مسائل في فقه الاحزاب

الشيخ فاضل الصفّار

المسألة الأولى: في معايير شرعية الاحزاب

عرفت مما تقدم أن الأحزاب السياسية ليست مقبولة في الإسلام بشكل كلي عام، كما أنها ليست مرفوضة بشكل كلي عام، بل بعض الأحزاب يؤيدها الإسلام ويعتبرها واجباً من الواجبات الشرعية فيما لو تحقق موضوعها، وبعضها الآخر لا يؤيدها، بل يحرمها ويعتبرها من الممارسات الخارجة عن الشريعة، والمعيار الصحيح الذي يمكن أن نرجع إليه في تشخيص الأحزاب المشروعة عن غيرها يتم بملاحظة أمور ثلاثة:

الأول: المنطلقات

الثاني: الأهداف.

الثالث: الوسائل.

ولكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة ضوابط وأصول يمكن الرجوع إليها في تشريع قانون الأحزاب، وأهم الأمور الشرعية التي ينبغي مراعاتها في ذلك أصلان:

 الأول: شرعي، اي أن تكون منطلقات الحزب وأهدافه ووسائله في إطار الشريعة وحسب موازين الإسلام؛ بداهة أن الغاية لا تبرر الوسيلة، والقول بأنها تبرر يخالفه بديهة الفطرة والوجدان والعقل، كما يحكم الشرع بالمنع منه.

الثاني: إنساني، وذلك فيما إذا لم تكن منطلقات الحزب في إطار الشريعة فإنه لا بد وأن تكون ضمن الأهداف والمنطلقات والأخلاق الإنسانية، ولا يخفى أنه على الرغم من التطابق بين المبادئ الإسلامية والمبادئ الإنسانية لكونهما وجهين لحقيقة واحدة، ولكن ربما تختلف من حيث الأهداف؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون الحزب الذي ينطلق من منطلقات إنسانية هادفا تطبيق كامل سياسة الإسلام في السلطة وإن كان يحترمها في ذاته كبعض الأحزاب الوطنية النزيهة، فإنها تتوخى خدمة الناس والوطن عادة بغض النظر عن كون الحكومة التي تتطلع إليها حكومة إسلامية أو وطنية، بعكس الأحزاب الإسلامية فإنها تهدف عادةً إلى تكوين حكومة إسلامية كاملة، فكل حزب سياسي يريد أن يعمل في البلاد الإسلامية لا بد له وأن يجمع مقومات وجوده وكيانه، ومن أهم المقومات ما عرفته من الأصلين، ومن دونهما لا يحظى بشرعية الوجود ولا البقاء.

وبذلك يبدو واضحاً أن الحزب السياسي الذي له حق الحكم أو العمل السياسي والذي ربما يكون في بعض مراتبه من الواجبات الشرعية هو الذي اخذ في منطلقه وهدفه ووسائله الإسلام والإنسان، وهذا الوجوب الشرعي نابع من عدة قواعد وأدلة كما عرفت بعضها مما تقدم، وبذلك تعرف الأحزاب السياسية التي لا تتمتع بالشرعية الإسلامية، بل وتعتبر محرمة الوجود والنشاط؛ لأنها تقع مقدمة للحرام، أو معينة على الإثم والعدوان ونحوها من ملاكات الحرمة.

ويتحصل: أن الأحزاب السياسية التي يؤيدها الإسلام ويمنحها حق العمل السياسي وممارسة السلطة قسمان:

1- الأحزاب الإسلامية التي تهدف الى تطبيق الإسلام بالشروط الشرعية الخاصة.

2- الأحزاب الوطنية التي تتطلع إلى خدمة الإنسان والوطن والمبادئ الإنسانية.

وكل حزب آخر لا يحظى بأحد هذين يعد محرماً ومحظوراً كسائر المحظورات الشرعية الأخرى. ومن الواضح أن هذا ليس كبتاً للحريات ولا تضييقاً في دائرة العمل، بل هو قطع لدابر الظلم والتعدي والانحراف الفكري والعملي؛ إذ من الواضح أن الأحزاب الملحدة أو المنحرفة عقيدياً أو تلك التي ترتبط بالدوائر الاستعمارية تهدف إلى تضليل الناس وتجهيلهم وسلب حقوقهم وخيراتهم وصبها في جيب الاستعمار، أو صبها في خدمة الجهل والخرافة أو الرذيلة، وهذا ما يستقل العقل بقبحه والشرع بحرمته لما ستعرفه من أن تجويز مثل هذه الأحزاب يدخل موضوعاً في الفوضى واختلال النظام.

المسألة الثانية: في فوائد الاحزاب الحيوية

عرفت مما تقدم بعض الوظائف الحيوية التي تؤديها الأحزاب في العمل السياسي، وهناك فوائد ومعطيات كبيرة تحققها الأحزاب، وبغض النظر عما يتصور لها من مساوئ أو أضرار جديرة بالملاحظة والعلاج، فقد ذكرت للاحزاب  فوائد اخرى يمكن الإشارة إلى بعضها كالتالي:

الفائدة الأولى: المنافسة على الغير

 فإن الحزب السياسي هو الصيغة الأفضل لتطبيق المنافسة والانتخاب والشورى، فإن الانتخابات التي تحظى بالنجاح والنزاهة غالباً تلك التي تشارك فيه التكتلات والأحزاب المتعددة، حيث إنهم أهل خبرة في تحديد الأصلح لإدارة شؤون الدين والدنيا، كما أنها تتنافس في وضع الخطط والبرامج لإدارة الدولة، فتعطي الناس فرصاً أكبر وأفضل لاختيار صاحب البرنامج الأفضل والأكمل، كما هو الملحوظ في الواقع الخارجي لبعض الدول التي تتمتع ببعض الحرية والمنافسة النسبية.

