نظرة في الخبرة الوطنية الأمريكية

صادق جواد سليمان

توطئة:

حتى عام ألفٍ وأربعمائة (1400) كان الهنود الحمر والأسكيمو وحدهم قاطني هذه القارة الشاسعة. خلال القرنين التاليين (1500 – 1600) مهاجرون من عدة أقطارٍ أوروبية عبروا المحيط الأطلسي إلى شمال وجنوب القارة الأمريكية. من بين هؤلاء قوم مشكل من بريطانيين وأيرلنديين (85%) وألمان (9%) وهولنديين (4%) وآخرون (2%) استوطنوا ساحل شمال القارة، عبر المساحة الممتدة بين ولايتي ماين Maine وجورجيا (Georgia). بعزيمة وعمل دؤوب أقام هؤلاء 13 مستعمرة نابضة: أقاموها تحت سلطة التاج البريطاني. لكن توقهم للحرية ما لبث أن دفعهم إلى كسر الطوق وإعلان الاستقلال.

في ذات القاعة التي كتب فيها إعلان الاستقلال في 4 يوليو 1787، 11 عاما عقب ذلك، في 17 سبتمبر 1787، كتبوا دستورا وحد الولايات في كيان فيدرالي: هو هذه الولايات المتحدة. كاتبوا الدستور انتدبوا من المجالس التشريعية لولاياتهم، حيث ترك لكل ولاية تحديد عدد من تنتدب. 12 ولاية انتدبت ممثلين لها، ولاية رود آيلند Rhode Island وحدها لم تنتدب. كان مجموع من انتدبوا 74 شخصا، لكن 19 منهم لم يحضروا المؤتمر، وممن حضر عدد شارك بتقطع. في النهاية، عدد من وقع على مشروع الدستور كان 39 فقط: 14 مندوبا مشاركا كانوا قد غادروا المؤتمر قبل انفضاضه، و3 من الحاضرين، لاعتراضهم على بعض البنود، امتنعوا عن التوقيع.

 جميع من انتدب وحضر وشارك وأخيرا وقع على مشروع الدستور كانو رجالا: أسنهم 81 عاما، أصغرهم 27 عاما، ومعدل أعمارهم 44 عاما: معظمهم حقوقيون، وآخرون مزارعون، أطباء، تجار، عسكريون، رجال أعمال، ورجال دين. لم تكن المهمة الموكلة إليهم صياغة دستور فيدرالي جديد، وإنما تعديل مواد في الميثاق الكونفيدرالي الذي كان منظما العلاقات بين الولايات حتى ذاك، بدافع حل مشاكل كانت قد تفاقمت بين بعض الولايات حول التجارة البينية. لكنهم إذ خاضوا حوارا معمقا ما بينهم أدركوا أن مجرد تعديل مواد الكونفيدرالية لن يجدي كثيرا، وأن مستقبل الولايات الـ 13 جمعيا، متحررة من الاستعمار البريطاني، يستوجب قيام وحدة فيدرالية. إلى ذلك، بُدءاً من 25 مايو 1787، من خلال مناقشات حيوية، ومرارا ما متخاصمة بشدة، شرعوا في صياغة دستور فيدرالي، مادة مادة، داخل قاعة قائظة، معزولة عن الخارج بباب موصد، ونوافذ مغلقة، وستائر مسدلة. كان ذلك بمدينة فيلاديلفيا، وكان في غضون أقل من 100 يوم عمل، في الفترة ما بين مايو وسبتمبر، 1787.

التحرر

لم يكن كسر الطوق الاستعماري سهلا، فقبضة بريطانيا العسكرية كانت صارمة على الولايات اليافعة، لذا الكفاح المسلح امتد على مدى ست سنوات، تخلله كر وفر، وراوحه أمل ويأس. في إعلان الاستقلال الذي انطلقت منه ثورة التحرر، أصل الثوار قضيتهم في مبدأ المساوة، وثبتوها في حقوق أعلنوها غير قابلة للنزع، كونها ممنوحة للناس كافة من خالقهم: حق الحياة، حق الحرية، وحق البحث عن السعادة. لم يكن خوضهم حرب الاستقلال مأمون النجاح، غير أنهم نذروا الحياة والمال والشرف في سبيل النصر. صرخة أحدهم (باتريك هنري (Patrick Henry: أعطني الحرية أو أعطني الموت، لا تزال تذكر بما كانوا عليه من شديد الإصرار.

وإذ تحقق الاستقلال، أقاموا جمهوريتهم على دستور اعتمدته الأمة ونظمت به شأنها اعتبارا من 21 يونيو 1788: كان ذلك يوم لم يعهد العالم بعد نظام حكم جمهوري ديمقراطي واضح المعالم منذ الزمن الإغريقي البعيد. ثم في أقل من ثلاث سنوات ضمنوا دستورهم قائمة حقوق تحمي المواطن توازيا مع حماية الوطن. في رأس قائمة الحقوق حظروا على الدولة تأسيس دين لها، أو الحد من حرية التعبد بأيما دين. حظروا عليها أيضا الحد من حرية التعبير والصحافة، ومن حق المواطنين في التجمع السلمي والتظلم.

من جانب آخر، رحبت الجهورية الجديدة بالمبحرين إليها من شواطئِ شتى بلدان العالم القديم: تمثال الحرية دعا الملكيات الأوروبية إلى إرسال أقل أفراد شعوبها حظا إلى الرحاب الأمريكي. في المقابل، منجذبين إلى الوعد بحياة أفضل في وطن جديد، ملايين من الناس عبر العالم أموا سواحل الولايات المتحدة أماً دون إياب. بذلك انطلق سياق هجرة نشط متزاخم، رفع التعداد في الوطن الجديد تراكميا من أقل من ثلاثة ملايين مستوطنا عام مولد الجمهورية إلى أكثر من ثلاثمائة مليون مواطنا اليوم (2012).

وإذ أخذ العدد في الازدياد أخذ الاستيطان في الاتساع، متمددا جهة الشمال وجهة الجنوب، ومن الشرق للغرب زاحفا من المحيط إلى المحيط. أينما اتجهوا شقوا الطرق، سلّكوا وسائل النقل، استصلحوا الأرض، استخرجوا المعادن، زرعوا الغذاء، ربوا الماشية، وطوروا مختلف مستلزمات العيش. أينما حلوا أنشأوا مدنا، أقاموا معاهد للتعليم، بنوا المستشفيات، طوروا أدوات العمل، ونظموا الحياة الوطنية وفق منهاج ديمقراطي. بذلك، نشروا العمران في أرض بكر، وأرسو ركائز حضارة حيوية جديدة، سرعان ما فاقت عرافتها الأوروبية، وأطلت على العالم بمعارف علمية ومبتكرات تكنولوجية لم تكن، أينما في العالم وقتذاك، تحسب في حيز الإمكان، أو حتى تخطر في الخيال.

