الأخبار التي بثتها وسائل الاعلام الاسرائيلية عن اسباب اغتيالها
للشخصية الفلسطينية أحمد الجابري يوم 14 نوفمبر\تشرين ثاني الماضي كانت
جزء من عملية الاغتيال ذاتها لإقناع الناس بصواب فعلها المخالف للقانون
الدولي. فقد اشاعت أخبارا مفصلة عن نشاطه الارهابي تركت الكثير من
الناس يعتقد بالرواية الاسرائيلية ويؤيد الفعل الذي قامت به. لقد أعطت
وسائل الاعلام الاسرائيلية صورة عن المغدور خلقت منه قوة خارقة مثلت
تهديدا دائما على أمن شعب اسرائيل الذي لا يمكن أن تسمح به الحكومة
الاسرائيلية، ولا أي حكومة في العالم تحرص على سلامة وأمن شعبها. ويمثل
الاعلان عن اغتيال الرجل خروجا عن التقليد الشائع في سياسة الاغتيالات
الاسرائيلية، فلم تكن تعترف سابقا بمسئوليتها عن الاغتيالات.
لقد كرر هذا رئيس الوزراء نتنياهو والعديد من المسئولين الآخرين،
وبعض قادة الجيش، وهي صورة نمطية للبيانات التي تصدرها اسرائيل لتبرير
أي عدوان على الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية وخارجها.
وأعيد هنا بعض ما قاله قادة عسكريون اسرائيليون الذين تسابقوا مع
بعضهم في اطلاق التهديدات بهذه المناسبة التي شكلت بالنسبة لهم فرصة
لاستعراض حقيقة مشاعرهم العنصرية واستعدادهم الدائم لاقتراف اي فعل دون
تردد ضد الفلسطينيين لتخويفهم وبث الرعب في نفوسهم .
فقد نقلت صحيفة نيويورك الأمريكية بتاريخ 15\11\2012 عن قادة
عسكريين اسرائيليين قولهم: " نحن ننصح قادة حماس سواء كانوا في أعلى
المراتب أو أدناها بأن لا يظهروا على الأرض في الأيام القادمة ." وقال
البريكادير جينرال يواف مورديخاي الناطق العسكري باسم الجيش الاسرائيلي
ما يلي: " لو كنت من قادة حماس لبحثت عن مكان للاختفاء ." وهذا القول
لا يختلف كثيرا عن عما قاله رئيس الوزراء البريطاني ونستون شيرشل عام
1918 لوحدات جيشه التي كانت في طريقها لغزو روسيا للقضاء على النظام
الاشتراكي الذي اعلنه البلاشفة في روسيا بعد ثورة أكتوبر عام 1917 الذي
جاء فيه " أخنقوا البولشفي الرضيع في مهده - Strangle The Bolshevik
Baby In its Crib"
لقد قتل مع الجابري خمسة بما فيهم طفلة في السابعة من عمرها، وجرح
حوالي 40 شخصا. وصرح الاسرائيليون بعد عملية قتله، انهم قتلوا مخطط كل
الهجمات بالصواريخ على اسرائيل، وهو من قام بخطف الجندي الاسرائيلي
شاليت جيلاد، وانه بالنسبة لهم اسامة بن لادن الفلسطيني. انهم يقولون
ذلك بعد كل عملية اغتيال يقومون بها منذ قيام اسرائيل وحتى اليوم.
وقالوا ذلك ليمنحوا الشرعية لفعل سبقتهم به الولايات المتحدة عندما
اغتال رجالها أسامة بن لادن في باكستان قبل أكثر من عام.
لحد الآن يبدو الأمر مقنعا بعض الشيء ولا يحتاج الى مناقشة طويلة
وعريضة، وأي فرد لا يعير اهمية للحقيقة يقرأ أو يستمع للبيانات
والأخبار التي تبث عبر القنوات الاذاعية سيتفق مع موقف الحكومة
الاسرائيلية بهذا الشكل أو ذاك.