الفائدة الثانية: تشخيص المصالح العليا

 فإن الأفراد بما هم أفراد قوى مبعثرة لا يقدرون على تشخيص الأفضل غالباً، كما لا يقدرون على تنفيذ آرائهم بالنسبة لمصير أنفسهم فضلاً عن مصير الدولة والحكم، فكان لابد من وجود جماعة من الزعماء وأهل الخبرة يعرفون الأمور السياسية حق معرفتها، فيستقون من المجتمع بواسطة التجمعات الصغيرة الاتجاهات والأفكار والآراء، ويجمعون الآمال والطموحات، ويلاحظون القدرات والطاقات والظروف المحيطة، ويوصلون إلى المجتمع بتلك الوسائط آراءهم تجاه القضايا والاحداث، وبذلك تتجمع القدرات والأفكار في قنوات خاصة، وتتمركز وتتحد حتى تأتي بالنتائج المطلوبة التي تكون في مجموعها في صلاح المجتمع، فلا يكون الفرد الضعيف في مقابل القوى المتمركزة والمنظمة وحيدا لا يقدر على أمر ولا على تغيير.

وعليه فالحزب يعطي القدرات المبعثرة الضعيفة غير المتمركزة القدرة والتمركز والتلاحم، كما يعطي الناس أفكاراً ناضجة ومدروسة تجمع لهم ما ينفعهم، وتدفع عنهم ما يضرهم.

الفائدة الثالثة: تنمية الخبرات

الحزب مدرسة الأمة في الإدارة والسياسة؛ وذلك لأن المدارس التي يتعلم بها الشعب لا ترتبط بالسياسة عادة، كما أن المدارس المخصصة لدراسة السياسة في الغالب تختص في البعد النظري دون العملي، ومن الواضح أن العلم غير العمل، فالذي يدرس الطب غير الخبير بممارسة الطبابة، وكذلك بالنسبة إلى المهندس والطيار والمزارع والعامل والبناء وما أشبه، فالحزب يوجب الفهم السياسي في أفراده، كما أنه مدرسة علمية وعملية للسياسة لكونه مختبراً للتجارب، وتتراكم عنده تجارب الأفراد وتجارب التجمع بنحو عام، فيربي خبراء إداريين ومدبرين مضافاً إلى علمهم السياسي، حيث ان الأفراد الذين علموا السياسة سواء في مدارس التخصص أو في الحزب يطبقونها تطبيقاً عملياً خارجياً، حيث التداول اليومي للمواضيع السياسية والاستعداد الدائم للأخذ والعطاء السياسيين، فحالهم حال البنّاء الذي يمارس البناء في كل يوم.

وبهذه المدرسة الحزبية يكون التعلم والتعليم للسياسيين والإداريين، كما أن هذه المدرسة تعطي الرشد الفكري الحيوي لكل أفراد المجتمع؛ لما عرفت من أن الحزب يضم تياراً كبيراً متكونا من مجموعة تكتلات المجتمع الحقوقية والحقيقية، وبهذا يندفع الفرد في الحزب إلى تعلم السياسة وتطبيقها العملي، فإن انتمى الى الحزب وهو عالم بالسياسة تقدم عمله، وإن انتمى اليه جاهلاً تعلمها، وفي كلا الحالين يمارس تطبيقاً عملياً في الخارج، وفي كل الأحوال فإن الأحزاب الصحيحة تزج في الأمة أفرادها الصالحين وخبراءها الواعين لينيروا دربها ويتولوا قيادتها نحو الأفضل.

الفائدة الرابعة: التصدي والتدبير

إن الحياة لا تخلو من السياسة، والمجتمع بحاجة إلى من يتصدّى للمسؤولية السياسية فيه، والحزب هو الذي يقدر على تحمل هذه المسؤولية، بينما الأفراد أو الفرد ليس كذلك في الغالب، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى الحزب، وهذا ما ربما يعبر عنه البعض في اصطلاحه السياسي بأن الحزب مدرسة الأخلاق، إذ ليس مرادهم الأخلاق التي يصطلح عليها في علوم الفلسفة والأدب والعرفان، بل الاخلاق التي يجب أن تتوفر في السياسة، ومن الواضح أن الحزب هو الذي يقدر على التصدي لتحمل هذه المسؤولية؛ لكونه عبارة عن جماعة كبيرة من الناس. وبالنتيجة يقود الحزب الناس الى ادارة أنفسهم بواسطة جمهرة كبيرة من أبنائهم وإخوانهم الذين يثقون بهم وبكفاءاتهم، وأما الأفراد فلا يتمكنون من تحمل هذه المسؤولية عادة لاسباب:

1- لأن الفرد لا قدرة له على الإدارة السياسية طويلة الأمد مهما كانت قدراته كثيرة ونبوغه عاليا.

2- كما أن الفرد لا دوام له، فإنه يموت أو يمرض أو يخطأ أو ما أشبه، فلا يمكن أن يكون موضع الثقة التامة في استمراره، أو في صوابه ورشده.

3- كما لا ضمانة لبقاء نزاهته حيث إنه كثيراً ما ينقلب الفرد النزيه واقعاً أو في انظار الناس إلى فرد غير نزيه، فيعيق نشاطه، ويهدم ثقة الناس به، بينما الحزب لكثرة أفراده ومراقبيه اقدر على الإدارة السياسية، واضمن في الحفاظ على النزاهة والبقاء الممتد، كما أن مفاهيم الحزب لا تتغير بمثل تغير الفرد، فإذا كان الحزب جامعاً للشرائط الشرعية ونزيهاً بقي على نزاهته مما يرسخ الثقة والاطمئنان بينه وبين الناس، وبذلك يكون الحزب مورد اعتماد الناس سياسياً من جهة السعة العلمية، والامتداد الزماني، وبقاء النزاهة التي تحتاجها الأمة فيمن تضع ثقتها عنده.