تحديات وعراقيل

حصل هذا بالرغم من اعتراض تحديات وعراقيل جسيمة وجمة. ابتداء مصير الجمهورية الوليدة ذاتها ظل متأرجحا في الميزان، إلى أن انتصرت في حرب الاستقلال ضد الأمبراطورية البريطانية، وتباعا حصنت أمنها القومي باتفاقية سلام باريس (3 سبتمبر 1783). الانتشار صوب الغرب بدوره كبد الأمريكيين الأول شديد المشاق بسبب أمراض ومجاعات ومخاطر تخللت سفر العائلات المتواصل في عربات تجرها ثيران عبر قفار ومسالك جبلية وعرة.

أدهى من ذلك، حرب ثانية قرابة سنوات ثلاث (1812 -1814) فرضتها بريطانيا بإعاقتها الملاحة الإمريكية في المحيط الأطلسي، وصدها استيطان المهاجرين الجدد الآخذ بالتمدد شطر الساحل الغربي. خلال الحرب، احتلت القوات البريطانية العاصمة واشنطن، وأحرقت البيت الأبيض ومباني الكونغرس، وكادت تسيطر. خلال الحرب، ولد النشيد الوطني من قريحة أمريكي (فرانسيس سكوت كي Francis Scott Key) تواجد على ظهر بارجة بريطانية ظلت ترجم بالقنابل حصن ماك هنري McHenry على ميناء مدينة بالتيمور Baltimore طوال ليل أليل. لكن عندما أسفر الصباح كان العلم الأمريكي على سارية الحصن لا يزال يرفرف. من رفرفة العلم، الموشى بالنجوم، ولد النشيد الذي اعتمد نشيدا وطنيا بقرار الكونغرس عام 1931.

ثم خلال أقل من قرن منذ الاستقلال وقيام الاتحاد، انفصلت 11 ولاية جنوبية، الأمر الذي فجر حربا أهلية ضارية بين الشمال والجنوب طحنت في رحاها على مدى أربع سنوات دون هوادة، مئات الألوف من محاربين ومدنيين. وعندما حسمت الحرب بانتصار الشمال، والتحام الولايات جميعها (35 ولاية حتى ذاك) في الاتحاد الفيدرالي من جديد، وبإعلان تحرير العبيد، طوي عهد الرق، وأزيل خيار الانفصال، للأبد، واستقرت الجمهورية على وحدة غير قابلة للفصم، وعلى حوكمة نابعة من الشعب، لأجل الشعب، مدارة من قبل الشعب، كما وصفها الرئيس السادس عشر، أبراهام لينكولن، عام 1864.

أيضا، بشراء لوويزيانا Louisiana من فرنسا عام 1803، وشراء ألاسكا Alaska من روسيا عام 1867، وبانتزاع تاكساس Texas حربيا من المكسيك عام 1845، وضم هاواي Hawaii عام 1898 ثم إدخالها آخر ولاية (الولاية الخمسون) في الاتحاد الفيدرالي عام 1959، وسعت الولايات المتحدة مساحتها السيادية إلى ما هي عليه اليوم.

تاريخ الولايات المتحدة تاريخ أمة عظيمة فصّلت تفصيلا غير مسبوق المثال على أيدي أناس أوتوا بصيرةً، واتسموا بدرجة عالية من حب الحرية وروح المبادرة والإقدام. الرجال والنساء الذين شيدوا صرح هذا الوطن قدموا من مختلف الآفاق، ممثلين مختلفَ الأعراق والثقافات والديانات والمذاهب الفكرية. بمرور الزمن هم وذرياتهم، واللاحقون بهم تباعا، تعلموا، على أرضية الواقع المهجري، كيف يكون العيش المشترك، كيف يكون التكاتف في العمل، كيف يكون التعامل بالندية، كيف يكون الاحتكام للقانون، وكيف بالمشاركة الديمقراطية تنتظم الحياة السياسية-الاجتماعية على قاعدة سوية، متماسكة، متوازنة. وفق هذه الأنساق الأساسية، وترجماتها المؤسساتية والعملية التي وضعت تباعا، صاغ الأمريكيون الأول مستقبل الولايات المتحدة في هذه الدولة القوية، الثرية، المتنفذةِ عالميا، المتفوقةِ علما وإبداعا وإنتاجا، على نحو ما نعهدها اليوم.

المثل الأمريكية: تحديدا المساواة أمام القانون، التكافؤ في فرص العمل، وتطبيق النظام الديمقراطي محليا وفيدراليا، مكنت الولايات المتحدة من نماء مطرد وتقدم نشط. لكن لم يكن دائما معمولا بهذه المثل في الواقع المعاش. منذ عهد الاستيطان، مرورا بمنشأ الجمهورية، وحتى الحرب الأهلية، جل الأمريكيين الأفارقة، الذين لم يفدوا إلى العالم الجديد إختيارا، كغيرهم من الوافدين، بل جلبوا قسرا مقرنين في الأصفاد: هؤلاء رزحوا طويلا تحت ربقة رق أليم مهين. آخرون من الأمريكيين قاسوا من أذى التمييز ضدهم اجتماعيا، وفي فرص العمل، لكونهم وافدين جددا، أو لكونهم ة مغايرين في العرق أو الدين. السكان الأصليون، الهنود الحمر، وقد دوهموا حربيا في ديارهم، تكبدوا أشد التنكيل والتشتيت على أيدي المستوطنين. من وجه آخر، تسارع الوتيرة التنموية ظل يسبب عثارا متكررا في الدورة الاقتصادية. من حين لآخر هبوطات اقتصادية حادة، إلى جانب كوارث طبيعية لم تكن وسائل احتماء ناجع منها طورت بعد، كانت تقضي على معايش معظم الأسر، وتعيدهم إلى الفقر.

عقب الحرب الأهلية، وبسبب مباشر منها، تثبت الكيان الوطني على مبدأين: وحدة غير قابلة للفصم، وحكومة قوامها التمثيل المتحقق بالانتخاب الحر. مبدأ الوحدة ضمن لاحقا في عهد الولاء Pledge of Allegiance (1892) مؤكدا أن الولايات المتحدة أمة واحدة تحت (رعاية) الله غير قابلة للتجزيئ، مع (ضمان) الحرية والعدالة للجميع. أما حق الانتخاب الذي حصر دستوريا بادئ الأمر في الذكور البيض، مشروطا بدفع رسم مالي، فقد عدل لاحقا (1870) ليشمل السود. وعدل ثانيا (1920) ليشمل الإناث. وعدل ثالثا (1964) ليلغي شرط الرسم المالي. وبغير ما تعديل دستوري أجيز حق التصويت للأمريكيين الأصليين عام 1924. أخيرا أنهت تشريعات المجتمع العظيم The Great Society منتصف الستينات من القرن الماضي، جميع أشكال الفصل العنصري.

