مصر وتونس والثورة في الثورة

عريب الرنتاوي

في الجدل المحتدم الدائر حول مستقبل مصر وتونس وهويتيهما وطبيعة النظام السياسي الذي يتعين اجتراحه بعد سنوات وعقود من الفساد والاستبداد، يعيد إسلاميو البلدين إنتاج خطاب النظامين البائدين بحذافيره غالباً، وببعض التعديلات اللفظية في بعض الأحيان.. ويشاركهما هذه المهمة، الغربية فعلاً عن روح الثورات وزمن الربيع العربي، نفر من الإسلاميين العرب، الذين ما زالوا في صفوف المعارضة والشارع... هؤلاء تبدو مهمتهم أصعب وأكثر فجاجة، فهم في دولهم ومجتمعاتهم ما زالوا أهدافاً للخطاب الاستبدادي الإقصائي لأنظمتهم الحاكمة، بيد أنهم يتطوعون للدفاع عن الاستبداد والإقصاء في دول أخرى، طالما أن نظرائهم وأشقائهم هم من يتربعون على مقاعد السلطة فيها (؟!).

في مصر، بات واضحاً لكل أعمى وبصير، أن الشعب منقسم بين تيارين رئيسين: تيار إسلامي متنوع اليافطات والرايات، يسعى في الهيمنة والاستئثار وإبعاد الشركاء في الثورة عن مهام بناء الدولة... وتيار يسعى في تأكيد حضوره وشراكته، ساعياً في إرساء قواعد الدولة المدنية الديمقراطية التي طالما بشّر بها... وليس مهماً كثيراً ما إذا كان التيار الأول أو الثاني هو من يتمتع بالأغلبية النسبية... فدساتير البلاد ونظمها السياسية لا تشيّد ولا تصاغ وفقاً للأغلبيات المتحركة والمتبدلة، بل بالتوافق الوطني العام والعريض، إن تعذر الإجماع، وعلينا أن نتذكر أن الرئيس مرسي مدين في موقعه هذا لأصوات ربع المصريين، بعضهم منحه صوتهم كرهاً بأحمد شفيق و"الفلول" لا حباً به ولا بالإخوان.

الإسلاميون في الحكم يصفون خصومهم بالأقلية.. في مصر يوزعونهم ما بين "فلول" و"جهول"... في تونس لا يتردد الإسلاميون عن اتهام "الأقلية الإيديولوجية" الممسكة بتلابيب الاتحاد التونسي للشغل بالمسؤولية عن حركة الاضرابات والاحتجاجات غير المسبوقة... ولو أغمضنا أعيننا قليلاً، لاستمعنا لصوت زين العابدين بن علي ينطلق على لسان راشد الغنوشي، وهو يكيل الاتهامات لخصومه... وكذا الحال في مصر، لرأينا صور مبارك والناطقين باسمه تطل من خلف صور رموز العهد الإسلامي الجديد والمتحدثين باسمه... نفس الحجج والذرائع والاتهامات والمحاججات... الضحية تتقمص شخصية الجلاد، وتستعير خطابه كاملاً غير منقوص.

أما حكاية الاحتكام للشعب فيجري تكييفها إسلامياً بالطريقة التي تخدم مصالح الحزب والجماعة والحركة و"الذراع السياسي"... في فلسطين لا رغبة لدى الإسلاميين بالاحتكام للشعب، بل الميل يتجه لتأجيل الانتخابات إلى حين ضمان نتائجها، وفي مصر يستعجل الإسلاميون الاحتكام للشعب في قضية الدستور، مراهنين على نسبة أمية تزيد عن أربعين بالمائة من الشعب... أما في تونس، فمطلوب فترة سماح قبل اللجوء إلى "الدهماء" لتقول كلمتها الفصل في الانتخابات القادمة، ودائما لضمان النتائج.. هي لعبة إذن، يجري تكيفها وتوقيت اللجوء إليها لاعتبارات سياسية وحزبية لم تعد خافية على أحد، برغم الاستخدام المفرط لسلاح "الفتوى" و"التحريم والتحليل" في هذا المضمار السياسي بامتياز.

