إن مزيداً من تعاون شيعة العراق على
البر والتقوى، سيمنح بلادهم قوة ومنعة وعزاً وسؤدداً وسلاماً
واستقراراً وعدلاً ورفاهاً، وهذا النعيم لو تحقق سوف لا ينعكس على جميع
العراقيين فقط، بل سيشمل المنطقة والعالم، فأي مسؤولية عظيمة أُكرموا
بها، وأي حساب سيُحاسبون عليها
تشهد التجمعات البشرية اختلافات شتى، فالاختلاف في الرؤى والأفكار
والأذواق من سنن الحياة، وقد اقتضت مشيئة الله أن يخلق الناس مختلفين،
وأن يكون الاختلاف من ثوابت النظام الكوني. يقول(عزوجل): (لكل جعلنا
منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما
آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه
تختلفون).
وفي حال صدق النيات ونبل الأهداف فإن من المفترض أن يكون الاختلاف
عاملاً مساعداً في التبصر بالأمور ومعرفة الحقائق. عموماً، تبقى
الاختلافات بين الفرقاء أمر طبيعي، متى ما دارت في إطار الحوار المسؤول،
ومتى ما حافظ المختلفون على سلامة المجتمع ومتطلبات المصلحة العامة،
لكن خروج المختلفين من ضوابط الدين والعقل قد تكون نتيجته الموت
والدمار، وهو ما يجري اليوم في بعض البلاد الإسلامية.
وإن خطورة الاختلاف تكمن حينما يتحول إلى صراع لا يبالي باستقرار
البلاد وأمن المجتمع، عندها يصبح الاختلاف (سلوكاً محرماً). وللأسف هذه
(الخلافات المحرمة) موجودة اليوم في المشهد العراقي (ومنه الساحة
الشيعية)، ففي الوقت الذي يعيش العالم الإسلامي خطر التكفير الملطخ
بالدماء، وأشباح الفتن السوداء، تتفاقم في المشهد العراقي خلافات ما
كان لها لتكون لولا استغراق بعض أطراف الاختلاف في مصالح شخصية أو
حزبية أو فئوية، إلى الحد الذي أوقعت الضرر في مصلحة الشعب والبلد،
وبالتالي، فإن مثل هذه الخلافات السلبية قد أساءت إلى الدين، وفي هذا
ذنب عظيم.
بنو الإنسان بعضهم من بعض، مثلهم كمثل الأعضاء في الشخص الواحد، لا
يستغني أحدها عن الآخر، كما لا غنى للإنسان إلا بها أجمع. فالأذن لا
تقوم مقام العين، والرجل لا تفعل ما تفعله اليد. وهذا يؤكد ضرورة
العلاقات الإنسانية بين الناس، وإن كانت بينهم اختلافات بالدين والمذهب
والقومية، وهذه العلاقات الإنسانية شرط بناء الأمم العظيمة والحضارات
الزاهرة، ويقول الإمام الشيرازي(قده): (لا غنى لأي فرد عن المشاركة مع
بني نوعه، هذا يزرع، وذاك يحصد، وأحدهم يخبز، ولا مفر للإنسان من
التعاون والتشارك والوئام مع الإنسان الآخر، وهذه القيم الإنسانية
السامية هي الأسس التي قامت عليها المدن، وازدهرت الحضارات). ولقد حثت
الأديان على توطيد العلاقات بين البشر جميعاً، ويكون ذلك من خلال
احترام معتقدات الآخرين وأموالهم وأعراضهم، بل السعي إلى منفعتهم وقضاء
حوائجهم، يقول المرجع الشيرازي(دام ظله): (إيصال النفع للعباد لا يختص
بالأخوة والأقارب، بل ينبغي أن يشمل الأباعد والأعداء).
يؤكد علماء النفس والاجتماع أن الإنسان الذي له من يتعاون معه،
ويشاركه في مواجهة الصعوبات وتحقيق النجاحات، يشعر بقوة مضافة، واشتداد
في عزيمته، فيكون أقرب إلى الثبات والنصر والنجاح. وتتجلى تلك الإضاءات
الإنسانية في طلب نبي الله موسى(عليه السلام) من الله(عزوجل) مشاركة
أخيه هارون في الدعوة (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ
أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). حيث علم أن به
شد الأزر وتمام الأمر. وقد اهتم الإسلام بالألفة والوحدة أكبر اهتمام،
يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (من حب الرجل دينه، حبه أخاه). وحين
قدم النبي الأكرم(ص) إلى المدينة آخى بين أصحابه، وكانت هذه أول طلائع
النصر والقوة. وأمر القرآن المسلمين بالوحدة فقال: (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً). (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ). وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (لا
يرجع صاحب المسجد بأقل من إحدى ثلاث خصال: إما دعاء يدعو به يدخله الله
به الجنة، وإما دعاء يدعو به فيصرف الله عنه به بلاء الدنيا، وإما أخ
يستفيده في الله). ثم قال(عليه السلام): قال رسول الله(صلى الله عليه
وآله): (ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام مثل أخ يستفيده في
الله). ويقول الإمام الشيرازي(قده): (أخوّة رجل لآخر، في نظر نبي
الإسلام، يتلو الإسلام في الأهمية، فالإسلام صلاح للدين والدنيا، والأخ
صلاح للدين والدنيا، لكن على شرط أن يكون: (في الله) للصلاح والخير، لا
في الشيطان، للشر والعصيان).
