الفقر والحقوق والحريات... عن التضامن الانساني

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز، أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع.. أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى.. الامام علي بن ابي طالب (ع).

تشكل الازمات العالمية المالية منها والنزاعات المستمرة في اكثر من بقعة من هذا العالم الفسيح فرصة للتذكير بالكثير من قيم التضامن والتكافل بين البشر.. ولعل مشكلة الفقر وما يتبعها من افات هي واحدة من تلك المشاكل التي تستدعي تظافر الجهود الدولية للمساهمة ولو في التقليل من اثارها المدمرة على الملايين من الناس.

مشكلة الفقر دائما ما اثارت قلق المجتمع الدولي من تزايد أعداد من يعيشون في فقر مدقع في دول عديدة، وهم في أغلبهم من النساء والأطفال الذين يشكلون الفئات الأكثر تضرراً خاصة في البلدان الأقل نمواً وفي أفريقيا جنوب الصحراء الغربية، وأن غالبية النساء الفقيرات يعشن في المناطق الريفية ويعتمدن على زراعة الكفاف.

ففي جميع انحاء العالم يوجد مليار ومائتي فقير وفقيرة يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، وفي الدول العربية تشكل النساء ما نسبته 28 بالمئة من القوى العاملة، وتقل أجورهن على المستوى العالمي بنسبة 17 بالمئة عن الأجور التي يتلقاها الرجال، وفي بعض المناطق تشكل النساء العاملات ما نسبته 70 بالمئة من العمل في الزراعة ينتجن 90 بالمئة من الغذاء. وفي أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا نجد من بين كل عشر عاملات أن هناك ثماني عاملات يعشن تحت خطر فقدان وظائفهن بسبب الأزمات الاقتصادية، وبسبب الفقر وعدم وجود عناية طبية أو تغذية تموت امرأة واحدة أثناء الولادة كل دقيقة.

حددت الجمعية العامة، في قرارها 209/60 التضامن باعتباره أحد القيم الأساسية والعالمية التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات بين الشعوب في القرن الحادي والعشرين، وتقرر، في هذا الصدد، أن تعلن 20 كانون الأول/ديسمبر من كل عام يوما دوليا للتضامن الإنساني.

و يُعرّف التضامن في إعلان الألفية بأنه أحد القيم الأساسية للعلاقات الدولية في القرن 21، حيث يستحق الذين يعانون (ومن لم يستفيدوا كثيرا من العولمة) المساعدة والعون ممن استفادوا كثيرا منها. وبناء على ذلك، يغدو تعزيز التضامن الدولي، في سياق العولمة وتحدي تزايد التفاوت، أمرا لا غنى عنه.

التضامن الانساني الذي جاء في اطار عمل الأمم المتحدة الذي تضمن تعزيز السلام، وحقوق الإنسان، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية على فرضية أساسية للوحدة والانسجام كما عُبّر عن ذلك في مفهوم الأمن الجماعي الذي يستند إلى التضامن بين الشعوب وحل الأزمات التي تتعلق بالطابع الانساني للفرد.. تعني عبارة التضامن في دلالتها العامة توثيق عرى التعاون والتآلف والتآزر بين الناس، سواء داخل المنظومة الأسرية الضيقة، أو داخل كيان قومي أو وطني، أو في إطار العلاقة الإنسانية العامة.

ويمكن أن نميز بين أربعة مستويات من التضامن حددها علماء الاجتماع وفصلوا القول فيها:

- التضامن الطبيعي أو الميكانيكي الناتج عن مفعول الغريزة، حيث يتساوى الإنسان والحيوان في لحمة الائتلاف والالتحام بين أفراد الأسرة البيولوجية.

- التضامن العضوي الناتج عن رابطة النسب والقرابة داخل التشكيلة العصبية، من قبائل و عشائر.

- التضامن الوظيفي، أي شكل التضامن الناتج عن الأواصر المتولدة عن مقتضيات الحراك الاقتصادي والحرفي للمجتمعات.