نعم، قد يوجد في الأحزاب السرية التي يصنعها المستعمرون أو الأفراد المنحرفون من لا توجد فيه هذه الصفات، لكن ليس الكلام في مثل هذه الأحزاب، حيث إن ما يصنعه الاستعمار طابور خامس وليس بحزب حقيقي وإن تسمى باسمه، وأمثلة ذلك ومصاديقه كثيرة في البلاد الإسلامية؛ ولذا لا تتسم هذه الأحزاب بصحة العقيدة، ولا الأخلاق السياسية، ولا تضم في صفوفها الصالحين من أبناء الأمة، وبعكسه تهدف الوصول إلى الحكم بنوازع الأنانية وحب السلطة لا المشاركة الوجدانية كما عرفت، ولذا سرعان ما يتشتت أفرادهما وتقطع الأمة ثقتها ورجاءها فيها كما تموت بموت زعمائها وقادتها عادة.

الفائدة الخامسة: الرقي والتطور

إن الحزب يخلق التنافس بين أفراده داخلياً ومع الأحزاب الأخرى خارجياً، والتنافس من أهم عوامل التطور والتكامل والرقي لما جُبل عليه الإنسان بفطرته من حبّه لنفسه وشؤونها وحبّه لتقدمه ونجاحه، وبهذا التنافس يكون الحزب ماكنة كبيرة للحركة والنشاط والفاعلية في داخلها وفي خارجها؛ ولذا نجد الحكومة ذات الأحزاب في تسابق دائم في مختلف شؤون العلوم والفنون والحضارة، وقد أرشد القرآن الحكيم إلى التنافس في الخير في طائفة من الآيات الشريفة. قال سبحانه وتعالى: {سارعوا إلى مغفرة من ربكم}[1] وقال عز وجل: {واستبقوا الخيرات}[2] وقال سبحانه وتعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}[3] وإطلاق هذه الطائفة من الآيات يشمل المعنويات والماديات، فدلالة السياق أو الظهور في المعنويات لا يمنع من الشمول للماديات بعد فهم العرف عدم الخصوصية، خصوصاً فيما إذا جعلت الماديات طريقاً للمعنويات. قال تعالى: {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا}[4].

وكيف كان، فإن الإسلام لا يخالف هذه الاثار والفوائد التي تعود بها الأحزاب السياسية على الشعب إذا لم يكن فيها أضرار، أو تبتلى بالمزاحم الأهم الذي ربما يمنع منها؛ إذ أي فائدة أعظم من تلخيص إرادة الأمة في أبنائها من أهل الحل والعقد المرشحين لادارتها، ومن تجميع القوى المبعثرة في قوة موحّدة ومتماسكة، والتقدم بالأمة سياسياً وفكرياً، وتكوين المسؤولية النظيفة الصالحة والنزيهة، وصنع الانضباط الفكري والعلمي في الناس، وإيجاد التنافس الحر الصحيح لتقدم الأمة، والحفاظ على الحرية وتكوين المؤسسات المتنوعة والشاملة لمختلف شؤون الحياة الفكرية والسياسية والتربوية، فإن كل ذلك مما تنطبق عليه القواعد الشرعية الكلية المتقدمة من قبيل إرشاد الجاهل والعلو والقوة والتعاون على البر والتقوى ونحوها.

وبعد ذلك فإن قيام السيرة العقلائية عليه في مختلف دول العالم على اختلاف مذاهبهم واعتقاداتهم ربما يكشف كشفا إنيّاَ عن حسن الأحزاب ومدح العمل بها، كما هو الشأن في الكثير مما يقدم عليه العقلاء إلا ما أحرز فيه الضرر عقلاً، أو المنع شرعاً، فما ربما يقال من وجود بعض الأضرار والمساوئ في العمل الحزبي فإنها لا تنهض لمعارضة المصالح الجمة، خصوصاً بعد ملاحظة الأهم والمهم والمفاسد والمصالح ومراعاة موازين باب التزاحم التي تدخل المسألة بين ملاكين: أحدهما فوائد الحزب وثانيهما مفاسده، حيث يوجب الأول العمل به، والثاني منعه أو إلغاءه، فإن الثاني يعود بالبلد إلى الوراء، بل ويمهد للاستبداد والتفرد، ويوقع البلد في المطبات والمهاوي السحيقة والعميقة؛ لأنه لا حل بعد إلغاء التعددية الحزبية إلا بإبقاء البلد بلا جماعات عاملة لصالحه، فيتفرد الحاكم بالأمور، خصوصا وان طبيعة السلطة الطغيان والتجبر. قال تعالى: {إن الإنسان ليطغى* أن رآه استغنى}[5] وعن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): «من ملك استأثر»[6] أو ينفرد بالأمور حزب واحد فيلغي الجميع، ويبقى وحده هو الحاكم، وكلاهما استبداد، وهذا مضافاً إلى مفاسده العظيمة فإنه يوجب الوقوع في الحرام.

المسألة الثالثة: بين الحزب الحاكم وحزب الحاكم

يدل الاستقراء في الحياة السياسية على انقسام أنظمة الحكم عادةً إلى صنفين: صنف يحكم فيه حزب حاكم، وصنف آخر يحكمه حزب الحاكم، والبون بعيد بين الحزبين؛ فإن الأول يصل إلى الحكم بالطرق الاستشارية وبالتنافس والانتخابات الحرة بعد توفر الشرائط الخاصة، وهو الصحيح عقلاً وشرعاً، وأما الثاني: فهو الحزب المستبد الذي يحول السلطة والدولة إلى ساحة للقمع وإلغاء الآخرين، ولهذا الصنف من الأحزاب أسلوبان في الحكم عادة:

 الأسلوب الأول: يبقى هو الحزب الوحيد الذي يتولى الأمور بعد ضربه لسائر الأحزاب الأخرى، فيشكل رئاسة الدولة وأكثر الوزراء والمدراء من أعضائه ، فيكون حزباً وحاكماً في نفس الوقت، ومثل هذا الحزب يمارس سياسة مستبدة، ويستند في حكمه على القوة بالمال أو السلاح أو الخداع لتمرير سياسته أو التغطية على مساوئه، الأمر الذي يؤخر الوطن والمواطن، ويتراجع إلى الوراء، كما يؤخر نفسه ويسوقها إلى السقوط، وقد عانت البشرية الكثير من مثل هذه الأحزاب، كما أن سقوطها السريع دليل فشلها، كما لوحظ في مثل الأحزاب النازية[7] والفاشية[8] وغيرها.[9]