لسنا بتركيز الاهتمام على الإسلاميين، نبرئ التيارات الأخرى ونُنزهها عن الرغبة في الاستئثار والاستبداد... لكننا نربأ بشعوبنا ومجتمعاتنا بعد عقود خمسة من الاستنقاع والركود والاستبداد والفساد، أن تعود لتجريب المجرب... ولا نريد للإسلاميين أو غيرهم، أن يعيدوا إنتاج عقود من هيمنة الحزب الواحد واللون الواحد، دفعت أمتنا أثمانها الباهظة... وربما لو نجح اليساريون والقوميين بأغلبيات واضحة في انتخابات ما بعد الربيع العربي، لحاولوا ممارسة حظوظهم في الهيمنة والاستبعاد والاستعباد... هذا أمر ممكن، ولكنّا تناولناهم بنفس الطريقة التي نتناول فيها جنوح الإسلاميين للهيمنة والتفرد... مشددين على أهمية خلق مساحة وطنية مشتركة يمكن من خلالها لمختلف التيارات والمكونات أن تمارس دورها وأن تعبر عن تطلعاتها، من دون إقصاء أو هيمنة أو اتهامات متبادلة.

في الايام الأخيرة، كال الإسلاميون الاتهامات لخصومهم بالديكتاتورية وتلقي الرشى والتعليمات والأموال.. جرى اتهامهم بالارتباط بالخارج ونسج مؤامرات.. جرى وصف مئات الألوف في الشوارع بأنها "أقلية" و"بلطجية" وميليشيات... أليس هذا ما كان يقوله أركان النظم البائدة بحق الإسلاميين أنفسهم وهم يتصدرون صفوف المعارضات في دولهم ومجتمعاتهم.

وعندما ينبري إسلاميون في دول لم تهب عليها رياح التغيير بعد، كالأردن مثلاً، للدفاع عن استبداد نظرائهم وانفرادهم، ألا يخشون من أن يفقدوا حلفاء لهم يقفون معهم ضد محاولات تهميشهم وعزلهم وشيطنتهم وإقصائهم... ما الذي سيبعث الطمأنينة والثقة في نفوس اليساريين والوطنيين والقوميين والليبراليين الأردنيين، المتطلعين للإصلاح والتغيير، من نوايا شركائهم الإسلاميين، وهو يرون ما يحدث في مصر وتونس.. والأهم، وهو يرون دفاع الإسلاميين الأردنيين عن جنوح إخوانهم المصريين والتونسيين للهيمنة والاستئثار والتفرد، وعدم التزامهم فضيلة "الصمت" حتى لا نقول تصديهم لمحاولات اختطاف الثورة والدولة معاً؟!.

في مصر كما في تونس، يتصدى الشعب بكل مكوناته، لمحاولات فريق واحد، فرض تصوراته الخاصة ومشروعه الإسلاموي الخاص على بقية الأفراد والجماعات، ونشهد اليوم اندلاع فصول جديدة من "الثورة الثانية" في هذين البلدين، أو ما يمكن تسميته "ثورة في الثورة"... وهي ثورة تستحق دعم وإسناد كل الثوريين والديمقراطيين في العالم العربي، فالثوار الذين خرجوا إلى الميادين والشوارع في هذه الدول، ما كانوا ينتظرون استبدال نظام أوتوقراطية بنظم ثيوقراطية، وما كانوا يتطلعون لإنتاج نموذجهم الخاص عن "ولاية الفقيه" تحت مسمى "ولاية المرشد".. وما كانوا يتصدون لآلة القمع والاستبداد بصدورهم العارية حتى يخرج عليهم ومن بينهم، من يصفهم بالمتآمرين و"الأقلية التافهة" و"عملاء الخارج".. هؤلاء هم ضمير الأمة ونبضها، وهم الذين سيصنعون مستقبلها بعد أن خرجوا على ثقافة الخوف والاستبعاد ونجحوا في تحطيم الاصنام والأساطير السياسية والأمنية ما تغطى منها بالهالة الفرعونية، وما تلطى منها بلبوس "الدين".

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 13/كانون الأول/2012 - 28/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م