هكذا، مع بزوغ القرن العشرين، ومرورا عبر عقوده الصاخبة، برزت الولايات المتحدة عالميا أثبت الدول ارتكازا في النظام الجمهوري الديمقراطي، أثراها اقتصادا، أوفرها إنتاجا، أقواها عسكريا، وأسبقها ريادة في العلوم. لكن ازدياد ثقتها بالنفس، جراء هذا التميز، أغراها مرارا بالتدخل في شؤون الآخرين عالميا بذرائع شتى، الأمر الذي جرها إلى خوض حربين عالميتين، إلى جانب التورط في حروب إقليمية لاحقة. بالنتيجة، بعد أن استوعب كثير من الأمريكيين جسامة كلفة الحروب الخارجية، بالأخص من خلال الانتكاسة المهينة في حرب فيتنام، انقسم الجسم السياسي الأمريكي حول جدوى الاستمرار. جراء ذلك تقوت النزعة الانعزالية الداعية إلى فك الارتباط مع الشأن العالمي فيما لا يمس المصالح الأمريكية الحيوية. غني عن القول أن الانعزال لم يحصل، وأن الانقسام حول الانعزال أو الاشتباك عالميا لا يزال قائما في السجال الأمريكي، لكنه سجال متراوح بين مد وجزر، لذا، على ما أراه، هو باق دون حسم إلى اليوم.

اليوم، كما دائما في الماضي، يواجه الأمريكيون مشاكل خطيرة عديدة: منها خلل في الاقتصاد، ربك في السياسة الخارجية، تراجع في الريادة المعرفية، تلوث بيئي متفاقم، ونمط استهلاكي ترفي فيه هدر للمورد، إنهاك للنفس، وإعاقة لارتقاء إنساني حضاري. لكن، كما في الماضي، كذا في الحاضر: لا يزال جل الأمريكيين محتفظين بثقة كبيرة بالنفس، يرون بها أن بإمكانهم دأبا التغلب على مشاكلهم، أيا كانت، ومهما عظمت، كما تغلب على مشاكلهم، في أزمنتهم، الآباء والأجداد.

عالم جديد، أم عالم قديم جديد؟

عندما نعت المهجر الأمريكي بالعالم الجديد لم يعن ذلك انفصاما عن العالم القديم، ولا انقطاعا عن مساقه الحضاري، بل عنىَ نشوء وضع جديد لحال إنساني قديم تبلور عن تلاقي ثقافات وحضارات متنوعة الفكر والعرف، أسهمت جميعها في صنع الخبرة الإنسانية، وأوصلت، بتدافع دائب، إلى اكتشاف هذه القارة الأمريكية عام 1492. إثرها – كما أسلفت - انطلقت هجرة متدفقة من شتى الأمم إلى هذا الذي نعت بالعالم الجديد: هجرة لم تتوقف يوما منذ الاكتشاف، ولا أخالها تتوقف يوما في المستقبل المنظور.

وإذن، لا يوجد في الخبرة الأمريكية – أو بالمنطق نفسه في خبرة أيما أمة – وضع جديد بمعنى جذري أو مطلق: ما يوجد في خبرات الأمم هو تمايز في الإنجاز في شتى مجالات النشاط الإنساني. على أن في الخبرة المهجرية الأمريكية، نلاحظ وجها للمفارقة، ليس بمعيار القديم والجديد، فهما كما قلت متمازجان، وإنما بمعيار التميز. هنا، نلاحظ تميزا في الإنجاز لمدىً ملفت، غير مسبوق في خبرات الأمم، بما فيها الأمم التي استقبلت منها الولايات المتحدة معظم المهاجرين الأول، واقتبست من فكرها ورصيد خبراتها مباشرة مختلف المعارف والمهارات.

ما باعث هذا التميز؟ ما الذي مكن هذه الجمهورية الفتية من أن تتصدر وترود في المعرفة العلمية والإبتكار التكنولوجي والإنتاج الإقتصادي والتنظيم السياسي والاقتدار العسكري، وإجمالا في عموم مساحات النشاط الإنساني؟ في قراءتي، الذي مكن من ذلك، إثر تحقيق الاستقلال، أمران: أولهما: الرؤيا الفلسفية التي بنت الدولة ابتداء بمواصفات دستورية رصينة، وثانيهما: الرؤيا الفلسفية الأخرى التي تلت بعد قرن وأولت الخبرة الوطنية الأمريكية وجهة عملية، تقدمية، طموحة، وصميمة الثقة بالنفس.

قيام كيان فيدرالي جمهوري

الرؤيا الفلسفية الأولى التي ابتنت بها الدولة جاءت مقتبسة في جلها من أفكار فلاسفة التنوير الأوروبيين. من وحي تلك الأفكار قام في هذه القارة كيان فيدرالي جمهوري دحض بقيامه ثم بنجاحه، ما ادُعي قبلا بحق إلهي للملوك في الحكم. في يناير 1776، قبل إعلان الاستقلال بستة أشهر، شجب توماس باين الإنكليزي (Thomas Paine 1737- 1809)، المهاجر حديثا إلى أمريكا، في كتيب بعنوان "البداهة" (Common Sense) عمّ انتشاره سريعا في المستعمرات ال 13... شجب بقوة مبدأ الولاء لأيما نظام ملكي، قائلا أنه شر من حيث حصره السلطة في شخص معين بناء على محض نسب، وشر أيضا من حيث توريثه السلطة على الأساس نفسه. اعتبر باين الإطار الجمهوري وحده الممكن من نهوض أمريكا موحدة وحرة. وقال متحديا حجة كون النظام الملكي وحده المجرَب والسائد في العالم حتى ذاك: في استطاعتنا أن نبدأ العالم من جديد.

وما الأفكار الرئيسة التي اقتبست وبنيت عليها الجمهورية الجديدة؟

كان الباعث الأساس لقيام الولايات المتحدة، بعد قرن ونصف قرن من استيطان راضخ للتاج البريطاني، تحرير الذات الوطنية وتحصينها في كيان دولة مستقلة ذات سيادة. كانت الهوية الأمريكية حتى ذاك قد تبلورت سماتها ونمت خبراتها المهجرية جذريا بصلابة وثقة. لذا، عندما أرغمت الولايات على دفع ضرائب باهظة إلى التاج البريطاني دون إيلائها حق التمثيل في البرلمان البريطاني، قررت أن تتحرر (1776). وعندما وجدت أنها لن تنتصر في حرب التحرير دون أن تتحد كونفدراليا، اتحدت كونفيدراليا (1781). ثم عندما أدركت أنها لن تقدر على صيانة استقلالها دون أن تتحد فيدراليا، اتحدت فيدراليا (1788) بدستور أوجد الولايات المتحدة الأمريكية على المسرح العالمي كما نعرفها اليوم.

من يومه تثبت الكيان الوطني على مبدأين: وحدة غير قابلة للفصم، وحكم قائم على التمثيل المتحقق بالانتخاب الحر. لذا عندما تعرضت الوحدة للفصم قامت حرب أهلية عارمة (1865-1861) أعادت الوحدة ووطدت قواعدها من جديد. ثم ضُمن مبدأ الوحدة لاحقاً (1892) في عهد الولاء Pledge of Allegiance الذي جاء مؤكداً أن الولايات المتحدة أمة واحدة، تحت (رعاية) الله، غير قابلة للتجزيئ، مع (ضمان) الحرية والعدالة للجميع. أما حق الانتخاب، الذي حُصر ابتداء في الرجال البيض، مشروطاً بدفع ضريبة، فقد عُدل لاحقا ليشمل السود (1870). وعُدل ثانيا ليشمل النساء (1920). وعُدل ثالثا ليلغي شرط دفع الضريبة لممارسة حق التصويت (1964). وبغير ما تعديلٍ دستوري أجيز حق التصويت للأمريكيين الأصليين عام 1924.