وفي الفقه السياسة قال السيد الشيرازي (قدس سره): رأيت ثلاثة وأربعين حزباً في العراق كلها سقطت في أقل من ربع قرن ؛ وذلك بسبب عدم امتلاكها لشروط الحزب الصحيح.[10]

الأسلوب الثاني: أن يؤسس الحزب رئيس الدولة أو الحكومة أو أصحاب النفوذ لمصالحهم، ومن الواضح أن مثل هذا الحزب لا يكون إلا مهلهلاً نفعياً لا تلاؤم بين أفراده، ولا هدف سامي له، ولا وسيلة صحيحة؛ لان ما يجمعهم هو الانتفاع وحب السلطة ومصالح الحكم، مما يبدل البلد والناس إلى ثروة يتلاعب بها أعضاء الحزب وكباره النفعيون، ويتمتع جميعهم بالحرية المطلقة والاستيلاء على مقدّرات الناس، بينما يكبل الآخرين بالقيود والسجون والإرهاب ونحو ذلك، وقد مثل لذلك بالحزب الاشتراكي الذي اسسه جمال عبد الناصر وحزب راستاخيز الذي اسسه شاه إيران، ومن الواضح أن مثل هذا الحزب يبقى ببقاء الحاكم، فإذا زال الحاكم زال، وقد يحل الحاكم بنفسه الحزب إذا تعارض مع مصالحه.[11] هذا بخلاف الأحزاب الصحيحة المتمتعة بشرائط الحزب السياسي الصحيح، فلأنه جزء من الأمة ويسعى لكسب ثقتها وتأييدها فإنه يهدف الى إصلاحها ورقيها والدفاع عنها، ولأنه يريد الحفاظ على الثقة والاستمرار في حركته باتجاه أهدافه السامية، فإنه حتى إذا وصل للحكم يوسع من خدماته وإصلاحاته، ويجعل لنفسه رقيبا لإحصاء المساوئ وتوجيه الانتقاد لغرض الاصلاح، حيث يتمتع بالحركة والنشاط والفاعلية وقوة المال والقدرة.

ومن الواضح أن الحزب في مثل هذه الصفات يكون جزءاً من الأمة، ويريد خدمة كل الأمة؛ ولذا فهو يتكلم عن الأمة، ويجد  لأجل الوصول إلى الحكم، لا لأجل نفسه ومن أجل زعمائه، بل لأجل الكل؛ ولذا يعد من يخالفه عادة مخالفا للأمة وطموحاتها، كما تقف الأمة إلى جانبه في آلامه وهمومه، فضلاً عن آماله وطموحاته. هذا ومن أجلى مظاهر قوة الحزب وتأييد الأمة له هو قدرته على تكوين المظاهرات والإضرابات الحرة في اي وقت وظرف يريد، وكلما كان الحزب أقدر على هذين كان في الغالب دليلاً على كثرة شعبيته، وبالقوى الشعبية المتزايدة والمؤمنة بسياسته يتمكن الحزب من فرض إرادته على الدولة وإصلاح سياساتها وتعديل برامجها وتحقيق المصالح الاجتماعية بحسب ما يراه صالحاً، والعكس بالعكس أيضاً.

المسألة الرابعة: في منع الاحزاب المنحرفة

ربما يتصور البعض أن الإسلام يحد من الحرية الحزبية لكونه لا يجيز للأحزاب غير المؤمنة بالإسلام العمل السياسي، وهذا يتنافى مع الحرية، بل ويجعل النظام السياسي الإسلامي أقل شأناً من الأنظمة الغربية الحرة،  وهذا التصور خاطئ لأن الإسلام دين بني على العقيدة الحقة والشريعة المدعومة بالأدلة، ومن الواضح أنه ليس من الصحيح إجازة الصحيح للغلط والمستقيم للمنحرف، أما الصغرى فقد قامت عليها الأدلة العقلية المتضافرة، ولأنها مسألة اعتقادية نوكلها إلى مظانها[12]، وأما الكبرى فلوضوح أن الانحراف في العقيدة ينتهي إلى الانحراف في العمل، والانحراف في العمل معناه تناقض الإنسان مع نفسه ومع السنن الكونية، وهذا ينتهي إلى هدم الحياة، فإجازة الحزب غير الصحيح كإجازة التحزب للصوص والقتلة وغيرهم من المنحرفين فكريا وعمليا.

 وقد أثبت علم النفس الاجتماعي فضلاً عن علوم الحياة البشرية بل والآيات والروايات الشريفة[13] أن الفكر والتفكير هو القائد الحقيقي لسلوك الإنسان، كما أنه المنظر العميق لمستقبله، فإن التفكير هو الذي يقود الطبيب إلى العيادة، والمهندس إلى المعمل، والطالب إلى الجامعة، والعابد الى المسجد، كما أنه هو الذي يقود القاتل إلى القتل، والمجرم السفاك إلى إجرامه، والخمّار إلى المخمرة، والظالم إلى ظلمه، وإنما يوفق الناس وينتصرون في أهدافهم وطموحاتهم بسبب أفكارهم، ولعل ما ورد من قوله J: نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله[14] يشير إلى بعض ذلك[15] ، وانما عبّر بالنية؛ لأن الفكر مرآة للنيّة، فصاحب النية الحسنة يمتاز بفكر حسن وبالعكس؛ أو لأن النيّة هي الفكر، والمقصود به مايضمره الانسان من رؤى وتصورات التي تكون سببا او بعض السبب في عمله.

وكيف كان، فمن مجمل الرواية يستفاد أن الفكر والنية لهما المدخلية الكبيرة في قيادة الإنسان نحو الصلاح أو نحو الفساد.

