دولة العدالة والقيادة المتوازنة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: من مرتكزات الدولة القائمة على العدالة، في ادارة شؤون الشعب وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أن يكون المسؤول تحت سطوة القانون حاله حال المواطن العادي، بمعنى لا يصح ابدا في دولة العدالة أن يطلق العنان للمسؤولين وذوي المناصب، والمقربين من الحاكم الاعلى، في حين يتم تطبيق القوانين بحذافيرها على المواطنين العاديين، والسبب أن اهم مرتكز من مرتكزات العدالة سوف يغيب في هذه الحالة، وسوف تسود الفوضى، وتزدهر ظاهرة (القوي يأكل الضعيف) وهو ما يحدث فعلا في ظل الانظمة الفردية العسكرية التي تقوم على البطش والكيل باكثر من مكيال، وتستخدم سياسة التفريق بين الناس، وتجعل المسؤول متربعا على عرشه العالي دونما مساءلة، فيما يقبع الآخرون في المكان الاسفل، ويطبق عليهم القانون بأقسى ما يمكن تحمله وتطبيقه.

العدالة تطال الجميع

وفق هذه الرؤية العادلة، لابد أن يقبع الجميع تحت خيمة العدالة، ولا يجوز للحاكم الاعلى أن يغض الطرف عن المسيئين من معاونيه وحاشيته، فيما يكون القضاء فاعلا على الآخرين ومسلطا كالسيف على رقابهم، لذا في دولة العدالة الكل يخضع لسلطة القضاء العادل بغض النظر عن سلطته او منصبه او نفوذه، لذا كان الامام علي عليه السلام يراقب موظفيه المقربين على وجه الخصوص، ويتعامل معهم بعدالة تامة كما يتم التعامل مع عامة الناس.

يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله الوارف) في كتابه القيم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) في هذا المجال: (كانت رقابة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للموظفين في رأس سياسته الإدارية لهم. إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام لا يريد الموظفين لكي يسبحوا باسمه ـ شأن كثير من الحكام والساسة ـ وإنما يريدهم يسبحون باسم الله تعالى، يريدهم على طريق الله دقيقاً وكاملاً ودائماً، لذلك: فكما تم نصبهم على يده، كذلك يرى نفسه مسؤولاً عن تصرفاتهم. فكان ينصحهم، ثم يوجههم، ثم يعاتبهم على تصرفات غير لائقة، ثم إن لم يفد ذلك كله كان يعمد إلى عزلهم، وعقوبتهم إن استحقوا العقوبة).

لذلك الجميع في دولة العدالة يخضعون لسلطة القضاء العادل، ولا احد مميزا على آخر مهما كانت الامتيازات او الفوارق.. لذا يضيف سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا المجال ايضا: إن (الحصانة الدبلوماسية، والحصانة الإدارية، وحصانة الوظيفة، ونحو هذه المصطلحات لا مفهوم لها عند علي بن أبي طالب عليه السلام إذا خرج الدبلوماسي عن الحق، وجار الإداري، وعمد الموظّف إلى ما لا يليق به من إجحاف، أو ظلم، أو عدم اهتمام بالأمة.. فالأصل في اختيار الموظّف وإبقاء الموظّف هو واحد في منطق أمير المؤمنين عليه السلام لايختلف أحدهما عن الآخر).

ولم يكن العدل في حكومة الامام علي عليه السلام من قبيل الشعار او الكلام المجرد من التطبيق كما يجري في ظل حكومات اليوم، تقول شيئا وتعمل ضده بالضبط، بل كانت سياسة الامام عليه السلام واضحة عادلة تطال حتى اقرب المقربين اليه، يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال قائلا بكتابه نفسه: (لقد حفظ التاريخ في هذا المجال: أنّ بعض المقرّبين إلى أمير المؤمنين عليه السلام فعل ما استوجب به العقوبة، ففرّ عن علي عليه السلام ، فأخذوه إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال للإمام: «والله إن المقام معك لذل، وإن تركك لكفر». يريد بذلك: أنك لا تفرق بين أصدقائك وغيرهم ولا تسامحهم بما لاتسامح به غيرهم).

قضايا تخص الولاة

ومن الامور المهمة التي كانت تنتهجها الحكومة الاسلامية في ظل قيادة الامام علي عليه السلام، التعامل الحاذق والصارم مع الولاة، إذ ليس هناك من هو بعيد عن المساءلة فيما لو اقترف ذمبا او أخطأ، حتى لو كان مقربا او مسؤولا كبيرا في الدولة، يذكر لنا سماحة المرجع الشيرازي احد مواقف الامام علي السلام مع احد ولاته قائلا: (أورد النوري رحمه الله في مستدرك الوسائل عن كتاب -غوالي اللئالي- قال: «روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ولى أبا الأسود الدؤلي القضاء ثم عزله. فقال أبو الأسود له: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال عليه السلام : «إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك». المتخاصمان إنسانان محترمان في منطق الإسلام، وليس للقاضي أن يهينهما بأية إهانة، ورفع الصوت نوع إهانة، وليس ذلك من أدب الإسلام في القضاء.. إذن ينبغي أن يعزل القاضي الذي يمارس ذلك، وإن كان مثل أبي الأسود الدؤلي في علمه وفضله، وخلقه وقربه من أمير المؤمنين عليه السلام فإنّ الحق لا مداهنة فيه في منطق علي بن أبي طالب عليه السلام).

ولم يكتف الامام علي عليه السلام بالثقة وحدها، خاصة مع الولاة بل كان يتابعهم ويتعامل معهم بالحزم المطلوب، لأن اركان الدولة من دون التعامل العادل مع الجميع ستهتز حتما، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الخصوص بكتابه المذكور نفسه: (بالرغم من أنّ سيرة أمير المؤمنين عليه السلام في حياة رسول الله صلی الله عليه و آله وبعد وفاته صلی الله عليه و آله في حياة من تقدّمه كانت خير معرف لـه عليه السلام في مستقبل حياته،وكان الولاة والموظّفون الذي يبثهم هنا وهناك يعرفون أسلوب أمير المؤمنين عليه السلام جيداً.. لكن مع ذلك كله لم يكن ليفوّت علياً عليه السلام مراقبة أحوال ولاته وعمّاله ومحاسبتهم، لكي لا يظلم بعضهم الناس).

ولابد لمن يتولى امر الناس وادارة شؤونهم ان يكون عارفا بشؤون الادارة والعلم والعدل، كونه يمس حياة الناس على نحو مباشر وان اي جهل في هذا الخصوص يؤدي الى نتائج سلبية تنعكس على واقع دولة العدالة برمتها، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (يجب أن يكون –العامل أو الوالي- عالماً بأحكام الإسلام، والحلال والحرام، وكيفية الوساطة في الأمور بين الله تعالى وبين خلقه. ويجب أن يكون عادلاً، مؤمناً، خيراً، لا فاسقاً، ظالماً، مجحفاً. والعامل الذي اجتمع فيه العلم والعدالة لماذا كل هذا التهديد الشديد معه؟ إنه صرامة الحق، وحدّته التي هي أشدّ من حدّ السيف).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/كانون الأول/2012 - 28/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م