الرؤيا الفلسفية الأولى

لنعد إلى الأفكار التي قامت عليها الوحدة، والمصادر الفلسفية لتلك الأفكار، والتي بها تشكل كيان الدولة دستوريا، تحددت سلطاتها، وثبتت ضمنها حقوق وحريات المواطنين.

فكرة الحقوق الغير قابلة للنزع الواردة في إعلان الاستقلال في العبارة المشهودة: نحن نعتبر هذه الحقائق واضحة بذاتها، أن الناس جميعا يخلقون متساويين، أنهم يُمنحون من خالقهم حقوقا معينة غير قابلة للنزع، أن منها الحياة، الحرية، والبحث عن السعادة... اقتبست من الفيلسوف البريطاني جون لوك John Locke (1632-1704) الذي عدّ الحياة والصحة والحرية والملكية حقوقا طبيعية للإنسان غير قابلة للنزع، قائلاً أن مبرر وجود أيما حكومة يكون بحمايتها هذه الحقوق، وبغياب الحماية يتلاشى المبرر. نلاحظ هنا أن الوثيقة الأمريكية تبنت من جون لوك الحياة والحرية كحقين غير قابلين للنزع، لكنها لم تعتبر الصحة حقا في ذاتها، واستبدلت حق الملكية بحق أوسع: حق البحث عن السعادة. وكما فعل لوك، أقرت الوثيقة الأمريكية (إعلان الاستقلال) كون الخالق (لا الدولة) مانح تلك الحقوق.

من جون لوك، ثم من جين جاك روسو Jean Jacques Rousseau (1712-1778) جاءت فكرة الفصل بين الدين والدولة، إلا أنها قرنت في التعديل الأول للدستور مع فكرة حرية ممارسة شعائر الدين، بحيث غدت الفكرتان في تلازمهما كفتين متوازنتين في معادلة تحظر على الكونغرس سن أي قانون يؤسس ديناً للدولة، من جهة، ومن الجهة المقابلة، تحظر عليها الحدّ من حرية ممارسة الناس شعائر أيما دين.

من جون لوك أيضا، جاءت فكرتان أخريان: فكرة الموازنة والمراقبة بين سلطات الحكم، وفكرة اعتبار الثورة على الحكومة ليس حقا للشعب فحسب، بل واجبا عليه إن الحكومة أخلت بعهدة الحكم. وقد استوعبت هذه الفكرة في الدستور في إجرائية المطالبة بالإدانة impeachment من قبل مجلس النواب ضد الرئيس ونائب الرئيس ومسؤولين مدنيين آخرين، في حالات الخيانة أو الرشوة أو جرائم أو جنح خطيرة أخرى. فإذا أقرت الإدانة في محاكمة تجرى للمتهم بمجلس السنات Senate عزل المدان من منصبه.

فكرة تقسيم الحكم إلى سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية وثالثة قضائية جاءت من الفيلسوف الفرنسي تشارلس مونتيسكيو Charles Montesquieu (1689-1755) الذي قال: إذا اجتمع أي اثنتين من هذه السلطات الثلاثة بيد شخص واحد، فإن طغيانا سيحدث، لذا يجب الفصل بين السلطات الثلاثة درأ للطغيان. وقد أقر الدستور الأمريكي مبدأ فصل السلطات بتحديد مهام كل سلطة على حدة، ثم ربط تقرير أي أمر وطني هام بحصول التوافق عليه من السلطة التشريعية (في المجلسين) والسلطة التنفيذية معا. أما في مجال القضاء، فإلى جانب استقلاليته التامة، استنبطت المحكمة الفدرالية العليا من الدستور لاحقا، دون أن تنازَع (1803)، أن الدستور منحها صلاحية الامتناع عن الحكم وفق أي تشريع تكون السلطتان الأخريان قد أجازتاه، إذا ما وجدت المحكمة، من خلال البت في قضية مرفوعة لها، أن التشريعَ المجاز متنافر مع الدستور. وقد سمي هذا المبدأ بالمراجعة القضائيةJudicial Review

أنَ السيادة للشعب، وأنَ الحكومة توجد لتخدم الشعب، (بمعنى أن حقوق الشعب سابقة وثابتة، وأن الحكومات توجد لا لتمنحها وإنما لتضمنها تطبيقيا)، فكرة تواردت لدى جون لوك وجين جاك روسو على نحو متقارب. قال روسو أن السيادة للشعب، يأتمنها لدى الحكومة عندما يبرم معها عقدا اجتماعيا على صيانة الحرية وتحقيق الصالح العام، وأن للشعب أن يسترد الأمانة عند إخلال الحكومة بالعقد. أيضا من روسو جاءت عبارة: يولد الناس جميعا متساوين: تلك التي غرسها توماس جيفرسن Thomas Jefferson (1743-1826) حرفيا في إعلان الاستقلال. في نسق مماثل آخر متوافق مع لوك، دعا روسو إلى حصر وظيفة الدين في مجال القيم الأخلاقية: أما في غير ذلك فدعا إلى اعتماد المنظور الإنساني المتسق مع العلم المستكشف دأبا سنن الطبيعية وحقائق الوجود. من ذلك جاء دستور الولايات المتحدة علمانيا لا يحتوي (خلاف وثيقة إعلان الاستقلال) على أي عنصر ذي طابع ديني.

هكذا، إذن، إجمالا، جاء البناء الدستوري الأول للخبرة الأمريكية، مقوَماً بأفكار مقتبسة في جلها من التنظير الفلسفي الأوروبي. إلى هذه الأفكار أضيفت، في وقته ولاحقا، أفكار تبلورت من نظر أمريكي ذاتي، مثل فكرة التمتع المتكافئ بحماية القانون Equal Protection of Law، فكرة المراجعة القضائية Judicial Review، فكرة دستور مكتوب قابل للتعديل وفق إجراءات معينة، فكرة تحقق المواطنة الأمريكية بمجرد المولد على الأرض الأمريكية دونما اعتبار للنسب أو لظروف الميلاد، فكرة نبذ ألقاب ارستقراطية، وأفكار أخرى تتصل بالحقوق والحريات المدنية Civil Rights and Liberties

ملاحظتان

أستدرك هنا، قبل أن استطرد، نقطتين، أولاهما: أن هذه الأفكار، أو معظمها، على نحو أو آخر، وردت في أدبيات أمم أخرى. في المنظور الإسلامي تحديدا نجد أفكار الشورى، المساواة، التمتع المتكافئ بحماية القانون، وخلع الحاكم عند الإخلال بعهدة الحكم واردة بوضوح. كما نجد حقوق الحياة، الحرية، الملكية، وإسعاد النفس بطيبات الحياة مؤصلة في القرآن الكريم. لكن الفارق يكمن في أمرين، أولهما: أن الدولة الأمريكية قامت على دستور لم يكتف بتأصيل الأفكار والحقوق نظريا، بل أوجد مؤسسات حيوية تحمي الأفكار والحقوق، وتعمل تباعا على تطويرها. وثانيهما: أن الخلَف من الأمريكيين حافظوا على جوهر ما وضعه السلَف، ثم طوروا ترجماته السياسية والمدنية بتعديلات دستورية وتشريعات قانونية إلى ما هو أوفى وأوفق. بذلك قدر للدستور الأمريكي أن يبقى الوثيقة الحية الحاكمة للحياة الوطنية، وتهيأ للأمة في ظل دستور حي أن تبقى متماسكة وأن تواصل التقدم، مستفيدة من اجتذاب عقول خصبة إليها من شتى البلاد. تحت مرجعية الدستور أيضا مُكنت الدولة من أن تتوسع مساحة وتكبر تعدادا وتستوعب تعددية ثرة من مختلف الثقافات والأديان والأعراق والمذاهب الفلسفية.