وعليه، فإن السماح للمنحرف أو الخرافي ونحوهم بالعمل يؤدي إلى الظلم والعدوان، وهل يجوز أن يفسح المجال للقاتل؟ أو تعطى الحرية للظلمة ليوسعوا من الظلم والفساد؟ وبما ذكرناه يظهر الجواب عما قد يتوهم من أن حكومة الإسلام أقل حرية من الحكومة الغربية الحرة على ما يزعمون؛ بداهة أن الحرية اللامسؤولة ليست حرية موضوعاً، بل هي فوضى، فلا تشملها أدلة الحرية، بل يحكم العقل والعقلاء بقبح إباحتها فضلاً عن الشرع.

كما أن القول بأن حكومة الإسلام أقل حرية يجاب عنه بجوابين: حلي ونقضي. أما الحلي فمن جهة أن الجهل بالموازين الإنسانية والفطرة أوقع مثل أمريكا وبعض الدول الغربية بالفوضى ومناقضة فطرة الإنسان بشبهة الحرية، فأباحوا الزنا واللواط والزواج بالجنس المماثل والربا، وأجازوا استغلال الإنسان القوي للإنسان الضعيف، ومن الواضح أن الوقوع في الخطأ لشبهة أو لغيرها لا يبيح الاقتداء به؛ لأن الخطأ قبيح، والوقوع فيه مع العلم والعمد أقبح. هذا فضلاً عن الحرمة الشرعية.

وأما النقضي فمن جهة أن الدول الحرة على ما يقولون هي بنفسها لم تجز إلا الأحزاب التي تعمل في إطار الوطنية، ولا تجيز الأحزاب التي تعمل في خارج هذا الإطار، كما لا يجيزون الأحزاب المخالفة للحرية والديمقراطية عندهم، فكيف يجيبون عن مثل هذا؟ بل نقول: إن حرية الإسلام أوسع مما يتصورون؛ لأنه أجاز الأحزاب المؤمنة به والعاملة لأجله، كما أجاز الأحزاب العاملة لأجل الوطن، بينما البلاد الغربية لم تجز إلا الأحزاب الوطنية، مع أن الوطن أضيق من العقيدة مضموناً، كما أنه أضيق هدفاً. هذا فضلاً عن التحزب الوطني الذي يمارسه الغرب في تحديد الحرية، فإنه إذا أراد مسلم غير مواطن في بلاد الغرب تأسيس حزب لم يسمح له بذلك، ويعلل أنه ليس من أهل الوطن، بخلاف الإسلام فإنه يبيح للمواطن العمل لأجل الانسان والوطن. نعم منع الإسلام الكافر ونحوه من محاربة الدين، وهذه قضية مشتركة حتى في الدول الحرة؛ إذ لا يبيحون الأحزاب المنافية لعقيدة البلد، ويمتاز الإسلام بالتوسعة لشموله للعقيدة والوطن والإنسان.

في حرمة الأحزاب الكافرة

لايخفى أن الإسلام لم يجز الحزب الكافر لوجوه صحيحة عقلية وعقلائية، بينما القانون الغربي لم يجز الأحزاب الإسلامية لوجوه باطلة؛ إذ الإسلام يمنع من الأحزاب التي تتنافى مع عقيدة الأمة، أو تضللها أو تحرفها عن مسارها الإنساني والإسلامي الصحيح.

 وبالتالي فإن الإسلام إذا يمنع من الأحزاب الكافرة فإنه يمنع غير الأكفاء عن التصدي لأي مسؤولية تحتاج إلى الكفاءة، وعدم الكفاءة فيه ترجع إلى أمر اختياري لاختياره الكفر والانحراف، أو الرذيلة وما أشبه، بخلاف القانون الوضعي فإنه لم يجز الحزب المسلم بحجة انعدام الهوية الوطنية فيه، مع أن الوطنية ليست من الأمور الاختيارية، مما يدل على أنه يحرم الأكفاء عن التصدي لما ينبغي فيه الكفاءة، وهذا المنع اعتباطي؛ لأن عدم ولادة الإنسان في ذلك الوطن يرجع إلى أمر ليس باختياره، وبهذا يظهر أن الإسلام له حرية مبنية على الوجوه العقلية الصحيحة، بينما القانون الوضعي يقوم على مبان باطلة، والفرق كبير بين الأمرين.

المسألة الخامسة: في أحزاب الأقليات

 يجوز للأقليات أن تشكل أحزاباً للدفاع عن مصالحها سواء كانت الأقلية دينية او مذهبية أو لغوية أو نحوها؛ لأصالة الحرية والسلطنة. نعم لا يجوز لها التصدي لأمرين:

أحدهما: تولي الرئاسة العليا أو الحصول على الأكثرية الوزارية أو المجلسية؛ لما عرفت من أدلة الأكثرية ولزوم الأخذ بها في الحاكم والحكومة.

ثانيهما: أن لا تمضي سياستها وخططها على أكثرية الأمة، فلا يجوز أن يطبق الحزب المسيحي مثلاً سياسته على المسلمين، فمضافاً إلى أدلة الأكثرية تشمله مثل أدلة العلو ونفي السبيل[16]. نعم يحق له أن يشترك في حكومة ائتلافية وفي مجلس الأمة بقدر حصته وما يمثله من أقليته، فلا يظلم ولا يظلم، كما لا يجوز لحكومة الأكثرية أو حزب الأكثرية أن يفرض إرادته أو عقيدته أو خططه على الأقلية إلا وفق اتفاقات تقنينية وضوابط مصوبة من قبل أهل الشأن من الأمة وأهل الحل والعقد فيها.