- التضامن الروحي (المعنوي)، أي الشكل الرفيع الأسمى من التضامن الناتج عن معاني ودلالات إنسانية مطلقة، سواء كانت دينية أي الاشتراك في المعتقدات والقيم والشعائر ضمن نطاق الأمة المكونة من مجموع المؤمنين، أو إيديولوجية سياسية تنطلق من اعتبارات إنسانية محضة.

تثبت الأرقام التي تنشرها المؤسسات التنموية الدولية أن الفارق بين العالم الصناعي المتقدم الذي لا يمثل أكثر من 15 % من سكان العالم يتضاعف كل خمس سنوات مع باقي سكان المعمورة في حين لا يزال أكثر من 60 % من بني البشر محرومين من أساسيات العيش الكريم من مياه صالحة للشرب وحق في التعلم والسكن اللائق والعلاج الصحي.

وتفيد الأرقام المنشورة أن هناك حوالي 800 مليون نسمة في العالم يعانون الجوع من بينهم 240 مليون شخصا في إفريقيا، في حين تقتل الأمراض المعدية والطفيلية في البلدان النامية 17 مليون شخصا سنويا لأسباب مرتبطة أساسا بسوء التغذية، بينما يوجد في هذه البلدان طبيب واحد لكل 7000 شخصا في مقابل طبيب واحد لـ 400 شخصا في الدول الصناعية. و يموت أكثر من 3 ملايين امرأة سنويا نتيجة لأسباب مرتبطة بالولادة.

وفي الوقت الذي لا يتجاوز حجم العون المقدم من الدول الصناعية المتطورة للبلدان النامية نسبة 75’1 بالمائة من إنفاقها على التسلح (حسب المؤشرات الأكثر تفاؤلا)، يشكل الفقر عاملا مؤججا لكل أشكال العنف والفتنة.

والتضامن الانساني ينطبق عليه مفهوم العدالة الاجتماعية والتي هي بحسب الرؤية القرآنية : رعاية الحقوق العامة للمجتمع والأفراد، وإعطاء كل فرد من أفراد المجتمع ما يستحقه من حقوق واستحقاقات، والتوزيع العادل للثروات بين الناس، والمساواة في الفرص، وتوفير الحاجات الرئيسة بشكل عادل، واحترام حقوق الإنسان المعنوية والمادية.

وقد ركَّز القرآن الكريم كثيراً على أهمية تطبيق العدالة في المجتمع، وبالرغم من أن القرآن الكريم قد أشار إلى مختلف أنواع العدالة فيما يقرب من ثلاثين مرة في القرآن الكريم؛ إلا أن العدالة الاجتماعية قد حظيت بأكثر من نصف الآيات التي أشارت إلى العدل، فالقرآن المجيد احتوى على ستة عشرة آية تختص بالعدالة الاجتماعية.

وهناك ثلاثة اركان اساسية للعدالة الاجتماعية وهي:

أولاً: المساواة بين الناس.

ثانياً: التوزيع العادل للثروات.

ثالثاً: احترام حقوق الإنسان.

يرى الامام الشيرازي الراحل في كتابه (الصياغة الجديدة لعالم الايمان والحرية والرفاه والسلام) ان (المجتمع السليم هو المجتمع المؤمن بالله واليوم الآخر، الخاضع لأحكام الله ورسوله، ويكون الجميع فيه أخوة متساويين أمام القانون، والكل حر مسؤول عن عمله، بدون إكراه فرديّ أو أجوائي، وله أجره بدون استغلال إنسان لإنسان آخر، ولكلّ حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية على قدم المساواة، وبقدر الكفاءات، ولو تعدى إنسان على إنسان عوقب المعتدي، فالإنسان محترم متخلّق بالفضيلة، وليس عبداً لشهوة أو مال أو جاه، وهو يملك كلّ آثاره مما حصّله، فهو مسلّط على نفسه وماله في إطار عدم الإضرار بالآخرين من جيله المعاصر والأجيال الآتية، وتُحفظ في مثل هذا المجتمع أواصر العائلة والأقرباء، والأصل في هذا المجتمع بالنسبة إلى كلّ فرد (البراءة) حتى تثبت إدانته).