النقطة الأخرى هي أن هذه المبادئ عالمية لا خصوصية للخبرة الأمريكية فيها إلا بقدر ما تبنتها في إعلانها الاستقلال، في تنظيمها الدولة، وفي ضمانها تطبيقيا حقوق وحريات المواطنين. كما لا خصوصية فيها للفلسفة أو للدين، فكلاهما من منظوره المتميز شخّص وأقر الحرية والمساواة والعدل والكرامة مبادئَ عامةً وحيوية لصلاح الإنسان ونمائه فردا ومجتمعا. بتعبير آخر، أيا تكن المرجعية، علمانية أو دينية، أو رؤية وسطا بينهما، في المؤدى الأخير المحتكم الجامع بين الناس، أفرادا وأمما، هو منظومة المبادئ والقيم المتلازمة معها، المنمية للحال الإنساني في كل زمان ومكان. أما الجدارة ما بين الأمم، فمعيارها مدى الإلتزام بهذه المبادئ والقيم فكرا، مدى تأصيلها دستوريا، مدى تنظيمها تشريعا، ومدى تطبيقها في الواقع المعاش.

الرؤيا الفلسفية الثانية

وماذا عن الرؤيا الفلسفية الأخرى التي ظهرت بعد قرن من هذه الرؤيا الفلسفية الأولى، فأولت الخبرة الأمريكية دفعا جديدا حقق تفوقا وُسم به القرن العشرون بالقرن الأمريكي؟ ما محتوى ووجهة تلك الرؤيا اللاحقة التي شخصت كفلسفة أمريكية ذاتية، متمايزة عن فلسفة التنوير الأوروبية التي تشكل من أفكارها، كما رأينا، البناء الدستوري الأول للولايات المتحدة؟

دعنا أولا نستطلع باختصار الظرف التاريخي الذي انبعثت منه الرؤيا الثانية. على أثر الثورة الصناعية في إنكلترا (1750- 1850) جاءت الثورة الصناعية في الولايات المتحدة مبتدأة بعد عقدين من انتهاء الحرب الأهلية (1861-1865) وممتدة في الربع الأول من القرن العشرين. الرؤيا الفلسفية الجديدة جاءت عاكسة للتقدم الذي تحقق على أرض الواقع الأمريكي إبان تلك العقود. من عملية إعادة تعمير الجنوب، إلى مد سكك الحديد عبر القارة، مرورا باختراع الهاتف ولمبة الإضاءة وبناء أولى ناطحات السحاب وتصنيع سفن حربية حديدية، وتطوير معدات وأساليب صناعية وزراعية عديدة ضاعفت قدرات الإنتاج... من زخم ذلك كله، ومن علوم تنامت سريعا في جامعاتها المستحدثة، استشعرت الأمة الأمريكية في ذاتها نبضا جديدا دافعا بها إلى صنع مستقبل متطور دون سقف.

نهاية القرن التاسع عشر كانت الولايات المتحدة قد غدت 45 ولاية، بلغت تعدادا ما يزيد عن 76 ملون نسمة، واعتمدت ميزانية سنوية تقارب 600 مليون دولار. كان المجتمع منذ الربع الأخير من القرن قد بدأ يزخر بنشاط فكري وعملي متصاعد ومتطور: أفكار تتنافس، وجهود تتزاحم، وعلوم تتفتق، وطموح يحدو الناس إلى استصلاح أراض شاسعة، واستثمار موارد جمة، وبناء حياة موفورة لأنفسهم ولذرياتهم في هذا العالم الجديد. كان من الأفكار ما تثمر وأخرى لا تثمر، ومن الجهود ما تنجح وأخرى تفشل، ومن الأبحاث العلمية ما يصيب هدفا نافعا وما لا يصيب. من معايشة هذا المناخ الواعد بمزيد من التقدم واليسر المعيشي من جهة، والمطالِب بممارسة مزيد من الدقة والإتقان في الفكر والعمل، من الجهة الأخرى، صاغ تشارلس ساندرس بيرس Charles Sanders Pierce (1839-1914) رؤية فلسفية رائدة في مقال بعنوان: كيف تجعل أفكارك واضحة نشره في مجلة Popular Science Monthly عام 1878.

تشارلس بيرس

كان بيرس عالما بارزا في الفيزياء والرياضيات، وفيلسوفا معنيا بتطور العلوم. كان مقاله موجها أصلا إلى نظرائه من العلماء، يحثهم على اتباع قاعدة في البحث العلمي تقول بأن قيمة أيما مُدرَك عقلي تكمن في الأثر العملي الذي ينتجه في التطبيق. بعبارة أخرى، أن ترابطا عضويا يوجد بين التنظير والتطبيق، وأن جدارة أيما تنظير تقاس بما يفرزه من آثار محسوسة في سياق التطبيق. قال أيضا أن علاقة غير قابلة للفصم توجد بين الإدراك العقلي والإغراض العقلي، أي بين فهم الشيء والعزم على إخراجه من فكرة إلى فعل. فمثلما يفكر المرء يفعل، بمعنى: حيثما تُفعّل فكرة معينة، على صواب كانت أو على خطأ، فإنها تنتج نمطا متطابقا من الأداء، أكان على صعيد فرد أو مجتمع..

سمى بيرس مذهبه الفلسفي هذا بـ pragmatism، مستعيرا اللفظ من الفيلسوف الألماني إمانيوءل كانط Emanuel Kant (1724-1804) الذي استعمله في مقاله الشهير Critique of Pure Reason للتمييز بين مفاهيم قابلة للتحقق منها بالتجريب، وأخرى يسلم بها تسليما لامتناعها على التحقق منها بالتجريب. بذلك عرّف بيرس المذهب البراجماتيكي بأنه منهج في النظر يؤدي إلى توضح الأفكار من خلال تتبع الآثار العملية المتحققة من أيما فكرة أثناء وضعها موضع التنفيذ.

لعشرين عاما ظل المذهب البراجماتيكي هذا كما عرفه ودعا إليه بيرس مغمورا غير مُلتَفت إليه، إلى أن تبناه وليم جيمس (1842-1910) William James في محاضرة مشهودة له بجامعة كاليفورنيا عام 1898. في طرحه، وفي كتابات لاحقة، أضفى جيمس على المذهب البراجماتيكي بعدا آخر بالقول أن الأفكار الصحيحة تستبطن احتمالات نافعة من حيث أنها تؤدي في سياق التطبيق إلى اتساق فكري وقدرة على استبصار العواقب باستعمال منطق سليم.