وكيف كان، فإنه كلما كان حزب الأقلية أكثر نضوجاً تمكن من الوصول إلى أهدافه أسرع، كما أن نضج حزب الأكثرية يساعد على احترام الأقلية وحفظ حقوقهم فلا يَظلمون ولا يُظلمون؛ إذ لا يجوز أن تصادر حقوق الأقلية بحجة الأقلية، لأنه ظلم من جهة، ولأن حقوق المسلمين لا تبطل[17] إن كانوا من المسلمين، وإن كانوا من غيرهم فقد لعن الاسلام من ضيّع من يعول[18] من جهة أخرى. هذا مضافاً إلى ما يترتب عليه من مفاسد عظيمة يحكم العقل والشرع بلزوم دفعها، وتدل شواهد الحياة السياسية المختلفة على أن حزب الأقلية قد يتبدل إلى حزب سياسي حاد، وربما عنيف أو متحالف مع الخصوم إذا لم تستجب الدولة إلى مطالبه، كما تبدل حزب الاتحاد الإسلامي الأحمر الذي تشكل في إندونيسيا إلى الحزب الشيوعي زعماً منه أنه بهذه الطريقة يتمكن من إنقاذ حقوق المسلمين،[19] كما قد يتبدل حزب الأقلية إلى حزب الأكثرية إذا سار في هذا الطريق وحقق الشرائط، وربما  سبب تفرق المجتمع وتجزئته تجزئة الدولة نفسها فيما إذا كان الحزب قوياً وخبيراً بمواقع الدولة[20].

وفي الفقه السياسة: أن ذلك حدث بالنسبة إلى الجناح الإسلامي في حزب المؤتمر في الهند، حيث سبب تجزئة الهند إلى الهند والباكستان، وذلك إثر عدم قبول حزب المؤتمر إعطاءهم حق الأكثرية بالأقلية بأن يعملوا بالنسبة إلى المسلمين الذين كانوا يمثلونهم ما يشاؤون، فقال الجناح الإسلامي: الآن وأنتم تحت الاستعمار البريطاني وضعفاء لا تقررون لنا ذلك الحق، فإذا وصلتم إلى الحكم وكانت لكم الأكثرية ذاب المسلمون في أكثريتكم؛ ولذا جنح الجناح الإسلامي بقيادة محمد علي جناح إلى الاستقلال... وهناك خلاف بين المسلمين في الباكستان والمسلمين في الهند، فهل كان استقلال الباكستان في نفع البلاد؟ حيث لولا الاستقلال لذاب المسلمون في الأكثرية غير الإسلامية كما يقوله الباكستانيون؟ أو كان الأصلح العكس بأن لا تستقل الباكستان حيث تكون القوة الإسلامية في القارة الهندية ضمان لرجوع الهند كما كانت في أيديهم قبل استعمار بريطانيا للهند؟ وقد ابتليت الباكستان بالتجزئة من جهة حزب الأقلية الذي تشكل في الباكستان الشرقية باسم حزب العوام، حيث قوي هذا الحزب وبمساعدة الهند وسائر الحكومات الاستعمارية تمكن من تجزئة الباكستان، وتولدت بذلك حكومة بنغلادش[21] .

ثم لا يخفى أنه قد تتشكل أحزاب الأقلية بالنسبة إلى الصنائع والمهن، مثل: حزب التجار والفلاحين والمحامين وما أشبه، لكن في الغالب تفشل مثل هذه الأحزاب لكونها ضيقة الأفكار والهموم والآمال، ومن المتعذر وصولها إلى الحكم عادة. نعم يمكن أن تشكل حزباً كبيراً لو تضامنت واتحدت، فحينئذٍ يمكنها أن تكون قدرة كبيرة وتعبر عن شرائح كبيرة من الأمة، كما يمكنها أن تشكل قوة ضاغطة لدعم أنصارها أو المطالبة بحقوقها وما أشبه ذلك.

المسألة السادسة: في أصناف الأنظمة الحزبية

  إن تطور الأحزاب عدل كثيراً من هيكلية الأنظمة السياسية، وأثر على طبيعتها القانونية والسياسية فضلاً عن ممارساتها الحكومية، فالأنظمة السياسية التي تعرف تعدد الأحزاب تختلف بها الحياة السياسية عن تلك القائمة على نظام الحزب الواحد، أو تلك الأخرى التي لا تعرف الأحزاب مطلقا، والظاهر أن في وقتنا الحاضر من الصعب تصور وجود نظام سياسي لا مدخلية للأحزاب فيه، أو لأي تنظيم داخلي، والاستقراء الخارجي للأنظمة الحاكمة في الدول يدلنا على أن الأنظمة السياسية المبنية على الأحزاب والقائمة في العالم اليوم على ثلاثة أصناف:

الأول: نظام الحزب الواحد.

الثاني: نظام الحزبين، أو ما يعبر عنه بالثنائية الحزبية.

الثالث: نظام تعدد الأحزاب.

أما نظام الحزب الواحد فالظاهر أنه ظهر في بداية القرن العشرين مع الثورة الشيوعية على ما يعبرون، ومع الأنظمة الفاشية، وقد انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية في جملة من دول مايسمى بالديمقراطيات الشعبية، وبالأخص في دول أوروبا الشرقية على أثر خضوعها للاتحاد السوفياتي، وأما في دول العالم الثالث فأكثر ظهور أنظمة الحزب الواحد كانت بعد نيل استقلالها الظاهري من الدول الاستعمارية التقليدية،[22] غير أن هذا النظام لا يعني بالضرورة غياب الأحزاب الأخرى؛ إذ في بعض الأحيان نجد أن أنظمة سياسية سمحت بوجود أحزاب أخرى إلى جانب الحزب الحاكم، ومن هنا صنفت أنظمة الحزب الواحد إلى صنفين:

