هل الميتافيزيقا مضيعة للوقت؟

حاتم حميد محسن

تعمل الميتافيزيقا باعتبارها الاساس المشترك للعلوم الطبيعية، فهي الساق الذي تقف عليه جميع تلك العلوم. ومن الغريب ان نجد حاليا دراسة الميتافيزيقا قد نُبذت واُعتبرت كمضيعة للوقت. ربما يعود هذا بدرجة ما كنتيجة لسوء ادارة الميديا. ومن المؤكد ان الشخص ذو الميول العلمية الذي يقرأ مقدمة كتاب (دليل بلاكويل للميتافيزيقا) يستنتج بسهولة ان موضوع الميتافيزيقا لا يستحق القراءة.

ليس من قبيل الصدفة ان لا نجد في اي من مقالات الكتاب ذكراً لماهية الميتافيزيقا، ولا وصفاً للطرق المتعلقة بعملها او قواعد ومعايير تقييم نجاحات النظرية الميتافيزيقية. في كل المحاولات الميتا فلسفية لم نر الاّ فشلاً ذريعاً.

من الصعب ان نجد اي تفسير آخر لهذه الحالة عدا ان الميتافيزيقا هي للناس الذين ليس لديهم عملاً اخر. هذا الموقف يمكن اثباته عبر المطبوعات التي تعرض بما لا يدع مجالاً للشك فشل الاكاديمية الغربية في فهم أبسط الاشياء حول ميتافيزيقا بوذا و لاي- تسو Lao- tsu، وهي تتناسى حتى أجزاءاً هامة من المعتقدات الغربية. الشخص الجديد على الموضوع، الذي يعتقد ان كتاباً محترماً كدليل بلاكويل هو أفضل كتاب للقراءة، سيعتبر ذلك الموقف من الميتافيزيقا كحقيقة، واذا كان حقيقة فان باقي الكتاب وكل الموضوع سيكون مضيعة للوقت.

ولكن تاريخ الميتافيزيقا بالاضافة الى المقالات في الدليل المذكور اعلاه يبين ان باستطاعة المرء الانخراط بنجاح في لعبة اللغة الميتافيزيقية حتى عندما لا يستطيع الالمام بقواعد هذه اللعبة.

قد لا يوافق البعض على ان الانخراط الناجح في هذا النوع من لعبة اللغة الميتافيزيقية هو طموح ذو قيمة. هي لعبة لا توجد فيها قواعد يمكن ادراكها ولا يمكن معرفة منْ الرابح ومنْ الخاسر ، فاذا كان هذا الشيء ممكن منطقيا ، فهل هو لعبة لا تستحق المجازفة.

ليس كل الفلاسفة يقبلون بهذا التقييم المتحيز لتاريخ الميتافيزيقا. والبعض يرى فيه هجوماً عنيفاً. اولئك الذين يرون الميتافيزيقا الطريقة الوحيدة امام الفيزياء النظرية ودراسات الوعي، وهي وحدها القادرة على بناء نظرية اصلية، والعلم الوحيد الذي لديه الادوات لمواجهة مشكلة (العقل- المادة) بشكل صريح ونزيه، سيُصابوا بالاحباط من الطريقة التي تُعرض بها الميتافيزيقا احياناً حتى من جانب اصدقائها. العديد من الميتافيزيقيين لديهم رؤية مختلفة جداً ويعتبرون هذا التوصيف لحقلهم من الدراسة مضللاً وغير جاد. رؤيتهم هذه ليست أقل شرعية.

يمكن تعريف الميتافيزيقا باعتبارها دراسة العالم ككل. وان الطريقة الرئيسية التي تتبعها هي النفي الديالكتيكي، ودحض المقترحات المتعلقة بالعالم ككل وذلك عبر اشتقاق المتناقضات. استخدام قواعد الديالكتيك يسمح لنا بتحديد اي المقترحات صحيحة وايها خاطئة. ان الطريقة الديالكتيكية تعمل بشكل سليم ولا تعطي اي نتائج تتصادم مع الملاحظة العلمية او التجربة الشخصية المُبلغ عنها. وباستعمال هذه الطريقة، والقواعد التي دُونت من قبل ارسطو، تكون الميتافيزيقا قادرة على الإعلان بان جميع المواقف الميتافيزيقية عدا واحد يمكن دحضها ولايمكن الدفاع عنها منطقيا، وهي "خاطئة" طبقا للقواعد. هذه ربما النتيجة الاكثر شهرة واهمية، وهي السبب الرئيسي لصعوبة عمل الميتافيزيقا في المقام الاول. انها النتيجة التي نتوقعها، وهي تعطينا الثقة في طريقتنا، لأنه لا يوجد هناك اكثر من طريقة ميتافيزيقية واحدة صحيحة.

