تاريخ الفلسفة السياسية من هيرودوتس حتى الحاضر

حاتم حميد محسن

 

من الصعب استعادة الحماس للسياسة وللسياسيين هذه الايام. في اوربا نرى السياسيين في حالة شلل تام أمام انخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة. وفي الولايات المتحدة يدفع السياسيون البلاد نحو الهاوية المالية التي صنعوها بايديهم. ربيع العالم العربي تحول سلفاً الى شتاء. جناح اليسار يشير الى ان الارثودكسية الليبرالية الصاعدة جلبت المشاكل ورائها. مع ذلك، هم غير قادرين لوحدهم على صياغة إجماع شعبي متزايد يكفي لإستبدالها.

لو نظرنا خارج الحدود التي نعيش فيها سنلاحظ مظاهر السخط وعدم الاستقرار تعم الحقول القاحلة للديمقراطية. الاحزاب السياسية والمشرعون ليسوا على وفاق تام. التحرر من الاوهام بشأن السياسيين والسياسة يكتسح العالم مندفعاً بتأثير عوامل الفساد واستغلال السلطة. الفجوة تتسع بين الاغنياء والفقراء، بين اصحاب السلطة والضعفاء. الاغنياء يزدادون ثراءً ومواطنو الطبقة الوسطى خائفون من المستقبل.

لو سألنا مواطني اليونان واسبانيا والبرتغال عن رأيهم في الديمقراطية: الغالبية سيقولون انها مثال جيد يشعرنا بالفساد وبالتمزق الفعلي. الجماعات الاثنية في الدول الديمقراطية تقول الشيء ذاته. بعض الديمقراطيات البرلمانية مثل هنغاريا واوكرانيا واسرائيل تتبلور فيها خيبة امل كبيرة من قيم الديمقراطية. في امريكا تبيّن استطلاعات الرأي ان اكثر من نصف الامريكيين يعتقدون ان ديمقراطيتهم الامبريالية في تآكل. العديد من المواطنين الامريكيين يتسائلون هل حلت الديمقراطية في العراق او افغانستان؟ وهل ستحل في مصر او سوريا؟

يؤكد (ريان) في كتابه الذي استغرق ثلاثة عقود من الزمن ان الافتراضات التي تكمن وراء النظريات السياسية هي في الواقع ميتافيزيقية بمقدار ما هي سياسية ، وفي معظم الحالات تكون رؤية المفكر السياسي ملتبسة وعويصة ان تجردت من الرؤية للانسان والطبيعة والله.احدى اهم مزايا العمل البارز لـ (Alan Ryan)(1) في التاريخ الجديد للفلسفة السياسية انه يحاول استعادة حماسنا للسياسة. مستر (ريان) خصص حياته لدراسة الافكار السياسية في جامعة اكسفورد ومن ثم في جامعة برنستن، وهو يذكّرنا ان السياسة هي حول قضايا فلسفية اصلية بدلا من ان تكون تسديد الضربات الموجعة واطلاق التسميات المشينة. كيف يمكن للشعوب ادارة شؤونها الجماعية دون التضحية بحق الفرد في النظام الجمعي؟ ما هي أسس سلطات الدولة على مواطنيها؟ هل يجب ان تكون تلك السلطات مطلقة ام مقيدة بحقوق الفرد وبالقواعد الدستورية؟

هذه المواضيع ناقشها الانسان منذ ايام افلاطون وارسطو وهي تهمنا لسببين بارزين. الاول هو اننا نستمر بالتفكير في الشؤون التطبيقية وفق الصيغ التي تركها لنا الاسلاف. الامريكيون والفرنسيون هم قادة العالم في هذا الميدان كونهم مهوسين بالثورة الامريكية والفرنسية. لكن البريطانيين ايضا يفكرون وفق دستور الحريات العظيم Magna Carta ، وشعوب المستوطنات تفكر ايضا في ضوء دساتيرها التأسيسية. صلة النسب تُعتبر هامة هنا.

كذلك من المهم كما يذكر مستر (راين)، "ان الكتّاب الذين ماتوا منذ وقت طويل عادة يتحدثون الينا بمزيد من العذوبة والمباشرة قياساً بالكتاب المعاصرين".

ان (جيمس ماديسون) لديه افضل نصيحة لليبراليي مصر الذين يريدون منع محمد مرسي من تحويل الديمقراطية الى دكتاتورية. (جون ستيوارت مل) طرح اقوى الحجج ضد (ميخائيل بلومبيرغ) و"الاستبداد الناعم" الذي تجسد في تعليماته الخاصة حول المشروبات الكحولية. (عمانوئيل كانط) طرح ايضا افضل الرؤى حول زواج المثليين لو اننا ابتعدنا عن الهراء. الاتجاه التاريخي للدكتور (ريان) يساعدنا للنظر في مشاكلنا من زوايا جديدة، وهو الافضل في تسخير أعمق المساهمات العقلية التي برزت عبر التاريخ واستثمارها في انتاج السياسات.