وليم جيمس

نشأ وليم جيمس في أسرة علم، تحت أب فيلسوف وعالم لاهوت ورفقة أخ أديب. درس الطب بجامعة هارفرد، لكنه بعد أن تخرج مال لعلم النفس فتبحر فيه، ثم مال للفلسفة فتمكن منها، ثم درّس العلمين في هارفرد. قيل عنه أن جمعه بين هذه العلوم الثلاثة – الطب، علم النفس، الفلسفة - أولاه سعة في النظر وقدرة على استيعاب توارد الأبعاد البدنية والروحية والفكرية والعاطفية في الحال الإنساني في نسق جامع.

اعتبر جيمس البراجماتيكية منهجا لحل المشاكل عن طريق استجلاء الحقائق بالاختبار العملي. رآها أيضا مذهبا متطورا عن المذهب الإمبيريكي empiricism - وهي الفلسفة ذات المنشأ البريطاني التي اعتمدت المنهج العلمي في استقراء الحقائق، معارضة بذلك الفلسفة العقلية الأوروبية continental rationalism بنفيها ما ادعته الأخيرة من وجود أفكار فطرية innate ideas يُخضع الناس لها سائرَ الأفكار المتولدة لديهم عن طريق الخبرة الحسية.

نشأت الإمبيريكية من أفكار فرانسيس باكون Francis Bacon(1561- 1626) في مطلع القرن السابع عشر، ثم طورت بأفكار جون لوك، الذي نفى وجود أفكار فطرية في وعي الإنسان، قائلا أن العقل يولد صفحة بيضاء يتسجل فيه لاحقا محصول الخبرة المعاشة بالحواس. طُورت أيضا بإفكار جورج بركلي George Berkeley (1685 – 1753)، القس الذي ذهب إلى أن لا وجود لأيما شيء إلا من حيث وجوده في العقل الذي يستمده الإنسان – حسب تعبيره - من العقل الكلي وهو الله. طُورت أيضا بأفكار ديفيد هيوم David Hume (1711 – 1776)، الذي جارى بركلي بالقول بأن لا دليل على وجود الأشياء في حد ذاتها على نحو مستقل، وأن كل ما نعلم عن الأشياء هو من حيث تبلورها في أذهاننا، فحسب.

رأى جيمس المنظور البرجماتيكي والمنظور الإمبيريكي the pragmatic and empirical perspectives متماثلين من حيث عزوفهما معا عن نظريات تجريدية ومفاهيم مطلقة أو ثابتة، واعتمادهما معا الحقائق والأفعال والمفاهيم النسبية، وبذلك اعتبر الفلسفة البراجماتيكية إبنة طبيعية للفلسفة الإمبيريكية، إنما إبنة أكثر راديكالية من الأم.

 من وجه آخر، اعتبر جيمس الفلسفات تعبيرات فكرية لا تخلو من تأثر بالمزاج الشخصي لأصحابها، ومن ثم قسم الرؤى الفلسفية إلى رؤى لطيفة وأخرى غليظة. في سياق ذلك قابل الرؤية العقلانية (المنطلقة من المبادئ) بالرؤية الإمبيركية (المنطلقة من الحقائق)، الرؤية المثالية بالرؤية المادية، الرؤية التفاؤلية بالرؤية التشاؤمية، الرؤية الإيمانية بالرؤية الإلحادية، الرؤية الوحدوية بالرؤية التعددية، الرؤية التسليمية بالرؤية التشكيكية، الرؤية الاختيارية بالرؤية الجبرية. لاحظ أيضا أن الإشكال في مؤدى هذه الرؤى المتقابلة أنها، من جهة، تصنع فلسفة أمبيركية منطلقة من حقائق لكنها فقيرة في روحانية الدين، وفي المقابل، تصنع فلسفة روحانية لكنها فقيرة في حقائق العلم، موحيا بذلك أن منظوره البراجماتيكي يقدم رؤية وسطا هي أكثر إرضاء للعقل وأكثر إراحة للنفس في آن.

لدى جيمس، النظريات أدوات يستعملها الناس لحل مشاكل عملية، لذا ينبغي أن تقيم النظريات من حيث قابليتها لإنتاج الآثار المرجوة منها – أي أن جدارة النظريات يجب أن تقاس – على حد تعبيره - بالقيمة النقدية cash value (أي القيمة العملية) التي تجلبها للصالح العام. قال أيضا أن الخبرة المستمدة من الملاحظة والتجريب هي مصدر العلم الحقيقي، لذا الأجدى للإنسان أن يبني نظره على ما يتعلمه حسيا، دونما اعتماد مسبق على تنظير عقلي أو مرجعية سياسية أو دينية. وقد راجت هذه الرؤية أكثر فأكثر مع صعود العلم التجريبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي لا تزال مقروءة في صلب المنظور العلماني للأمور.

طور جيمس الفكرة التي غدت بمرور الوقت محور فلسفته البراجماتيكية والقائلة بأن ما تدعى " حقيقة " في أيما فكرة قبل تجريبها في التطبيق ليست بأكثر من مؤشر مفيد لما قد تستبطنه تلك الفكرة في مجرى التنفيذ. بعبارة أخرى، لا يجدر زعم وجود حقيقة ثابتة سلفا في أيما فكرة قبل أن تختبر تلك الفكرة في التطبيق، إذ أن ما يُظن أنها حقيقة معرّض للتغيير في مجرى التطبيق نتيجة تغير الظروف وتطور الخبرة الإنسانية ذاتها. جدير بالذكر هنا أن منظور جيمس الميتافيزيقي كان في سياق مماثل: فقد رأى أن العقل لا يمكن أن يحيط علما بالكون المحيط به، إذ أن الكون والعقل معا في تطور دائب: بمعنى آخر: حقيقة الكون وحقيقة العقل سويا في تكون مستمر، وما لم يكتمل شيء في تكوينه لا توجد حقيقة ثابتة في وضعه، وهذا الحال، حال الصيرورة المستدامة، يسري على كل شيء في الوجود.

جون ديوي

بعد وليم جيمس، أضفى جون ديوي John Dewey(1859-1952)، وهو عالم تربية وعالم نفس وأستاذ فلسفة، بعدا آخر على المذهب البراجماتيكي. إضافة إلى تأكيد منهج التحقق بالاختبار العملي، كما فعل كل من بيرس وجيمس قبله، أولى ديوي أهمية خاصة للعامل السيكولوجي والعامل المنطقي في صياغة المنظور البراجماتيكي: الأول من حيث اتصال علم السيكولوجيا واعتماده على علم الأحياء لتفسير ظاهرة الوعي، والثاني من حيث تسليم المنطق العقلي بصحة ما يقرره العلم بالتجريب العملي.