ولكي نكون اكثر تحديداً، الميتافيزيقا لا تؤيد نظرية جزئية انتقائية او نظرية لعالم وضعي. هذه النتيجة الابدية تقودنا نحو نوع مختلف من النظرية. المشروع الميتافيزيقي لبوذا ولاو تسيو اصبح اكثر وضوحا طالما هو غير جزئي او اختياري او وضعي، ولا يمكن دحضه بالديالكتيك، وهو المتبقي الوحيد. انه ليس صحيح ظاهريا ولن يكون كذلك، ولكنه متفرد بين النظريات الميتافيزيقية كونه غير خاطئ ظاهريا. وهكذا، وفق هذه النظرة، الميتافيزيقا هي دراسة صريحة تماما نستطيع بواسطتها القضاء على النظريات التي لايمكن الدفاع عنها منطقيا لنترك فقط تلك الصحيحة، لتؤكد فقط الافتراض الاول بان الكون يخضع لقوانين المنطق الديالكتيكي او "قوانين الفكر".

لو اخذنا بهذة النظرة المبسطة والاكثر تفاؤلا للميتافيزيقا عندئذ نستطيع توضيح لماذا العديد من الناس بما فيهم بعض الفلاسفة، يعتبرون الميتافيزيقا غير مهمة وبلا معنى. التشاؤم الموجود في الميتافيزيقا الغربية الذي يتضح جيدا في العبارات اعلاه والسائد ايضا في الادب، يمكن توضيحهُ من خلال رؤية التصوف (mysticism) كمضيعة للوقت، وعدم وجود اي حل للمشاكل الميتافيزيقية. يجب ان يكون واضحا للعديد من الميتافيزيقيين ان التصوف ليس له ميتافيزيقا منهجية تدعم حديثه عن الكوسمولوجي والسوترولوجي، ولذلك نادراً ما يُدرس مشروعه الميتافيزيقي وستبقى الرؤية الدونية للتصوف سائدة في مجالات معينة من الميتافيزيقا.

عبر القفز الى هذا الاستنتاج غير المؤكد تكون الميتافيزيقا جعلت وبشكل غير متعمد الموقف اكثر سوءاً ، وذلك لأنه اذا لم تكن هناك نظرية ميتافيزيقية منهجية تدعم تعليمات بوذا وليو تسيو عندئذ لن يكون هناك حلا لمشاكل الميتافيزيقا وهي مجبرة لتبقى بلا فائدة قليلا ام كثيرا لأي شخص لا يتقاضى معيشته منها. لحسن الحظ لم نر اي تبرير لهذه الرؤية عن التصوف. في الميتافيزيقا ، لو لعبنا بالقواعد، لا نستطيع تجاهل الاساس الفلسفي للتصوف باعتباره شيء خاطئاً او مضيعة للوقت طالما نحن لا نستطيع ان نبيّن كيف يؤدي ذلك لحدوث تناقضات منطقية. كل ما نستطيع فعله هو تجاهل طريقتنا في التفنيد باعتبارها مضيعة للوقت بسبب الفشل في تكذيبها مثلما ينصحنا دليل بلاكويل لعمل ذلك. ليس هناك ما يمنعنا من عمل هذا ، ولكن ذلك يتطلب ثمناً كبيراً.

لن نستطيع التذمر عندما يرفض الاخرون موضوعنا باعتباره غير علمي او مضيعة للوقت، لأننا نحن من جعله هكذا. حين نتمسك بطريقتنا ونتبع تحليلنا الى نهايته القاسية سوف نصل الى ما يصل اليه الميتافيزيقيون دائما، للاستنتاج بان جميع النظريات الميتافيزيقية الوضعية هي غير مُرضية.

