مَسْؤولُوْنَ بِلا ذِّمَّةٍ وَشَعْبٌ بِلا هِمَّةٍ

محمّد جواد سُنبه

هناك علاقة مباشرة، بيّن نزاهة المسؤول، وبيّن وعي الشّعب. وكذلك هناك علاقة مباشرة، بيّن كفاءة المسؤول، وبيّن وعي الشّعب أيضاً. فكلّما كانت الجماهير واعية، فإنّها تقيّم المعلومات التي تتلقاها بدقّة. وتعمل على تحليلها بصورة صحيحة ومنطقيّة، فتكون الجماهير، بمثابة الحارس الأمين على مصالحها. فالجماهير الواعيّة، لا تقبل غير النزيه وغير الكفوء، أنْ يتقلّد مهام أيّة مسؤوليّة في دوّلتهم.

وعندما يكون الوعي غائباً عن الجماهير، فإنّها تكون صيداً يطمع بافتراسه، صائدي الفرص. الذين تقذف بهم أمواج الصِدَف، وتمكّنهم الظروف الشاذّة، من إعتلاء سلّم المسؤوليات. فيتسلّط الطارئون على دماء النّاس، وأموالهم ومصائرهم. ويصبح المسؤول من هذا النوّع، آفة تفتك بالمجتمع فتكاً. وكلما وجد المسؤول هشاشة في الوعي الجماهيري، فإنّه يبرع بابتزاز واستغلال، واستحمار تلك الجماهير، إلى أبعد الحدود. وعندما يجد المسؤول نفسه، أمامَ جماهير بليدة، فإنه يتفنّن في خداعها. فيخترع لها الكثير مِنَ الأساليب الشيّطانيّة، التي تنجح بالمحافظة، على ثقة الجمهور بذلك المسؤول.

ومصيبتنا في العراق الجديد، أنّ تجربة تقلُّد المسؤوليّة للبعض، كانت من التجارب الفاشلة، المخيّبة للآمال بشكّل كبير. وسيبقى الحال على ما هو عليه، ما دام وعينا الجماعي، يمرّ في دوّر سُبات، إنْ لمْ أقل أنّه في دوّر احتضار. وسيبقى الحال على ما هو عليه أيضاً، مالمْ تتحرك الجماهير بمسؤوليّة، لتغيير هذا الواقع المزرِ. نَعَمْ، مرّ شعبنا بظروف صعبة وقاهرة، بيّد أنّ ذلك لا يعطيه الحجّة، ليسلك منهج ترك الحبل على الغارب، فالمرحلة تبدّلت، والرجال تغيّرت، والسلطة تحوّلت.

ولو رجعنا إلى بنيتنا الثقافيّة، التي ينعكس منها سلوكنا الفردي والجمعي، وتناولناها بالبحث والتّحميص، لوجدنا فيها الكثير مِنَ المؤشّرات الواضحة، التي تؤكّد على روح الانهزاميّة، المغروسة داخل نفسيّة الفرد العراقي، وربّما مزوعة عنده في منطقة اللاشعور. والمشكلة أنّ هذه الروح الانهزاميّة، توَرّث من جيل لآخر. والأمثال الشعبيّة، التي يستشهد بها الصغير والكبير، واحدة من عناصر ثقافتا العراقيّة، التي تعّكس تصوّراتنا و رؤيتنا للواقع، وكيف نتعامل معه. وعلى سبيل المثال لا الحصّر، أسوقُ بعضاً من هذه الأمثلة: (كلمن ياخذ أمّي أسميه عمي)، (ذبهه بركبت العالم واطلع منهه سالم)، (الإيد الماتكدر تلاويهه حبهه)، (الحيطان إلهه آذان)، (الشهر المابيه خبزه لتعد أيامه)، (سبع اليعبي بالسكله ركي)، (حبّ الكُلّ واحظه بالكُلّ)... وغيرها الكثير.

إنّ تحليل هذه النّصوص، تعطينا تصوّراً، لعدّة سلوكيّات سلبيّة، يؤمن بها العراقيّ (فرداً وجماعة). وتقدّم لنا نتائج يمكن تلخيصها بالنّقاط التّالية:

1. انهزاميّة الفرد العراقي.

2. عدم القابليّة على اتّخاذ القرار، وترسّخ الاتكاليّة والكسل.

3. الطويّة التي تَستَبطنُ روح التملّق للقويّ، على حساب القِيَم.

4. الخوّف من البوّح بما في النّفس، والإفصاح عن الرأي.

5. إيثار المصلحة الخاصّة، مع إضفاء صوّر النّفاق، بشكّل واضح في العلاقات الاجتماعيّة العامّة.

هذه الثقافة الشعبيّة، لَمْ تُولَد من فراغ، وإنّما حصلت جرّاء عصور من الاحتكاك بالحياة. مع وجود ظروف القهر والظلم، التي عانى منها المجتمع العراقيّ. إضافة لذلك، فإنّ الجهل والفقر والأميّة تعتبر عوامل مهمّة، عملت على إضعاف الوعي العامّ، عند المجتمع العراقيّ. ومع ذلك، فإنّ الظروف الصّعبة، لا تعطي المبرّر للإنسان، بعدم المطالبة بحقوقه والدّفاع عنها. ولنا في قول الثائر المسلم أبي ذر الغفاري، أسوة حسنة حيّث قال: (عَجبتُ لِمَنْ لَمْ يَجِد قُوْتَ يَومِهِ، وَلَمْ يُشهِر سَيّفَه).