هؤلاء المفكرون السياسيون امتلكوا مزايا اضافية بكونهم شخصيات استثنائية. (توماس هوبز) وُلد اثناء عاصفة رعدية – يذكر"والدتي العزيزة انجبت توأماً انا والخوف"، وهو شيّد نظامه السياسي بالكامل على أساس من الخوف. اما (جان جاك روسو) فقد وضع أعلى المثل للانسانية لكنه ارسل خمسة اطفال الى دار رعاية اللقطاء (وحيث لا يبقى اكثر من 10% احياءاً). وبالنسبة الى (مل) فقد برز بمثابة ماكنة حساب نفعية، لكنه خصص سنواته الاخيرة لزوجته ومحبيه.

مستر(ريان) وضع كتابه (في السياسة) بجزء واحد. لكنه في الواقع ضم ثلاثة اجزاء. الاول هو دراسة النظرية السياسية من افلاطون وحتى ميكافيلي. كان (ريان) قد نجح بامتياز في دراسة افلاطون وارسطو لكنه كان بارعاً فقط في فكر القرون الوسطى. في الجزء الثاني يتناول القصة بدءً من (توماس هوبز) وحتى (كارل ماركس). كان (ريان) متمكناً خصيصا في هوبز الذي كان يتمتع معه في المبارزة، اما (مل) فكان يشعر معه بتعاطف واضح. الجزء الثالث من الكتاب يغطي مواضيع كبيرة من الفكر السياسي، مثل الديمقراطية وحقوق الانسان. انه ينطوي على مقالة حول القرن العشرين لكنه في الواقع يتمدد بحرية عبر العصور. هذا الجزء الاخير يستحق كثيرا من الانتظار.

ان الاتجاه الذي سلكه (ريان) في النظرية السياسية هو من الطراز القديم كلياً. في السنوات الاخيرة كان المؤرخون والمنظرون السياسيون منهمكين في تجاهل الفكر الاساسي الغربي – مذوبين المنظرين السياسيين الكبار في سياقاتهم الفكرية الواسعة او مكتشفين المفكرين الاصليين الاوائل في بقية انحاء العالم. هذا قاد الى نتائج مدهشة في الايدي الماهرة لـ (كونتن سكنر) و(جون بوكوك)، لكنه هدد ايضا في سلخ التقاليد العظيمة من عظمتها. ان (ريان) سعيد في إستعادة هذه العظمة. هو يتعامل مع هوبز ورفاقه كمفكرين يصارعهم فكرياً بدلا من ان يدرسهم كرموز تاريخية ضمن سياقات محددة. هو نادراً ما ينحرف بعيداً عن التقاليد الغربية، مشيراً الى ان الطبقة السياسية حول العالم تستمر بالتفكير حول السياسة بعبارات اخترعها الاغريق( الذين عاشوا في دول سكانها فقط بضعة الاف) وجرى تهذيبها وصقلها من جانب حفنة من المفكرين الاوربيين واحفادهم الامريكيين.

يذكر (ريان) ان "المتعة في قراءة مونتسكيو هي في تشجيع الذهن المتوثب المعبأ جيداً بالخيال ". والشيء ذاته يقال عن المتعة في قراءة هذا الكتاب. لم يكن مستر (ريان) مؤرخاً اخبارياً مثالياً. هو قام باجراءات تحريرية غريبة – على سبيل المثال، هو يحلل ميكافيلي بعد الاصلاح وليس قبله. هو يرتكب الإثم في كل من تبنّي المهمة واسقاطها. هو يشير عدة مرات الى الرواية الطوباوية لاجورد بيلامي من عام 1888 "ملتفتاً الى الوراء"، لكنه لم يستطع ايجاد مكان لذكر (ولتر باكنوت)، الذي أخرج تصوراً ثريا وهاما للسياسة في بريطانيا وهي في اوج قوتها. هو يذكر القليل عن الطرق التي فُسرت بها الافكار الغربية من جانب بقية دول العالم. هو يردد دائماً ودون مبرر كلمة "متلاطم". لكن كتاب حول السياسة" هو مع ذلك انجاز مثير للاعجاب: عمل ذهني ممتع وتذكار رائع و شاهد على عناء الحياة الاكاديمية.

* قراءة في كتاب (on politics: A History of political philosophy from Herodotus to the present)، للكاتب Alan Ryan. صدر في 22 اكتوبر 2012عن دار Liveright بـ 1152 صفحة.

.................................

الهوامش:

(1) Alan Ryan بروفيسور في السياسة في جامعة اكسفورد، يعمل حاليا في جامعة برنستون. وُلد عام 1940 وصدرت له العديد من الكتب من بينها:

1- فلسفة جون ستيوارت مل، عام 1970.

2- فلسفة العلوم الاجتماعية عام 1970.

3- جون ديوي والمد المتعاظم لليبرالية الامريكية عام 1995.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 22/كانون الأول/2012 - 8/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م