نحن الان نواجه خياراً بسيطاً. نستطيع الاختيار بين ان نرى هذا الاستنتاج كنهاية طريق مغلق لا تقدّم وراءه، او ان نراه كحقيقة ثابتة ورصينة نشتق منها نظرية ميتافيزيقية موسعة. هذا الخيار يقسم الفلسفة العقلية الى "شرقية" و "غربية". ان الالتباس والاحباط السائدين في ميتافيزيقا الغرب لم يحصل بسبب فشلها في بلوغ نتيجة معينة وانما بسبب رفضها لقبول النتيجة. الادّعاء باننا ليست لدينا قواعد لصنع القرار سيسمح لنا برفض وجوب القبول بها، لكن هذا يشبه الى حد ما الإخلال المتعمد بلوحة الشطرنج في الدقائق الاخيرة لتجنب الخسارة. الميتافيزيقا عندئذ تُختزل الى علم زائف كما يصفه دليل بلاكويل. هذه الميتافيزيقا ربما يُنظر اليها كمضيعة للوقت، لأنها بينما هي قادرة على تاسيس مشاكل الفلسفة فانها تستبعد دراسة الحل الوحيد المتوفر امامها. لكن هذه ليست جميع الميتافيزيقا، بل هو فقط اتجاه معين فيها، لم يثبت نجاحه منذ ايام افلاطون. اضافة الى هذا هناك ميتافيزيقا بارمنديس وزينو، هيرقليطس و بلوتينوس، كانط وهيجل، هايدجر وجنك، شوبنهاور و شرودنجر، برادلي وناجارجينا، لايو- تسيو وبوذا.

للاجابة على السؤال في عنوان المقال، نستطيع القول ان اعتبار الميتافيزيقا مضيعة للوقت سيعتمد جوهريا على قبولنا او رفضنا لنتائجها. في التقاليد الغربية جرى تجاهلها، ولهذا نجد التقييم السلبي الذي مُنح لها حتى من جانب عدد من الميتافيزيقيين بينما في التقاليد الشرقية هي قُبلت وهو ما يوضح ليس فقط التفاؤل الاكبر وانما ايضا كيف بالامكان ان تكون ميتافيزيقا الشرق مختلفة جدا عن ميتافيزيقا الغرب لدرجة اننا لا ندرك حقيقة انها جديرة بان تكون جزءاً من نفس الموضوع. عدم ادراكنا لذلك يجعلنا نتصور بان الميتافيزيقا هي لعبة لغوية لا يمكن ربحها.

ربما ليس من السهل الاعتراف بالحقيقة، ولكن حالما يتجاوز المرء فكرة ان الميتافيزيقا لا تتفق مع التصوف عندئذ سيصبح ذلك الاعتراف ممكناً. انه ليس من السهولة تعلّم تاريخها بدقة، وادراك مختلف وجهات النظر المتضادة التي تراكمت عبر القرون، وفق معايير تتطلب من المرء ان يكون عبقريا كي يصبح استاذاً فيها ، ولكن توجيه سؤال ميتافيزيقي ومحاولة الاجابة عليه هو كل ما يتطلبه ذلك العمل، وان طرح القليل من تلك الاسئلة سيعيدنا حالاً الى النقطة حيث كلا الاتجاهين الرئيسيين لا يتفقان على كيفية تفسير فشل الميتافيزيقا في بلوغ نتيجة ايجابية.

الآن وجدنا المخرج من الميدان وعلينا الاختيار بين البقاء او المغادرة، بين قبول هذه النتيجة او رفضها. اذا قررنا المغادرة، كل النظريات ماعدا واحدة يمكن نبذها ثم التركيز على كيفية الوصول لإدراك نظرية واحدة فقط.

عند المباشرة بالعمل سيكون من المؤكد اننا سوف نتبنّى بدرجة ما الطريقة الصحيحة. قواعد ارسطو في الديالكتيك قصد منها ايجاد صيغة عامة للطريقة التي يفكر بها الانسان بشكل طبيعي لا مناص منه. القواعد تصف الطريقة التي تعمل بها اذهاننا. لذا نحن لا نحتاج لدراسة الطريقة قبل بدأ العمل.اهتمامنا في الاساس انصرف الى مشكلة (الشيء- اللاشيء)، السؤال حول ما اذا كان الكون بدأ به او اُختزل اليه، برز ببساطة من احدهما او من الاخر. فهم الحدث بعد وقوعه هو افضل بداية، طالما هو احد المشاكل الميتافيزيقية الممكن دراستها وليست بتلك الدرجة من التعقيد التي يصورها البعض. ذلك لأن النقاشات فيها تميل لتكون اكثر ايجازاً وصراحةً من الانواع الاخرى ،حتى لو لم تخلُ من الالتباس.