وهو (قدس سره) في هذه العبارات قد جمع اركان العدالة الاجتماعية التي يدعو اليها الاسلام وتدعو لها ايضا وان بشكل متفاوت جميع العهود والمواثيق الدولية.

في الفكر السياسي للإمام الشيرازي، واعتمادا على المنطلقات الشرعية، فأن جميع مسلمي العالم سواسية لا فرق بين واحد وآخر، وهم لا يتفاضلون إلا بالتقوى. فالمساواة تفرض أن يكون الكل أخوة في ظل العدالة الاجتماعية الإسلامية. والميزة والتفاضل بمقدار الإخلاص والكفاءة في العمل المثمر البناء.

حيث يتحدد مفهوم المساواة اعتماداً على هذه المرتكزات:

1 ـ الأخوة الإسلامية.

2 ـ توفير العدالة الاجتماعية بالمنظور الإسلامي.

3 ـ لا فضل لفرد على آخر إلا بمقدار إخلاصه وكفاءته في أداء عمل مثمر بنّاء يخدم المجتمع الإسلامي، ويكون مبنيّاً على التقوى.

وهذا الفرد الذي يخدم أمته بإخلاص وكفاءة ستترقى علاقته بأمته إلى مستوى (الأخوة)، وهكذا يكون متساوياً مع غيره في ظلال العدالة الاجتماعية الإسلامية.

والفكر السياسي للامام الشيرازي يضع الإنسان بواجباته وحقوقه في دائرة المركز الشرعي نفسه. وذلك للأسباب التالية:

أ ـ ان العقيدة الإسلامية التي هي جوهر ذلك الفكر ونسغه الذي يمنحه دفء الحياة إنما هدفت إلى تحقيق سعادة الإنسان، وتوفير شروط العيش الهنيء، والحياة الكريمة له، تلازماً مع أدائه لواجباته تجاه نفسه ومجتمعه ووطنه، تحقيقاً لإرادة خالقه. وهذا ما فهمه المسلمون جميعاً ـ بكل وضوح وجلاء ـ من آيات القرآن الكريم، والإرث الحضاري للأمة الإسلامية.

ب ـ الطبيعة الإنسانية للفكر السياسي الشيرازي إذ يعتبر ان الإنسان هو وسيلة النهوض والغاية إسعاده في آن واحد وان كل التشريعات يجب أن تهدف إلى خدمة الإنسان وصوت إنسانيته وحقوقه في عالم من السلام والاطمئنان والسعادة.

ج. كون الفكر السياسي الشيرازي فكراً واقعياً يعيش ضمن إطار التاريخ الحضاري للبلاد الإسلامية، ومادام ضمن إطار التاريخ فلابد له أن يرتبط بالإنسان وتطلعاته نحو غد أفضل.

ويؤكد الفكر السياسي الشيرازي على هذه الأسباب مجتمعة من غير فصل بين الحقوق والواجبات، بل انه يمنح الواجبات المترتبة على المواطنين جزءاً من حقوقهم على السلطة السياسية، بمعنى أنه يضع على عاتق السلطة السياسية مسؤولية توفير الأجواء الإيجابية البناءة لتطوير أبناء المجتمع المسلم ومساعدتهم على المزيد من البذل والعطاء عن طريق التحسين المستمر للأداء السياسي نفسه، سواء كان متصلاً بالسلطة السياسية كحكومة أو كمجلس استشاري او كنشاط اقتصادي، أو كمجلس شورى فقهاء وما إلى ذلك من مؤسسات إدارية تحدد الأزمان جدوى وجودها من عدمها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 23/كانون الأول/2012 - 9/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م