وإذا تناولنا جانبَ الفرد العراقيّ المُعدَمْ، لابدّ أنْ نتناول جانب المسؤول المُتخَمْ. ففي الاسبوع الأول من شهر كانون الأول 2012، استعرت حرب إعلاميّة، تناولت ملفات الفساد، الخاصّة بصفقة الأسلحة الرّوسيّة، وغيّرها مِنْ ملفات الفساد الأخرى. والجميع يعلم، أنّ تُهم الفساد، وهدّر المال العامّ، وتُهم الإرهاب وإراقة الدّم العراقيّ، أصبحت تُهماً يتقاذفها السّياسيّون فيما بيّنهم، على رؤوس الأشهاد. والشّعب العراقيّ يقف متفرّجاً، على هذا الوضع المُزري، وكأنّ المال المنهوب ليس ماله، وإنّ الأرواح التي تُزهَق ليست منه.

وعندما نطّلع على سيرة الشّعوب الأخرى، وكيفيّة تعاطيها مع القضايا التي تهمّها، نلمس خيبة حظوظنا. ولنا في الشّعب المصريّ عبرة، عندما خرج منادياً، برفض البيان الدّستوري، الذي أعلنه الرئيس المنتخب محمّد مرسي. حيث اعتبر المصريّون، البيان الدّستوري، قيّد يكبّل إرادتهم.

وستكون خيّبة حظوظنا أكبر، عندما نطّلع على وعي الشّعوب المتطوّرة، وسيرة المسؤولين فيها، ونقارنها مع أحوالنا اليوم. لكنْ هذا الاطلاع، يجب أنْ نوظّفَه لصالحنا بشكّل إيجابي. فالإنسان بطبعه يتعلّم من تجارب الآخرين. كما أنّ أنشطة المسؤولين في تلك العوالم، تقدّم لمسؤولينا الكثير مِنَ المعلومات، التي يجدر الاحتذاء بها. فالكثير من مواقف المسؤولين في الدّول المتقدمة، تعتبر أمثلة تعبّر عن نضجهم السّياسي وحسّهم الوطني. وهي دروس مفيدة لبعض ساستنا، إذا ما أخذت على محمل الجدّ، لتصحيح مواقفهم الخاطئة. فتسهم هذه الدّروس، في تعليمهم مبادى الوطنيّة، والوفاء للشعب والإخلاص للوطن. وفي هذا المجال، أذكر الحادثة التّالية، لعلّ فيها لبعض مسّؤولينا درساً يعتبرون به:

في يوم 10 أيلول 2012، انتحر وزير الخدمات الماليّة الياباني (تادا هيرو ماتسو شيتا). والسبب الذي دفعه للانتحار، ليس اختلاسه للمال العامّ، (كما يجري من قبل بعض المسؤولين العراقيين). ولا عدم الكفاءة، أو تزوير شهادة دراسيّة، كما هو معروف عندنا في العراق. ولا الوزير المُنتَحِر، يقوم بقيادة عمليّات ارهابيّة، تحصد أرواح الأبرياء. ولا الوزير الياباني المُنتَحِر، صَدَرَ بحقّه حكم قضائي، أدانه بعقوبة الإعدام، فضاقت به الأرض بما رَحُبَت، وقرّر الانتحار غسلاً لعار الجريمة.

الرجل المُنتَحِر، وصفه وزير الماليّة الياباني (جون ازومي) بقوله: (كان سياسيّاً محنّكاً يعمل بشكل جيّد). والوزير المُنتَحِر كان يشغل، منصباً آخر بالإضافة إلى منصبه الأوّل. فهو يشغل حقيبة وزير الخدمات البريدية، والتي سيديرها بعده، رئيس الوزراء الياباني (يوشي هيكو نودا) شخصياً. كل مافي الأمر، أنّ صحيفة (شو كان شنشو)، وهي من الصّحف الصّفراء (الصحافة الصّفراء: مصطلح إعلامي يقصد به، الصحف التي تنشر الفضائح). هذه الصحيفة قررت نشر خبر، عن وجود علاقة بيّن الوزير المُنتَحِر، وبيّن إمرأة خارج إطار العلاقة الزوجيّة. فانتحر الوزير قبل يومين من نشر الخبر، في الصحيفة المذكورة.

وبالرغم من أنّني لا أتّفق مع طريقة الوزير في الانتحار، والاسلوب الذي تفاعل به مع الحدث، لأنّها معالجة سلبيّة، في التّعامل مع الواقع. لكنّها بالوقت نفسه، تعبّر عن ثقافة معيّنة لشعب معيّن، يفضّل أفراده الموّت، على العيّش تحت خيّمة عار الخيانة. كما أنّني أجد في هذه الحادثة درساً، يَصلِحُ أنْ يكونَ حافزاً، يستحثّ كلّ عراقيّ، ليضَعَ صاحبنا الوزير الياباني المُنتَحِر، نُصبَ عيّنيّه. ويَفهم أنّ للمسؤوليّة تبعات، أكثر من كونها امتيازات. وهذا الوزير المُنتَحِر آثر الموت، على أنْ يرى في عيون أبناء شعبه، نظرة الريّبة تَشْزُرُه، بمهانة الاستهزاء والاستخفاف. وفي هذه الحادثة درساً أيضاً، لكلّ المفسدين في العراق، بأنْ يتوبوا لله تعالى، ويعلنوا أسفَهم للشّعب العراقي، ويعيدوا للشعب ما سرقوه من مال عامّ. قبل أنْ تُوارى سوءاتهم الثرى. ففي حلالِها حساب، وفي حرامِها عِقاب، وفي الشُبُهاتِ عِتاب.

* كاتب وباحث عراقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 18/كانون الأول/2012 - 4/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م