معظم الناس، عندما يسألون انفسهم هذا السؤال، سيكتشفون فوراً فكرة ان الكون بدأ بشيء او لاشيء لا تحمل اي معنى. كلا طرفي هذا المأزق يمكن دحضهما في الديالكتيك، والافكار التي بالامكان دحضها منطقيا لن تضيف اي معنى لنا. نحن ربما نصل الى هذا الاستنتاج بعد وقت قصير وبطريقة غير احترافية لكن يجب ان لا نشك انها نتيجة فلسفية هامة. انها تقول لنا شيئاً استثنائياً تماما حول الكون وحول الطريقة التي نفكر بها. او على الاقل، انها ستقوم بذلك لو نحن وثقنا بعقلنا وقبلنا بها كنتيجة. لو نحن سرنا بهذا المنحى، مقتربين من المآزق التالية الرغبة الحرة- القدرية، الداخلي- الخارجي، العقل- المادة، الواحد- المتعدد، الاحادية – الثنائية وغيرها سنصل في النهاية وحيث يصل كل واحد، للاختيار بين فكرة ان الميتافيزيقا والتصوف هما في توافق تام وليس اي منهما مضيعة للوقت، وفكرة ان الميتافيزيقا ليس فيها اجراء لصنع القرار وهي علم زائف، وهي بالتالي لا تمتلك اساسا فلسفيا وبذلك تكون مضيعة للوقت.

ليس من الصعب اثبات مدى سهولة هذا الخيار لنا. نحن لسنا بحاجة للتعامل مع جميع المشاكل باختلافها، لأن الميتافيزيقيين انجزوا سلفاً جميع الاعمال الصعبة. كل ما نحتاجه هو تأكيد ان مشكلة (الشيء- اللاشيء) وكل المشاكل الميتافيزيقية المعروفة بقدمها تبقى كمشاكل في الميتافيزيقا الحالية، يمكننا القيام بذلك عبر الاستعانة بمدخل عام او القراءة اونلاين ، او حتى بمجرد الانطلاق من مقدمة دليل بلاكويل. لو كانت جميع هذه الاسئلة لازالت مشاكل اليوم، وبعد قرون من التحليلات المزعجة، سيكون ذلك فقط بسبب ان جميع اجوبتها الوضعية تخالف قواعد لعبة ارسطو الى درجة يجب الحكم عليها خاطئة.

كون الميتافيزيقا فندت جميع او بعض النظريات الميتافيزيقية ربما يُعتبر أهم إنجاز رائع لها. فاذا كان البديل الوحيد لمثل هذا الموقف هو ذلك الذي أقرّه بوذا و لاو تسيو، مع كل ما ينطوي عليه للعلوم الطبيعية وطبيعة الواقع ومعنى الحياة، سيكون من الصعب الجدال بان الميتافيزيقا موضوع غير مهم للدراسة. فقط لو رفضنا استنتاجاتها ستصبح الميتافيزيقا شكل من فوضى النظريات المتضادة التي لا يعمل اي منها، يُستخف بها من جانب الفيزياء ودراسات الوعي العلمية بسبب مراوغاتها اللامتناهية، وغياب اي طريقة لعمل القرارات ، بدلاً من ان تكون موضوعاً صريحاً كليا ينتسب للرياضيات التي تُستعمل لإثبات نتيجة متوقعة، وان جميع النظريات الميتافيزيقية عدا واحدة تؤدي الى تناقضات منطقية، وايضا الى الشيء غير المتوقع، وهو ان النظرية الوحيدة المستثناة هي "مذهب الوسط" في الفلسفة ذلك الشكل من التوافق العالمي الذي أجازته جميع المبادئ الرئيسية لمذاهب الحكمة.

...........................

Peter Jones 7 ابريل 2012

Philosophy pathways electronic journal, Issue 171

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 20/كانون الثاني/2013 - 8/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م