سورنة العراق، بعد عرقنة سوريا

عريب الرنتاوي

مع اندلاع الأزمة الوطنية العامة في سوريا، حذرنا كما حذر غيرنا، من المخاطر الجمّة الناجمة عن "عرقنة" سوريا، باعتبار ذلك أسوأ سيناريو يمكن أن تؤول إليه سوريا.. اليوم، يتعين علينا التحذير من مخاطر وتداعيات "سورنة" العراق، باعتبار أن ما يجري في سوريا من حروب، فيها وعليها، بات أسوأ بكثير مما جرى في العراق من جهة، ولأن العراق الذي كدنا نعتقد بأنه غادر مربع الحرب الأهلية المقيت، يعود اليوم للوقوف من جديد على حافتها المُدمرة من جهة ثانية.

قبل سنوات، شكا لبنانيون من نظرية "تلازم المسارين" السوري واللبناني، حرباً وسلماً.. مصدر الشكوى أن هذا التلازم، يُفرض عليهم، وبغير إرادتهم، من قبل النظام في دمشق وحلفائه في لبنان.. هذه النظرية فقدت بعض مبررات ومصادر القلق والتحسب المتأتيّة عنها بعيد الانسحاب السوري من لبنان، وبالأخص في السنتين الأخيرتين.. لكن تلازماً آخر قد حصل "موضوعياً"، ومن دون إملاء من أحد على أحد، ولكن بين المسارين السوري والعراقي هذه المرة.. فما يحدث في طول العراق وعرضه، وإن كانت له بواعث وأسباب داخلية، إلا أنه بات يرتبط أشد الارتباط بمسارات الأزمة السورية وتحولاتها.. والمؤسف أن كلا المسارين المذكورين، بات مرتبطاً أشد الإرتباط بالصراع الأوسع في المنطقة: بين إيران وحلفائها من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل ومروحة واسعة ومتفاوتة (من حيث درجة العداء وحدته) من الدول العربية (السعودية بخاصة) والإقليمية (تركيا بخاصة).

ولأنه لا حل وشيكاً للأزمة السورية على ما يبدو، فإن الأزمة العراقية مرشحة للديمومة والتصاعد على الإيقاع الإقليمي والدولي ذاته.. فالأرجح أن حال العراق سيظل على هذا الحال من انعدام اليقين والاضطراب السياسي المفضي للتصعيد الأمني، والمفتوح على احتمالات مواجهات عسكرية داخلية، طالما ظل الجرح السوري نازفاً.

في سوريا، وصلت الأزمة إلى ذورة جديدة من التصعيد (ليست آخر أو أعلى ذروة بالطبع).. ميدانياً من خلال اشتداد حدة المعارك واستمرار القتل المجاني المتبادل.. وسياسياً من خلال اصطدام مهمة الأخضر الإبراهيمي، أو "السائح المُعمر" على حد وصف الإعلام الرسمي السوري للرجل، اصطدام هذه المهمة بجدار سميك، وربما يجد الموفد الدولي نفسه مضطراً لتقديم "خطبة الوداع" إلى مجلس الأمن، قبل أن يرد "العهدة" إلى أصحابها، فبعد التراشق بين الموفد والنظام، وبعد الفشل في تجسير الفجوة بين موسكو وواشنطن، يبدو أن حظوظ الإبراهيمي في الاستمرار بمهمته، باتت محدودةً للغاية.

أما في العراق، فثمة حلف قوي (سنّي – كردي) مدعوم من السعودية وقطر وتركيا، ويلقى عطفاً من قبل بعض الدوائر والعواصم الغربية، يريد إطاحة المالكي بأي ثمن.. اليوم اكتشفوا أن الرجل مشروع ديكتاتور مذهبي، لتفادي القول الصريح بأنهم يضيّقون الخناق على المالكي للوصول إلى الأسد، أو للإطاحة بالرجلين معاً، وبضربة حجر واحد.. هنا "التلازم" يطال مستقبل الرجلين كذلك، وليس مستقبل الأزمتين فحسب، طالما أن الأزمة هنا وهناك، باتت تُختصر في رجل واحد.

المايسترو الإيراني، يراقب المشهد عن كثب، هو يعرف أنه المقصود بالحرب على الأسد والمالكي معاً، وأنه سيؤكل يوم أكل "الثوران" الأبيض والأسود، في دمشق وبغداد.. بيد أن "الإيراني" ما اعتاد يوماً، الاكتفاء بدور المراقب.. هو يتحرك بقوة على المسارين المتلازمين، يدعم حليفه المحاصر في قصر المهاجرين، ويحشد حليفه المحشور في المنطقة الخضراء.. ولدى اللاعب الإيراني الكثير من أوراق القوة التي سيلوح بها أو سيستخدمها، من أجل درء النار عن "كرم العنب".

ثمة في طهران، وفي دمشق وبغداد كذلك، من ينتظر بفارغ الصبر، إنتهاء إدارة أوباما الثانية من استكمال نصابها ومباشرة مهام طاقمها الجديد، والرهان ينعقد في كثير من الأوساط، على المقاربة الجديدة لواشنطن.. طهران تأمل بحوار حول "رزمة شاملة" تطاول جميع الملفات العالقة بينها وبين الغرب، من "النووي" مروراً بالمالكي وغيره وانتهاء بالأسد.. فيما واشنطن، تفضل اتباع سياسة "فصل المسارات"، التي ستمكنها من تحقيق مكاسب أكبر في أية "مقايضة إقليمية" تجريها مع طهران.. لكننا لا نعرف الآن، وقد لا نعرف قريباً، السلوك الذي سنتتهجه واشنطن في قادمات الأيام.

نحن نعرف أن أوباما الخارج من حربين كونيتين يجرجر أذيال خيبة جورج بوش الإبن، لا يريد الدخول في حرب ثالثة.. نعرف أن عيني الرجل متسمرتان على مبلع 700 مليار دولار نفقات دفاعية، يريد تقليصها لضخ دماء جديدة في عروق الاقتصاد الأمريكي المتيبسة.. لكننا لا نعرف إلى أي مدى سيصل مع كيري وهايغل، في سعية لاحتواء الأزمات الدولية المتفجرة، وفي مقدمتها "قوس الأزمات" الممتد من إيران مرورا بالخليج الأعلى والعراق وصولاً إلى الساحل الشرقي للبحر المتوسط.. ونعرف أيضاً أن دماء غزيرة وعزيزة، ستُراق في كل من سوريا والعراق قبل أن تنضج شروط "الصفقة الشاملة" أو "الصفقات المُجزّأة".. ألم يدفع اللبنانيون والسوريون ثمن تلازم مساريهما من قبل؟.. وهل ثمة من سبب يدعونا للتفاؤل بأن "تلازم المسارين السورين والعراقي" سيمر من دون ثمة باهظ من بعد؟

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/كانون الثاني/2013 - 5/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م