقة، والعمل بكل جهد وعزيمة، لـ"نسوي الصفوف ونسد الثغرات"، ونعمل بهدي من دروس الربيع العربي، وأهمها على الإطلاق: أن قطار التغيير جارف، فإما أن نلتحق بواحدة من عرباته، وإلا فسنجد أنفسنا بين أنيابه الفولاذية القاسية.

لا يتعين علينا أن نترك القلق والانفعال يجتاحاننا بعد قراءة هذا النمط المتزايد من الأوراق والمقالات والدراسات.. علينا أن نتحرك صبيحة اليوم التالي للانتخابات المقبلة، لإطلاق ورشة عمل وطنية كبرى، للإصلاح المتزامن والمتوازي لمختلف جوانب وأوجه نظامنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. من دون عجلة أو تسرع، ولكن من دون تباطؤ أو مراوحة.. علينا باختصار أن نسرع ببطء.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21/كانون الثاني/2013 - 9/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م