الأول: نظام الحزب الواحد الجامد

 ويتمثل بإقامة استبداد قوي يستند على آلة الحزب المسيطرة على الجماهيرعن طريق العقيدة والتنظيم الجماهيري، ويتوخى من ذلك الخداع عادة؛ لأنه يتخذ من التنظيم آلة لقمع الناس وكشف أسرارهم ونحو ذلك، وفي نفس الوقت الظهور بمظهر الحرية واحترام الرأي الآخر، والحال أن الحقيقة على خلاف ذلك، فالحكم لا يقوم بأي دور فاعل؛ لأن الحزب الواحد يهيمن على آلة الدولة، ولا يسمح بقيام أحزاب وتنظيمات أخرى إلى جانبه، كما أنه لا يسمح بوجود تيارات تختلف في الرأي وفي الاجتهاد في داخل الحزب ، ولعل من أكبر النماذج لذلك في الأنظمة العالمية هو الحزب الشيوعي الذي حكم الاتحاد السوفياتي، وغيرها[23]، وكذلك الحزب النازي الألماني[24]، والحزب الفاشي الإيطالي[25]، وبعض الأحزاب الحاكمة في بعض البلاد الإسلامية[26] .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض دول أوروبا الشرقية سمحت بقيام أحزاب ثانوية إلى جانب حزبها الشيوعي الحاكم، لكن هذا لا يخرجها من ضمن الدول المستبدة ؛ لأن قيام بعض الأحزاب الثانوية في البلد لا يجعل منها نظاماً للتعددية الحزبية، لأن الأحزاب الصغرى لا تقوم بدور فاعل ومنظور في الحياة السياسية، بل تدور عادة في فلك  الحزب الحاكم الذي يسيطر على السلطة كلها والهيئات العاملة في الدولة.

الثاني: نظام الحزب الواحد المرن

 وهذا النوع من الأنظمة يسمح  عادة بوجود أحزاب ثانوية إلى جانب الحزب الحاكم ،وشواهده في أنظمة العالم كثيرة، لكنك عرفت أن هذه التعددية لا متوازنة؛ إذ لا تجعل من البلد حراً، ولا من الشعب مختاراً، وهنا تجدر الإشارة إلى أنه سواء كان الحزب الواحد مرناً أو كان جامداً فإنه يؤدي بالنتيجة إلى هيمنة الحزب الواحد على مؤسسات الدولة كلها، وإلى تقييد الحريات السياسية، كما وينحصر الاختيار في الحزب، ويكون قائده هو الموجه والمالك للسلطات كافة، وأما سائر الناس فلا حرية لهم ولا اختيار إلا بقدر  ما يسمح لهم  الحزب الحاكم،[27] ولذا فإن مثل هذا النوع من الأنظمة محرم لكونه استبداداً، وتشتد حرمته بازدياد مفاسده واضراره  .

وأما نظام الثنائية الحزبية فيتراوح عادة بين المرونة والجمود أيضاً حسب ما إذا كان النظام رئاسيا أو برلمانيا، وتعني الثنائية الحزبية وجود حزبين رئيسيين يتنافسان على كسب أصوات الناخبين وعلى التعاقب على السلطة بفعل وصول الحزب الفائز إلى الحكم لتقديمه للمشروع، أو البرنامج الأفضل، وتشكيل حكومة مستقرة ثابتة لاستنادها على أكثرية نيابية وفية ومتماسكة، ويتصف النزاع بين الحزبين عادة بالاعتدال؛ لأن الأقلية المعارضة تسعى خلال المنافسة  الانتخابية إلى كسب الأصوات العائمة أو المترددة لكل حزب، وهذا ما يجري حاليا في جملة من دول العالم الحر على ما يعبرون، والظاهر أنه لا مانع عقلي أو شرعي يلغي شرعية مثل هذه الأنظمة لو توفرت على الشرائط الشرعية من كونها بإذن الفقيه الجامع للشرائط ، أو تحت إشراف شورى الفقهاء، وكانت باختيار الأمة مع مراعاة حقوق الآخرين في العمل السياسي والرأي الحر، وما أشبه ذلك.

وأما نظام التعددية الحزبية فله صيغتان:

الأولى: نظام الأحزاب المسيطر أحدهاعليها، وذلك يتصور فيما إذا كانت في أحد هذه الأحزاب مؤهلات أكثر لإدارة الحكم، وكان له أنصار كثيرون، إما لسوابقه اولأنه قدم البرنامج الأفضل، أو تمتع بأسلوب إداري  وسياسي أكمل وأقوى من غيره، فتمكن من استقطاب الناس وحفظ نفسه عن الانزلاق، وقد ورد في الماثور«من أصلح فاسده أرغم حاسده»[28] .

وفي الفقه السياسة:أن الهند منذ استقلالها من يد بريطانيا عام 1948 ميلادية إلى الآن يسيطر على الحكم فيها حزب المؤتمر الذي تحمل أكثر الأتعاب في تحريرها؛ ولذا فهذا الحزب له الأكثرية في المجلسين التشريعي والتنفيذي، وأما سائر الأحزاب  المجازة فليس لها شيء يذكر.[29]

الثانية: نظام التعددية الحزبية المتنافسة، وفي مثل هذا النظام يمكن أن لا يفوز أحد الأحزاب بأكثرية الآراء للتنافس الشديد بين الأحزاب، أو لتوازي المؤهلات؛ ولذا لا يتمكن أحد الأحزاب أن يمسك بأزمة القدرة وينفرد فيها ، وتتشكل منهم عادة حكومة ائتلافية، وتوزع بينهم المناصب والمسؤوليات بحسب النسب، وكذا توزع بينهم الوزارات في الحكومة، فإذا فرض بأن أحد الأحزاب كان له خمسون بالمائة من المجلس والثاني له ثلاثون والثالث له عشرون وزعوا الوزارات فيما بينهم بتلك النسبة، فإذا كان عدد الوزراء عشرين كان للأول عشرة، وللثاني ستة ، وللثالث اربعة  وهكذا، وإذا لم تأتلف بالدولة وتتشكل الحكومة من هذا التنوع الحزبي سقطت الدولة[30] كما سقط اعتبارها، والظاهر أنه لا مانع عقلي أو شرعي منه أيضاً ما دام متوفراً على الشرائط المتقدمة، فهو بحكم الأصل الأولي مباح ، فإذا انطبقت عليه العناوين الوجوبية أو الندبية كان كذلك.