لدى ديوي أن الإدراك الصحيح لأمر ما يوجه المرء إلى تلمس الوسائل والأدوات الممكنة من التعامل الناجع مع ذلك المدرك المستقر لديه. هو يرى مع جيمس أن العقل مدفوع بالغريزة إلى غايات مدركة في طياطه، وأن الأفكار وسائله الموصلة لتلك الغايات. بتعبير آخر: الأفكار مطاطة وقابلة للتعديل لصالح غايات مطوية في رؤية العقل.

لم يرتح ديوي للأفكار الميافيزيقية، وحاول أن يدمج الخبرة الروحية spiritual experience ضمن الخبرة بالعالم الطبيعي، ملاحظا أن المعرفة العلمية تؤثر دأبا في صياغة القيم التي يستهدي بها الإنسان. ولكي يؤكد قناعته بأن الخبرة الإنسانية كل لا يتجزأ، ابتعد عن تقسيمها إلى خبرة ذاتية subjective experience وأخرى موضوعية objective experience، أو إلى خبرة روحية وأخرى مادية. كما أنه نفى أن تكون غاية العلم الاقتراب من حقيقة مجردة نهائية، قائلا أن للممارسة العملية دور في تكون العلم، وأن في العلم المتحقق بالتجريب تكمن صدقية الإدراك وكرامة العقل. بذلك لم يقبل ديوي بمنطق "إما- أو" نسبة إلى العلم والعمل، وذهب إلى أن العمل المبصر بالعلم هو الوسيلة الصحيحة والناجعة لتوسيع المدارك وتحقيق التقدم في جميع الأحوال.

بذلك ركز ديوي في فلسفته على تعميم العلم وتطوير مناهجه وتحديث أساليب التدريس، قائلا أن التعليم الصحيح هو ذلك الذي يقدم معرفة حقيقية، يكرس روح المسؤولية، ويشجع على المبادرة العملية في وقت واحد، وأنه بذلك يكون أنجع وسيلة لإعداد جيل أحسن. "لا قدر من فضيلة أو تميز خلقي سينقذنا من محن وكوارث إذا افتقرنا إلى إدراك فطن للأمور" كتب ديوي في إحدى مقالاته، مضيفا أن الجهل ليس غبطة، ignorance is not bliss: أنه بالأحرى غيبوبة تجلب الاستعباد. وقال: بالإدراك الفطن فقط نستطيع أن نكون شركاء في صياغة مصائرنا. وقد كان من تأثير أفكار ديوي التقدمية في التعليم أن تحول التركيز من عملية التعليم إلى مهمة التعلم، ومن اعتبار التعلم مجرد إعداد للحياة إلى اعتباره جزءا جوهريا من الحياة. بتعبير آخر، ليس العلم وسيلة لغاية أسمى، بل هو غاية أصيلة سامية في حد ذاته.

فلسفة مُعاشة

في مؤلفه المشهور (ديمقراطية في أمريكا) لاحظ الكاتب الفرنسي ألكسي دي توكفيلAlexis de Tocqueville 1805-59)) من خلال تجواله في الديار الأمريكية عام 1831-32 مستطلعا أحوال الناس، أن الأمريكيين أقل الأمم اكتراثا بالفلسفة. مع ذلك، هم يفكرون ويتصرفون وكأنهم ينطلقون من رؤية فلسفية مشتركة: إنهم لا يرون لأنفسهم حاجة إلى أخذ الفلسفة من الكتب، ففلسفتهم فيهم يعيشونها في واقع الحياة. الرؤيا البراجماتيكية، كما وصفها دي توكفيل، دون أن يسميها هكذا، كانت معاشة في الخبرة الأمريكية قبل أن ينظّرها بيرس، وجيمس، وديوي، وحين نظّرها هؤلاء برزت فلسفة إمريكية السمة والوجهة، مفارقة بين طابعها العلمي-العملي المنشدّ إلى المستقبل، والفلسفات الميتافيزيقية الأوروبية المجترة من تنظيرات أجيال خلت.

كان صدى البرجماتيكية صدى أمة مهجرية تحاول تجاوز تبعية ماض مستعمَر: صدى محاولة شق نهج مستقل، محاولة القفز فوق إنجازات أوروبا الأم، محاولة التفوق في المطلق. كان فيها طموح أمة بنت كيانها عمليا بفكر دستوري مستنير، اعتنقت العلم المحقق بالتجريب، واعتمدت النتيجة العملية معيارا لجدارة أيما فكرة أو تنظير. وقد شاعت في الخطاب الأمريكي تباعا، عاكسة هذه الرؤية العملية للأمور، عبارة: أرني show me (أي أثبت لي تطبيقيا صدق ما تزعم نظريا).

أقدم ديمقراطية تحت أقدم دستور مكتوب

هكذا، إذن، بأفكار مقتبسة من فلاسفة التنوير بزغت الرؤيا الأولى، واستقام البناء الأول واستطال: بناء لا يزال قائما كما وضع، بدستور عُدل 17 مرة بعد إضافة قائمة الحقوق Bill of Rights إليه منذ أكثر من قرنين. بذلك أضحت الولايات المتحدة اليوم، مع حداثة نهوضها بين الأمم الكبرى، أقدم ديمقراطية تعيش تحت أقدم دستور مكتوب، مع أن لفظ الديمقراطية لم يرد في دستورها المؤسس. هذا مع أن مساحتها امتدت منذ التأسيس من المحيط إلى المحيط، وتعدادها ازداد من 3 ملايين إلى 300 مليون، والتعددية فيها حوت كل عرق ودين وثقافة ومذهب فكري، وكيانها استغلظ من ولايات مستضعفة تخشى أن يتخطفها المستعمر، إلى أعظم قوة في العالم. أما التغيير الحداثي بوجه عام، فيكاد لا يوجد في الحياة الأمريكية المعاصرة أمر يشبه في قليل أو كثير ما كانت عليه الأمور حين كتابة الدستور.

هكذا، أيضا، بأفكار انبثقت من خبرتها الذاتية، بعد قرن من البناء الأول، بلورت أمريكا فلسفة أولت مسيرتها وجهة مستقلة شُدت إلى المستقبل في ذهن كل مواطن سابق ومهاجر لاحق: وجهةً قرنت الفكر بالفعل، والأملَ بالعمل: وجهةً حثت المواطنين على أن لا يتلفتوا كثيرا إلى الوراء، بل أن يعملوا بجد في الحاضر، ويتطلعوا ببصيرة وثقة إلى مستقبل أفضل.

الفلسفة الأمريكية، إذن، تعكس الخبرة الأمريكية في تميزها الصميم، والعكس صحيح. لو كان مشروع الولايات المتحدة تنظيرا فحسب، لظل حبرا على ورق. ولو كان تنظيرا أعقبه تطبيق خاطئ أو قاصر لنشأت ولايات متخاصمة، مُعرّضة للاستغلال بل والاستعمار من جديد، ولم ينشأ وطن موحد منيع. ولو اتخذت هذه الجمهورية لنفسها دينا، لما حكمت بتشريع وضعي موحد يسري على كافة مواطنيها دون تمييز على أساس دين. ولو أنشأت امتيازات ارستقراطية تُعلي قلةً على كثرة، لما استقام بها مبدأ تكافؤ الفرص والتساوي أمام القانون. ولو تحجّر الخلف من الأمريكيين في حدود ما وضعه السلف، لما نهضت أمة بهذا الوسع والاقتدار والتنظيم وقابلية تقدم مطرد. ولو لم تطور الأمة نفسها بالعلم لما أبدعت، ولو لم تبدع لما غدت في مثل وضعها اليوم. نعم كانت الولايات المتحدة فكرة فغدت واقعا برهن براجماتيكيا جدارة الفكرة وقابلية تطويرها للأوفق والأفى في سياق التطبيق.

