شارع المتنبي... طريق تراثي من الثقافة الى السياسة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: يفتخر العراقيون بالشاعر المتنبي، وشارعه، اي انهم يحتفون بالشعر، كل الشعر، وبالديوان، اي ديوان يضم بين صفحاته شعرا لشاعر آخر. الوصول الى المتنبي الشارع سهل ويسير عكس الوصول الى الشاعر المتنبي، فهو يحتاج الى ذخيرة لغوية وادبية وذائقة للاقتراب منه والدخول في عوالمه، قبل الوصول الى المتنبي، شارعا وباعة كتب، تمر على الشاعر الرصافي، ساحة وتمثالا، والفروق بينهما واضحة وجلية، فروق مكانية وزمانية وثقافية.

الرصافي بموقعه الجغرافي، يمثل الهامش العراقي بما يحيط به من عربات للحمالين واكشاك وجنابر لمختلف السلع، وهو يستقبل القادمين نحوه بمؤخرته، كأنه غير عابيء بما جاء او بمن غادر، وهو ايضا يتوجه ببصره نحو الجسر الواصل الى الضفة الاخرى من دجلة،  ضفة الكرخ وهو تستطيع النظر اليه وانت قادم من اربع جهات، وكل جهة لها دلالتها الثقافية او الاقتصادية تبعا للناظر القادم منها.

المتنبي، تدخل الى شارعه اولا، ولاتصل اليه إلا بعد المرور ببسطيات الكتب والمكتبات، بالالاف العناوين..يصادفك عشرات المثقفين والمبدعين والكتاب والشعراء، وحين تصل اليه يستقبلك من جهة واحدة، هي الى النظرة الجانبية منه اقرب من استدارة كاملة، وهو ايضا يطل على دجلة النهر والجغرافيا والتاريخ.

المتنبي بموقعه الجغرافي، وبموقعه الشعري ممثلا للنخبة، ولهذا ارتضت النخبة الثقافية العراقية ان يقترن حراكها الاسبوعي كل جمعة باسم هذا الشاعر، رغم بعد العهد عنه، فهو شاعر ينتمي الى الحقبة الشعرية العباسية، والرصافي الى الحقبة الشعرية الحديثة.

واذا اردنا ذكر مثل اخر (للهامشية) التي يمثلها الرصافي نجد المقهى الذي يحمل اسمه يقع في منطقة الميدان، مثلما يقع مقهى الزهاوي ايضا، والميدان منطقة شعبية قديمة في بغداد.. وهي تمثل الهامش في ترتيب مناطق بغدادية اخرى.

واذا اردنا التوسع اكثر، ودخلنا الى حقل (الهوية) وصور تبلورها وأنتشار رموزها، ووفقا لهذه المعطيات التي يمكن مشاهدتها على ارض الواقع، نجد التأثير الشيعي الطاغي في الثقافة العراقية، التي يجسدها رمز المثقفين العراقيين ومكان تجمعهم وحراكهم الاسبوعي.

فعلى سبيل المثال، نجد القرن التاسع عشر يبرز اسم النجف كحاضنة شعرية، والشعراء امثال الصافي النجفي وعلي الشرقي والحبوبي يضاف اليهم الجواهري الذي عاصرهم في انتقالهم الى القرن العشرين هي اسماء ذات انتماءات شيعية، بالمعنى المذهبي، بغض النظر عن سلوكها الديني.

ويمكن ذكر ملاحظة، ويمكن التاكد منها من قبل الباحثين في الادب العربي قديمه وحديثه، ان الكثير من الكتاب والشعراء والادباء من غير الشيعة، قد استلهموا الرموز الشيعية في نتاجاتهم الابداعية رغم اختلاف مواقعهم في البعد او القرب من المسألة المذهبية، على العكس من الكتاب والادباء والشعراء الشيعة، ايضا رغم اختلاف تلك المواقع قربا او بعدا من المسألة المذهبية، لم يستلهموا رمزا سنيا من التاريخ الاسلامي على الرغم من قوة تلك الرموز وحضورها في المدونات التاريخية.

المتنبي، شاعرا وشارعا، يشي بهذه الثنائية التي حكمت الاجتماع العراقي، واقصد بها ثنائية الثقافة والسياسة.

فالشيعة لهم الثقافة، والسنة لهم السلطة والحكم، الثقافة حلم وطموح للتغيير، والسياسة تأخذ على تحويل الحلم والطموح الى فعل يتجسد على ارض الواقع. فالسيف اصدق انباءا من الكتب، الثقافة العربية، والثقافة العراقية جزء منها، ثقافة خطابات عالية وضجيج.. وليس اقدر من الشاعر على الصراخ والضجيج بحنجرته وحناجر الاخرين التي تردد ما سبق ان قاله.

وهو حين الجد تقتله ابيات شعر قالها دون ان يقصد منها جدية القول، فالخيل والليل والبيداء، قتلت المتنبي، الثقافة دورها ان تعارض كل شيء تراه باقيا على حاله، والبحث عن بدائل لها وطرحها كجديد يجب الاخذ به.

السياسة لا تلتفت الى ماتقوله الثقافة.. فهي في الحالة العراقية، مثقف شيعي وسياسي سني، المثقف العراقي مصاب بمرض السياسة، تبعا لتلك الثنائية، وهي ثنائية لا تجد لها تمظهرا في واقعنا الحالي، فالمثقف على اختلاف توجهاته لا يمتلك تاثيرا فاعلا في السياسة، فهو لا يستطيع ان يقف في وجه من بيده السلطة، واذا وقف، فانه يقف مواربا، خائفا، مهزوما، حتى قبل المواجهة، المرض ورثناه من تلك الحقب السابقة، وهو ممتد حتى بعد تبدل الصورة، واختلال المعادلة التي حكمت تلك الثنائية.. فأصبحت الان مثقف شيعي وسلطة شيعية..وانتقل المرض الى المثقف السني، في مواجهته لتلك السلطة الجديدة، التي لم يعهد لها حضور في ارثه التاريخي على مدى اربعة عشر قرنا، ومثلما المثقف الشيعي كان غير فاعل ازاء السلطة السنية، اصبح المثقف السني غير فاعل ازاء السلطة الشيعية، رغم تبدل صاحب الضجيج من الشاعر الى الاعلامي.

فالاعلامي في هذا الزمن هو وريث الشاعر العربي.. صراخ وضجيج، بين خبر عاجل، وانتهى وقت البرنامج، واصبح الاعلامي حاليا صاحب سلطة تتفوق على الشاعر. فصوته ينتقل اسرع، ومثلها كلماته تغادر الاذهان بسرعة فلا تقيم بها الا بمقدار وقت الظهور والحضور.على عكس الشاعر الذي بقيت كلماته رغم مرور سنوات طويلة عليها، لا دور للمثقف بشقيه الشيعي والسني، في السياسة كممارسة قادرة على الفعل والتغيير، فالصراخ لا يعود بغير الصدى.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 16/كانون الثاني/2013 - 4/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م