وكيف كان، فقد عرفت مما تقدم أن الإسلام لم ينص على صيغة واحدة من صيغ الأنظمة حتى يحكم بتعيينها، بل اكتفى بتحديد الكبرى وشرائطها، وترك اختيار الصيغة الأفضل لكل أمة بحسب ظروفها وقدراتها، وتشخيص أهل الخبرة من أبنائها، وعليه فلو اتفقوا على نظام التعددية مثلاً أو الثنائية وجب ذلك، ولا يجوز مخالفته ، ولو اختلفوا وكانت أكثرية وأقلية فرأي الأكثرية هو المقدم عقلاً وشرعاً، وإن تساوت الآراء فيمكنهم اختيار التنصيب في الحكم، وجعل رئاسة الحكومة دورية لو اتفقوا على ذلك، ويمكنهم معاودة التصويت كما يمكنهم الرجوع إلى القرعة؛ لأنها حجة في  الموضوعات المشكلة،[31] بناء على عموم حجيتها لغير موارد عمل الأصحاب، كما يمكنهم جعل ضوابط وتقنينات في مجلس الأمة لإيجاد صيغة توجد الحل المنطقي المقبول من قبل الأمة تمسكاً باللابدية العقلية الحاكمة بأصالة التخيير فيما لم يمكن الجمع بين الحقين بعد فرض أن كل الصيغ المذكورة هي مصاديق للكل القاضي بلزوم الأخذ برأي أكثرية الأمة بعد توفر الشرائط الشرعية. هذا بالنسبة لنظام الثنائية الحزبية أو التعددية.

وأما نظام الحزب الواحد فلا مجال للأمة لاختياره بعد تحريم الشارع له وقضاء العقل بقبحه، فضلاً عن الآثار المترتبة عليه من المفاسد والظلامات ؛ إذ لا مجال للأمة في أن تحلل الحرام أو تحرم الحلال .هذا بعض الكلام في الأحزاب السياسية، وظل هناك كلام طويل ومفصل نوكله إلى محله، وقد فصلنا جملة منه في كتابنا الحرية السياسية المعالم والضمانات.[32].

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

 ............................................

[1] سورة آل عمران: الآية 133.

[2] سورة البقرة: الآية 148 .

[3] سورة المطففين: الآية 26 .

[4] سورة القصص: الآية 77 .

[5] سورة العلق: الآية 6-7

[6] نهج البلاغة: ص500 الحكمة 160 ؛ البحار: ج72 ص357 ح71 .

[7] انظر موسوعة السياسة: ج2 ص503 -505  .

[8] _المصدر نفسه ص505 – 507 .

[9] المصدر نفسه ص415 _ 422 .

[10] الفقه كتاب السياسة : ج106 ص108 .

[11] انظر الفقه  كتاب السياسة: ج106 ص110 .

[12] انظر الكافي: ج1 ص59-60 ح1وح2وح3وح7وح8وح10؛ جمال الاسبوع: ص471 ؛ البحار:ج 87 ص83 .

[13] فالايات مثل قوله تعالى:  افلا يتدبرون القران سورة النساء: الآية 82 ؛ وقوله تعالى: او لم يتفكروا في انفسهم سورة الروم: الآية 8 ؛ وقوله تعالى: وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون سورة الحشر: الآية 21 .

واما الروايات فكثيرة منها ماعن اميرالمؤمنين (عليه السلام):  الفكر مرآة صافية» نهج البلاغة: ص538 الحكمة 365 ؛ ومنها قوله (عليه السلام): بالعقول تنال ذروة العلوم» تصنيف غرر الحكم ص53 رقم441 ؛ وقوله (عليه السلام): لاعبادة كالتفكير» تصنيف غرر الحكم: ص56 رقم532 ؛ وقوله (عليه السلام): الفكر احد الهدايتين» تصنيف غرر الحكم: ص57 رقم584 ؛ ومنها خطبة لامير المؤمنين (عليه السلام)  : دائم الفكر، طويل السهر، عزوفا عن الدنيا» الكافي: ج8 ص172 ح193 .

[14] الكافي: ج2 ص84 ح2 ؛ الوسائل: ج1 ص50 ح95 باب6 من ابواب مقدمة العبادات .

[15] انظر كشف الغطاء: ج1 ص58 .

[16] لقوله تعالى:  ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا سورة النساء: الآية 141 ؛ وقوله ص :  الاسلام يعلو ولايعلى عليه» الفقيه ج4 ص243 ح778 ؛ الوسائل: ج26 ص125 ح32640 باب15 من ابواب ميراث الابوين والاولاد.

[17] الكافي: ج7 ص198 ح2 ؛ عوالي اللآلي: ج1 ص315 ح36 .

[18] الكافي: ج4 ص12 ح9 ؛ الفقيه: ج2 ص38 ح167 .

[19] انظر موسوعة السياسة: ج2 ص346-347 .

[20] المصدر نفسه: ص519-522 .

[21] الفقه كتاب السياسة : ج106 ص176 بتصرف .

[22] انظر موسوعة السياسة: ج2 ص312 .

[23] انظر موسوعة السياسة : ج2 ص278 – 279 ؛ و ص386 ؛ القاموس السياسي : ص454 .

[24] موسوعة السياسة: ج2 ص503-504 ؛ القاموس السياسي: ص1340 – 1342 .

[25] موسوعة السياسة: ج2 ص505 – 507 ؛ القاموس السياسي : ص12265 -1266 .

[26] موسوعة السياسة : ج2 ص258-259  ؛ وص35 2.

[27] موسوعة السياسة: ج2 ص527 .

[28] الكنى والالقاب :ج2 ص83 ؛  البداية والنهاية : ج11 ص345 .

[29] انظر الفقه كتاب السياسة  : ج106 ص208 .

[30] الفقه كتاب السياسة  : ج106ص210 .

[31]لقول الامام الكاظم (عليه السلام): كل مجهول ففيه القرعة» ؛  التهذيب ج6 ص240 ح594 ؛  الفقيه ج3 ص52 ح174 وفي رواية كل مشكل فيه قرعة» عوالي اللآلي ج3 ص512ح69 .

[32] الحرية السياسية المعالم والضمانات : ص287 .

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 15/كانون الأول/2012 - 30/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م