إن الأخوّة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، فهي أساس الألفة
والاتحاد، وهكذا ينظر الإسلام إلى الأخ الصالح، فقد جعل ثواباً عظيماً
لمن استفاد أخاً. يقول الإمام الرضا(عليه السلام): (من استفاد أخاً في
الله، فقد استفاد بيتاً في الجنة). والأخوّة الإيمانية لا تقتصر على
المجاملات الشكلية والأخلاقيات العامة، بل هي علاقة إنسانية نبيلة،
تجعل الأخوين كالجسد الواحد، يقول الإمام الشيرازي(قده): (ليست الأخوة
باللسان فحسب، إنها أضعف المراتب، والإسلام لا يرضى بها، وإنما يريد
الأخوّة العميقة، فالأخوان كأعضاء الجسد الواحد، يرتبط أحدها بالآخر
بعروق وأعصاب ولحم ودم). وقال الإمام الصادق(عليه السلام): (المؤمنون
في تبارهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى تداعى له سائره
بالسهر والحمى). بل وأبعد من ذلك، يقول الإمام الصادق(عليه السلام): (لا
والله لا يكون المؤمن مؤمناً أبداً، حتى يكون لأخيه مثل الجسد، إذا ضرب
عليه عرق واحد، تداعت له سائر عروقه). ويقول(عليه السلام): (إذا اشتكى
تداعى له سائره بالسهر والحمى). أي لا يسوؤه، فحسب، بل يتداعى بالسهر
والحمى، فإن كل فرد عضو في المجتمع، والمجتمع يفقد من ميزاته إذا خسر
عضواً أو أصابه مرض.
إن التفرق والتباعد، ودوام الاختلافات (خاصة بين قادة الدولة
وساستها)، يجعل مصالح الناس في طي الإهمال والنسيان، ويشتت الجهود
ويضيع الطاقات، وإن من المؤسف جداً، إنه حتى عمليات الإرهاب التكفيري
التي أوقعت عشرات آلاف الشهداء والجرحى، لم تقرّب وجهات نظر المختلفين،
ولم تقوض المسافة بين المتباعدين، وكان من تداعيات هذا الإصرار على
الذنب، تقديم خسائر أكثر في الدماء والأموال، وبالتأكيد أنه فلولا هذه
الخلافات لكانت الخسائر أقل بكثير، فإن الخلافات التي تفسد علاقات
الأخوّة بين السياسيين، وتمنع من تعاونهم من أجل توفير حياة هانئة
للناس، هي في الوقت نفسه، تحرّض الأعداء على الفتك والقتل والذبح، وهو
ما حصل، وما زال يحصل، الأمر الذي يستوجب الرجوع إلى الله(عزوجل)،
والسعي إلى قمع هوى النفس، وترسيخ ثقافة الأخوّة والتعاون والتسامح
والتراحم والتآلف بين الجميع.
يقول المرجع الشيرازي(دام ظله): (روح الودّ والأخوّة الصادقة
مطلوبة، وإن بعدت المسافات الفكرية والنفسية والاجتماعية، فليس من
الضرورة أن يكون الشخصان أو الحزبان أو الطرفان متفقين في كل شيء، فربّ
أمور كثيرة يختلفان فيها، لكن مع ذلك، فإن الدين والعقل يدعوان إلى
تواضع كل طرف للآخر، وأن يوادّه ويخلصه القول، وإنّ تبنّى ثقافة
التعايش، من أهم الأمور التي تمس الحاجة إليها اليوم لعموم المسلمين،
لا سيما في العراق الجريح والمظلوم، الذي عاش عقوداً سوداء بما للكلمة
من معنى، في الوقت الذي يملك العراق كل مقومات الرفاه، وفوق كل ذلك
يحتضن مراقد أهل البيت(عليهم السلام) التي هي مهوى قلوب العالم، لا
الشيعة فقط، ولا المسلمين فقط، بل هي مهوى قلب الإنسان بما هو إنسان).
* أجوبة المسائل الشرعية
http://alshirazi.com/rflo/ajowbeh/ajowbeh.htm |