ماذا في الغد لهذه الدولة: استطراد في الصعود أو بدء في الهبوط؟

كأيما أمة، أمريكا كانت وستظل تحت اختبار مستدام. كأيما أمة، هي اجتهدت فأصابت، واجتهدت فأخطات: بقدر ما أصابت بالأمس، جاء تقدمها اليوم، وبقدر سداد أدائها اليوم تكون سلامة حالها في الغد. على أنني، من خلال رصدي لمفرزات الخبرة الأمريكية المعاصرة أرى أخطاء تتكاثر وإزاءها قدرةً على التصحيح تتناقص. أرى نظاما في وسطه اضطراب تذهب سيئآته حسناته. أرى إهمالا متزايدا ينال من مستوى الأداء. أرى تنافسا على السلطة غير رزين، تخنق سلبياته إمكانات التوافق حول الصالح المشترك. أرى نهما يحدو بعضا على الإثراء على حساب سائر الناس. أرى تغليبا لخصوصيات عرقية وأخرى دينية على عمومية الانتماء الوطني. أرى إضعافا للأسرة يتسبب في تفكك اجتماعي وتحلل خلقي. أرى إسرافا في الاستهلاك قليل الفائدة. وأرى سياسة خارجية إزاء قضايا جد هامة، ينقصها نظر حصيف أو ينقصها ثبات في مكارم الأخلاق.

على صعيد فرد أو أمة، لا يضير أن نخطئ، فالخطأ أمر وارد في أيما اجتهاد إنساني: هو لا يخطأ من لا يعمل، مثل شائع وصادق. ما يضير فعلا هو أن نتعمد الخطأ، أو أن نكرره دون اكتراث، فنفقد قدرة التصحيح بعد حين. إن خطأً لا يُستدرك يتفاقم، وأمريكا أمام أخطاء تنتظر من مفكريها وقادتها التدارك بالتصحيح. أمريكا، بنظري، لا تزال تحتفظ بقدرة فائقة على التصحيح ذاتيا، ومع أني لا ارى القدرة مفعلة تفعيلا ناجعا في هذا الحاضر، إلا أنني لا استبعد تفعيلها بنجاعة عبر تجدد القيادات وفق منهاجها الديمقراطي. في التحليل الأخير، سلامة الولايات المتحدة، رغم تفوقها المشهود، مرتهَنة بنفس ما ترتهن به سلامة سائر الأمم: إنها مرتهَنة ليس بما هي تصيب فيه فحسب، بل أيضا بتصحح ما هي تخطئ فيه. ذلك أن استحقاقات الحياة الحضارية، الحياة الطيبة، الآمنة، الموفورة معاشا، النامية علما، المرتقية خلقا، هي ذاتها في الخبرة الإنسانية على الإطلاق. ذلك أيضا أن الطبيعة المتسقة أبدا مع مشيئة الله تقتضي ارتقاء الإنسانية باطراد: كما الأفراد كذا الأمم: حيث لا ترتقي تنحدر، حيث لا تتقدم تتراجع، حيث لا تصحح أخطاءها تتراكم الأخطاء، وقد، كنتيجة منطقية، يؤدي التراكم إلى إخلاد في الركود.

مع ذلك، أنا متفائل إزاء مستقبل هذه الأمة. مبعث تفاؤلي أنها أمة لا تزال تجتذب إليها عقولا خصبة من مختلف الأمم. الولايات المتحدة أمة، لكل أمة أخرى في العالم إسهام سابق ومتواصل في بنائها وتقدمها المشهود. في المقابل لكل أمة في العالم نصيب وافر من الاستفادة من منجزات الولايات المتحدة المثرية للخبرة الإنسانية في مختلف الحقول. كشاهد: تكاد لا توجد دولة في العالم لا نجد بين قادتها من نال تحصيله المعرفي في المعاهد الأمريكية. أيضا، تكاد لا توجد دولة لا تقتبس مما يطور علميا وتكنولوجيا هنا في الولايات المتحدة لأجل إثراء رصيدها المعرفي واقتدارها العملي.

ملحوظة أخيرة وبها أختم: عندما أنجز النص النهائي لدستور الولايات المتحدة بعد حوالي خمسة أشهر، عبر نقاش مركز ومكثف في المؤتمر الدستوري في فيلاديلفيا عام 1787، وبعد أن وقع جميع المؤتمرين على النص المنجز، طلب بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin من رئيس المؤتمر جورج واشنطن George Washington أن يسمح له بتعليق أخير. كان فرانكلين، وهو أسن المؤتمرين، يعتبر رشيد القوم، وكان لضعفه البدني، يحمل يوميا على كرسي من منزله إلى جلسات المؤتمر، لكنه نادرا ما يتداخل. وعندما دعاه الرئيس للكلام، أخرج من جيبه ورقة كان قد أعدها مسبقا، وناولها شخصا بجانبه ليقرأها نيابة عنه. لاحظ فرانكلن في ورقته أنه مع عدم تمام قناعته بمشروع الدستور المنجز، إلا أنه لا يعارضه، فكم مرة على مدى عمر طويل عارض أمرا بدا له صوابه لاحقا، وكم مرة أيد أمرا بدا له خطأه فيما بعد." ثم ختم قائلا:

 سيدي الرئيس: طوال نقاشات المؤتمر، وأنا أستمع آراء وآراء معارضة، وأسائل في سري إذا نقاشاتنا هذه ستنتهي إلى نجاح أو فشل... طوال هذا الوقت كنت أنظر إلى اللوحة المعلقة خلف كرسي الرئيس، محتارا في وضعية الشمس المرسومة فيها قريبة من الأفق: أهي شمس بازغة أم آفلة. لم أستطع أن أحسم قبل هذه اللحظة التي وقع جميعنا على نص دستورنا المقترح... الآن فقط يمكنني الحسم أن الشمس في اللوحة بازغة لا آفلة.

بمثل ذلك، من حيث أنظر، من الموقع الذي لي على أرض عربية، هي عُمان، موقعٍ ناء جدا عن هذه الديار، ومن مجتمع مغاير جدا لهذا المجتمع... أنا أيضا أرى شمس الولايات المتحدة، رغم تلبد سمائها في هذا الحاضر... أراها شمسا طالعة لا تزال.

* سفير عُماني سابق في الولايات المتحدة الأميركية

** نص محاضرة جرى عرض ملخص لها في ندوة "مركز الحوار العربي"- فرجينيا، الولايات المتحدة. 7 نوفمبر 2012

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 11/كانون الأول/2012 - 26/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م