الاستفتاء وما بعده.. حسابات الربح والخسارة

عريب الرنتاوي

في حديثٍ لمجلة "تايم"، عبّر الرئيس المصري محمد مرسي عن اعتقاده بأن 90 بالمائة من الشعب المصري، يدعمونه ويؤيدون قراراته، بما فيها إعلانه الدستوري المثير للجدل.. جاء ذلك غداة إصدار الإعلان وعشية الاستفتاء على الدستور المصري الجديد.

لكن نتائج الاستفتاء الأخير، جاءت بخلاف توقعات الرئيس ومزاعمه.. نسبة الإقبال على التصويت وفقاً للنتائج الأولية، لا تصل إلى 33 بالمائة من أصحاب الحق بالتصويت (من أصل خمسين مليون صاحب حق، توجه 16 مليون واحدٍ منهم فقط إلى صناديق الاقتراع).. أقل من ثلثي المقترعين، قالوا نعم، وأكثر من الثلث، قال لا للدستور الجديد.. بلغة الأرقام، فإن عشرة ملايين مصري بالغ عاقل وراشد، عبّروا عن تأييدهم لمرسي ودستوره، أي ما لا يزيد عن 20 بالمائة من أصحاب الحق في الاقتراع فقط... هؤلاء في نظر مرسي، هم "التسعين بالمائة" الذين زعم بأنهم يؤيدون قراراته.

سنضع جانباً مزاعم المعارضة حول "التزوير" الذي شاب العملية الانتخابية وميّزها.. ولن نصغ للصديق جورج اسحق وهو يؤكد أن ثمة من منع أقباط الصعيد من الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء.. وسندع عنا وعنكم، سؤال: لماذا صوت المؤيدون بنعم للدستور الجديد، وما هي دوافعهم التصويتية، وما إذا كانوا من مؤيدي مرسي أم أنهم فعلوا ذلك لأسباب أخرى، منها "التخويف من اقتراف المعصية" "والرغبة في استرداد "الاستقرار الموعود".. وسنكتفي بالقول، أن زمن الادعاءات قد ولّى، وأن نصر الإخوان في "غزوة الاستفتاء" جاء بطعم الهزيمة.

بين الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور، آثر تسعة ملايين مصري التزام بيوتهم.. في الأولى شارك 25 مليون ناخب، وفي الثانية شارك 16 مليون مقترع.. هؤلاء انضموا إلى ما يُسمى في مصر بـ"حزب الكنبة"، لقد سئموا العمل السياسي، وفقدوا الثقة بالثورة والتغيير، واجتاحتهم مشاعر القلق على مصير ثورة مُختطفة، ونظام قديم يُعاد انتاجه بلبوس جديد.. هنا تكمن الخسارة الكبرى، وعلى هذه الصخرة القاسية يجب أن تتحطم المكابرة والاستكبار الزائفين.

في لعبة الأرقام المُضللة، خرج علينا أنصار مرسي بجداول من "النسب المئوية" لا "الأرقام المطلقة" التي "تؤكد" تقدم شعبية مرسي وإخوان.. نظروا إلى "البسط" وتجاهلوا المقام في "رياضياتهم" البدائية الساذجة.. الاستفتاء نجح بنسبة "كذا" في هذه المحافظة، مسجلاً تقدما على نسبة المصوتين لمرسي في الانتخابات الرئاسية.. نسي هؤلاء أو تناسوا، أن "المقام" تغير كثيراً، بعد أن لجأ تسعة ملايين مصري لالتزام بيوتهم.. فأية مكابرة هذه، وهل من تضليل أكثر من هذا التضليل؟.

ولكي نظل في دائرة الانصاف وعدم التحامل، فقد "حاول" أذكياء المعارضة فعل الشيء ذاته.. والاعتماد على لغة النسب المئوية الميتة، من دون ملاحظة أن جماهير غفيرة قد غادرت الحقل العام، والتزمت بيوتها، منذ أن بدأت الثورة المصرية تأكل أبناءها.

بمعزل عن لغة الأرقام، فإن من الحمق اعتبار نتائج الاستفتاء انتصاراً لطرف وهزيمة لآخر.. وتتكرس هذه الحقيقة إن غادرنا مربع الرياضيات إلى ملعب السياسة، وفي الحقل السياسي ثمة ما يؤكد أن مرسي والإخوان، هما الخاسران الكبيران في هذه المعركة.. لقد زرعا بذرة انقسام داخل المجتمع المصري، يصعب إطفاء نتائجها وتداعياتها، لقد فقد الرئيس معظم أركان نظامه ولمّا ينقض سوى أشهر معدودات على تعيينهم، وها هو يخوض اليوم، معركة شرسة ضد القضاء والإعلام والمجتمع المدني والمثقفين والفنانين، فضلاً عن خصومه السياسيين، في ظل مناخات من التدهور الاقتصادي البالغ ضفاف الانهيار والإفلاس، وفي مناخات إقليمية شديدة الصعوبة والتعقيد.

ثم جاء "المرشد" ليقضي على البقية الباقية من حياد المؤسسات المصرية الوطنية المستقرة، كالجيش على سبيل المثال، الذي أسبغ بديع على قيادته الفساد وعلى جنوده وضباطه "فضيلة السمع والطاعة".. ولا ندري لمن يتعين أن يكون "السمع والطاعة"؟.. لقيادة الجيش، لرئيس الجمهورية أم لمرشد الجماعة... وأحسب أن تصريحاً من هذا النوع، لا ينهض فقط، كعنصر إدانة للجماعة التي ائتلفت مع الجيش وتواطأت مع مجلسه العسكري في مراحل الثورة المختلفة، بل وسيتسبب باستئناف الصراع بين الجيش والجماعة، والتعجيل في استدراج الأول للدخول غير المرغوب في معترك السياسة.. وأحسب، كما يحسب كثيرون، أن القرارات "السيادية" التي صدرت عن قيادة الجيش المُشددة على منع تملك الإجانب في سيناء وعدم جواز التصرف بالأراضي والعقارات على امتداد الحدود المصرية مع فلسطين التاريخية، وبعمق خمسة كيلومترات، هي أول احتكاك سياسي بين الجيش من جهة والرئيس والجماعة من جهة أخرى، وسيكشف هذا القرار بخلفياته المعروفة للقاصي والداني، الكثير من الفصول الغامضة في سلوك الجماعة، وتوجهاتها المستقبلية.

أياً يكن من أمر، مصر ليست بحاجة اليوم لمن يطلق صيحات النصر (على مين)، مصر بحاجة لمن يجسر بين أبنائها، ويعيد الاعتبار للحور والتوافق بين مكونات مجتمعها وثورتها، وقيادة مرحلة الانتقال الصعبة التي تمر بها، وبأقل قدر من الخسائر.. مصر بحاجة لمن يجمع شتاتها، لا إلى من يمزقها شيعاً وقبائل متناحرة.. فهل يتعلم مرسي والإخوان الدرس، أم أن شهيتهم المفتوحة للسلطة والتفرد والهيمنة، سوف تُعميهم على رؤية "الصورة الأكبر"، فيَغرقون ويُغرفون مصر و"إخوانهم في الدول العربية" الذين يدفعون اليوم، أبهظ الأثمان عن الأخطاء والخطايا التي قارفها مرسي وجماعته، في زمن قياسي، استحق التسجيل في موسوعة غينيس الشهيرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 27/كانون الأول/2012 - 13/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م