لكن للباحث عن الحقيقة لايكتفي بالصورة التي تعرضها وسائل الاعلام
الاسرائيلية الرسمية أو الأجنبية المعروفة بانحيازها للمواقف
الاسرائيلية، بل يذهب الى ماوراء الكواليس للتحري عن الوجه الآخر
للصورة، وفيما اذا كان هناك بالفعل وجها آخر لها.
فقد أجرى المحرر الصحفي في صحيفة هآرتز الاسرائيلية المعتدلة Nir
Hasson في 15\11\2012 مقابلة مع الدكتور Garshon Baskin مراسل صحيفة
جيروسليم بوست الاسرائيلية في الولايات المتحدة سابقا، والمحرر الرئيسي
فيها حاليا وهو بنفس الوقت رئيس المركز الفلسطيني\الاسرائيلي للبحوث
والمعلومات.
الدكتور كارسون باسكين عمل وسيطا بين حكومة حماس والحكومة
الاسرائيلية في التوصل الى اتفاق سلام يوقف بموجبه اطلاق النار من غزة
وبالعكس، وقد نجح سابقا في الوصول الى تفاهم بين الطرفين.
كما قاد باسكين بنجاح المفاوضات بين اسرائيل وحماس لإطلاق سراح
المحتجز لديها شاليت جيلاد الذي أمضى في الحجز خمسة سنوات وعدة اشهر.
لقد كان باسكين يتصل اتصالا مباشرا بأحمد الجعبري كممثل عن حماس الذي
بدوره يتصل بممثل آخر لحماس رازي حماد. كما يمثل الجانب الاسرائيلي في
المفاوضات ديفيد ميدين، وعن مصر ممثل من المخابرات المصرية. ولشهور خلت
كما يقول باسكين: كنت أرسل يوميا رسائل الى حماس بخصوص الاتفاق النهائي
حول شاليت بواسطة الجابري، وقد استمرت العلاقة مع حماس خلال الفترة
التي تلت اطلاق سراح شاليت. وينقل باسكين عن الجابري، أنه كان يقول له:
" ان توتر العلاقة بين حماس واسرائيل لا يخدم سكان غزة، بل فقط يزيد
معاناتهم، وانه شخصيا وفي حالات عديدة كان يتدخل لمنع اطلاق الصواريخ
على اسرائيل." وذكر باسكين أن الجابري قد قال له " انه في حالة انقياد
حماس الى اطلاق الصواريخ على اسرائيل فانه كان يتدخل لتوجيهها الى
أراضي ومناطق غير مأهولة بالسكان اذا لم يستطع وقفها تماما ".
وذكر باسكين أنه في الشهور الأخيرة قد عرض مشروع اتفاق مع حماس على
وزير الدفاع الاسرائيلي ايهود براك الذي شكل على اثر ذلك لجنة وزارية
للبحث والبت في الاتفاق. الاتفاق كان سيضع الأساس لسلام دائم بين
اسرائيل وحماس تتحاشى بموجبها تكرار اطلاق الصواريخ، لكن في اسرائيل
قرروا أن لا يقرروا. وذكر باسكين:
لقد قمت في الشهور الأخيرة بمحاولة أخرى، حيث اتصلت في الأسابيع
الأخيرة بحماس ومصر، وفي هذا الأسبوع بالذات كنت في مصر ( قبل عملية
الاغتيال )، وقابلت شخصيات رفيعة من المخابرات المصرية وكذلك بحماس،
وقد فهمت من المسئولين المصريين انهم جادون بإخلاص بمنع الفلسطينيين من
اطلاق الصواريخ.
