المثقف وتسطيح الوعي الجمعي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: من الاشكاليات التي تواجه الثقافة العراقية، وربما العربية على وجه العموم، أن المثقف لا يعي بالضبط ما هو دوره ازاء المجتمع، وعندما يعيه ويعرفه ويتعلمهُ من تجارب الآخرين او ثقافاتهم وافكارهم ويؤمن بما يقرأ أو يرى او يستمع، فإنه يبقى مصرا على القيام بدوره المريب في تسطيح الوعي الجمعي، من اجل تحقيق منافع ومصالح ذاتية، لا ترقى قط الى الدور الاساسي والكبير للمثقف في تطوير وتقويم وتعميق وتوجيه الوعي المجتمعي.

والأمثلة على تهرّب المثقف من القيام بدوره الحقيقي الصحيح، كثيرة وملموسة تماما، لأن واقعنا الثقافي يضج بمثل هؤلاء المثقفين اللذين لا يقيمون وزنا لدورهم التثقيفي، ولا تعنيهم أهمية هذا الدور في رفع مستوى وعي الناس، بل ما يهمهم في الغالب مصالح مادية منفعية سرعان ما تؤول الى الزوال، ومثالنا على ذلك كثير من المثقفين الذين ينساقون بسرعة مع ثقافة الشعارات والخطابات النارية المقصودة، مكن اجل الاستفزاز ومضاعفة مستويات التعصب والاكراة والصراع السلبي، على حساب اشاعة ثقافة عامة ذات طابع وطني انساني خالص، تضم الجميع بين مضامينها الراقية، وتذوب فيها الفوراق والخلافات، وتحفظ الاختلافات الفكرية وسواها، وتحمي الوعي الجمعي والمجتمعي من الانحراف الى مهاوي التعصف والقطيعة والتضارب الحاد الذي يحيل الآراء الى ساحة الصراعات الفعلية.

لذا فإن المطلوب من المثقف أن يبتعد عن تسطيح الوعي المجتمعي، وأن يحصّن نفسه وفكره وآراءه من المغالاة في الطرح، ومن التسرع والاندفاع مع موجات التعصب، ولا ينبغي ان ينساق المثقف في اي حال من الاحوال مع ثقافة الشعارات التي تنتهجها في الغالب جهات حكومية او سياسية حزبية تغالي في حصر نفسها بأفق قصير يخص الذات والرؤى قصيرة النظر، ولابد أن يجعل المثقف من نفسه النموذج الارقى والمثال الذي يمتثل به الآخر الاقل وعيا، وفي هذه الحالة سيكون المثقف هو المتصدر لقيادة الآخر وفقا لوعيه المتقدم.

وكلنا نتفق على أن ثقافة السلطة تحاول ان تستميل المثقف الى جانبها بكل السبل والوسائل المتاحة لها، لا سيما الجانب المادي الذي يتعلق باغراء المثقف بالمال وما شابه، او القيام بالعكس عندما تحاول السلطة الغاشمة تضييق الخناق على المثقف وتحاصره وتلاحقه وتضغط عليه حتى في مصدر رزقه لكي يرضخ لثقافة السلطة ويصبح احد المروجين لها، وكلنا عشنا مثل هذه الظروف القاسية في ظل الانظمة العسكرية الحزبية الفردية المستبدة، حيث يتم استغلال المثقف أبشع استغلال من اجل اجباره على التطبيل والترويج للسلطة السياسية، ويقوم بدور مريب في تسطيح وعي المجتمع ويهبط به الى ادنى المستويات، بدلا من ان يغنيه ويعمقه ويحفزه على الابداع والتطور ومعرفة الحقوق والحريات والتمسك بها بها والمناداة والمطالبة بها ايضا، وهذه الظاهرة (ظاهرة إجبار المثقف بالتجويع او الترغيب) عاشها وعانى منها معظم مثقفو الدول المتخلفة ومعظم الدول العربية ومن بينها العراق، حيث يوضع المثقف دائما بين سندان الجوع ومطرقة السلطة السياسية المتزمتة.

لذا في ظل ثقافتنا الراهنة ومساحتها المتاحة، وفي ظل الانفتاح السياسي والاعلامي، والاحتكاك بقوة مع الثقافات الاخرى من خلال مزايا وسائل العرض والتواصل الاعلامي والاجتماعي مثل مواقع الفيس بوك وسواها، مطلوب من المثقف أن يستثمر هذه المزايا من اجل العودة الى الدور المميز للمثقف والذي يبتعد عن السطحية والانخراط مع صوت القطيع بدلا من قيادته، وعلى المثقف أن يستقل بفكره وآرائه عن الافكار التي تروج للسلطة، وأن يسهم بقوة في تعميق وتطوير الوعي الجمعي، الذي يهدف الى توعية السواد الاعظم من المجتمع لكي تفهم الغالبية العظمى حقوقها وتحمي حرياتها المدنية والفردية كافة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/كانون الثاني/2013 - 3/ربيع الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م