وقبل ساعات فقط من اغتيال احمد الجابري استلمت رسالة من الحكومة
الاسرائيلية تتضمن مشروع الاتفاقية بين اسرائيل وحماس التي أخذت شكلها
النهائي، متضمنة الخطوات العملية لتثبيت وقف اطلاق النار في حالة
اندلاع نزاع في أي وقت في المستقبل. وتعليقا على الفعل الاسرائيلي، قال
باسكين:
" لقد ارتكبت اسرائيل خطأ ستراتيجيا، الخطأ الذي سيكلف حياة عدد من
الناس الأبرياء في كلا الجانبين. لقد كان بالإمكان تحاشي سفك الدماء،
وان أولئك الذين اتخذوا قرار الاغتيال يجب أن يقرر مصيرهم الناخبون،
لكن اعتقد انهم سيحصلون على اصوات أكثر. لقد كان الجابري رجل سلام، وان
اغتياله قد قتل امكانية تحقيق السلام."
وفي ختام المقابلة قال باسكين: " انني حزين جدا، انه أمر محزن حقا،
فانا ارى أناسا يقتلون وهذا ما يحزنني، واقول لنفسي بأنه بعد كل شخص
يقتل سيولد جيل جديد ممن يحملون الكراهية والارهاب."
هذا ما جاء بالمقابلة عن الجابري على لسان صحفي وسياسي اسرائيلي
يفترض فيه الحياد، وهي شهادة لصالح المغدور لم تأخذ بها اسرائيل، لقد
وثق الجابري بهم وعمل بجد لاطلاق سراح المختطف الاسرائيلي شاليت، وبذل
جهودا لتوقيع اتفاق طويل الأمد يضع أسسا للسلام بين اسرائيل
والفلسطينيين، وكان يمنع اطلاق الصواريخ على اسرائيل قدر استطاعته
لعلمه بأن ذلك يزيد معاناة شعبه.
الاسرائيليون لم يستطيعوا قتل الجابري قبل أن أن يظهر أمام عدسات
الكاميرات وهو يسلم شاليت للمصريين الذين بدورهم سلموه للاسرائيليين.
وبعد استلامهم شاليت وضعوا على مايبدو خطة قتله، فالوسيط الاسرائيلي لم
ينهي علاقته بالجابري، وبقي على اتصال به كما يقول للوصول الى اتفاقية
بين حماس واسرائيل لوضع اسس السلام الدائم بينهما. فقبل ساعات فقط من
اغتيال الجابري كما يقول الوسيط باسكين استلم من اسرائيل مسودة
الاتفاقية النهائية للسلام ليقوم بعرضها على حماس عبر الوسيط احمد
الجابري.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، هل ان الجابري كان على وشك التحرك
بسيارته لمواجهة الوسيط الاسرائيلي باسكين لاستلام مشروع الاتفاقية،
وعندها تكون اسرائيل قد استلمت اشارة التحرك لتطلق صاروخها الذكي نحو
تلك السيارة الوحيدة المتجهة للقائه .؟ هذا السؤال يظل قائما الى أن
يتمكن أحد ما للإجابة عليه.
لقد كافئوه بالقتل غدرا بعد أن أعاد لهم شاليت، وكافئوا أطفاله
الأربعة عشر باليتم مدى الحياة، وزوجتيه بالترمل ومعاناة الفقر
والحرمان لنهاية العمر، أما الاسرائيليون فقد أثبتوا أنهم الطرف الذي
لا يجب الثقة به أبدأ، لأن العنصرية قد استقرت عميقا في وجدانهم، لتحول
كراهيتهم للعرب الفلسطينيين الى أداة للقتل وسفك الدماء، لعلمهم أن
الولايات المتحدة قد منحتهم الحصانة ضد العقاب والنقد. لقد كان اغتيال
الجابري ثمنا باهظا دفعه الجابري لدوره بتحرير شاليت جيلاد الذي سلمه
سالما اليهم يدا بيد.
لقد احتفلوا بالتأكيد بقتله، لكنهم لن يهنئوا طويلا بانتصارهم
الجبان هذا، لأنهم سيظلون في خوف دائم من الانتقام. ويعلمون كل العلم
أن الشعب الذي يحتلون وطنه دون حق لن يتنازل عن حقه في استعادته، وان
الأربعة عشر يتيما الذين خلفهم الجابري وراءه ستكون لهم الفرصة في
المستقبل القريب لمقاضاة المسئولين عن غدرهم بأبيهم أحمد الجاري. |