أردوغان بين حريم السلطان واضغاث القرن العظيم!

محمد حميد الصواف

 

شبكة النبأ: امست اساطين بني عثمان وحقبتها الغابرة تهيمن بشكل كبير على ذهنية رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان، حتى باتت سلوكيات هذا الرجل تنعكس على شخصيته المثيرة للجدل والسخرية في بعض الاحيان، خصوصا بعد ان تكشفت نواياه في مشروع احياء السلطنة العثمانية التي اكل الدهر عليها وشرب، غير مدرك ان لو لا الحقبة المظلمة التي عمت اوروبا، وما صاحب ذلك من حالة فراغ عسكري وسياسي في تلك الفترة، لما كان هناك دويلة عثمانية حتى.

فالمشروع العنصري والطائفي الذي يضعه اردوغان نصب عينيه قصيرة النظر، لا يضع امامه اعتبارات المتغيرات الحالية، وحقيقة ان عودة الامبراطورية العثمانية بات شيئا من الماضي غير قابل للتحقيق في الحاضر او المستقبل.

ويراهن البعض على ان اردوغان بات يمني النفس بوضع التاج العثماني وان كان من ورق، عله يعوض على ما فاته من حرمان وعوز الى جانب الاحترام الذي فقده اثناء صباه وشبابه عندما كان يتجول لبيع الخبز في ازقة اسطنبول الفقيرة وحاراتها.

مسجد يليق بسلطان!

فقد وصف رجب طيب أردوغان فترة ولايته الثالثة كرئيس لوزراء تركيا بأنها فترة "الأستاذية" مقتبسا من المعماري العثماني الشهير سنان والوصف الذي أطلق على المرحلة الأخيرة من حياته العملية بعد التلمذة والتخرج.

وياله من تلميح ينم عن قدر كبير من التفاخر. فقد عبرت أعمال سنان في القرن السادس عشر عن الامبراطورية العثمانية في أوج مجدها متمثلا في جامع السليمانية الذي بناه للسلطان سليمان ليصبح جزءا لا تخطئه العين من منظر مدينة اسطنبول للناظر عن بعد.

والان يريد اردوغان الذي يقود منذ أكثر من عشر سنوات بلدا يزهو بقوته على المستوى الاقليمي أن يترك بصمته على المدينة بأكبر مسجد يقام في تركيا وصفه هو نفسه بالمسجد العملاق الذي يمكن رؤيته من مختلف أنحاء اسطنبول.

ويقام المسجد على أعلى ربوة على الشطر الاسيوي من مضيق البوسفور ليتسع لنحو 30 ألف مصل وتعلوه ست مآذن سامقة أطول من مآذن المسجد النبوي في المدينة. ويرمز المسجد الجديد إلى ميل تركيا نحو الشرق في عهد أردوغان الذي شهد تراجع العلمانية وبروز البلاد كقوة في منطقة الشرق الاوسط. لكن النخبة في اسطنبول هبت للاعتراض على بناء المسجد.

ووصف البعض المسجد المقترح بأنه بشع المنظر وبه قدر كبير من التباهي ويمثل اعلانا يكاد يكون صريحا من جانب حكومة أردوغان ذات الجذور الاسلامية بالانتصار على العلمانيين وحماتهم في القوات المسلحة.

وقال ايمري كيزيلكايا المدون المعروف ومحرر الشؤون الخارجية بصحيفة حرييت اليومية "على الشطر الاوروبي ترك السلطان سليمان بصمته على المدينة بجامع السليمانية الذي يمكن رؤيته من أي مكان في اسطنبول القديمة. والان يحسب الكثيرون أن اردوغان يريد ان يترك بصمته على الشطر الاسيوي."

وقد تم اختيار التصميم الفائز في منتصف نوفمبر تشرين الثاني بعد مسابقة نظمت على عجل واقتصر الاشتراك فيها على المعماريين الاتراك. ويشبه التصميم إلى درجة مذهلة جامع السلطان أحمد الشهير في اسطنبول الذي بناه قبل 400 عام أحد تلاميذ سنان وأصبح يعرف باسم الجامع الازرق.

ووصف أحد المفكرين المحافظين المسجد بأنه "نسخة رديئة" وكتب إلى أردوغان يناشده ألا يحرج الأجيال المقبلة بهذا العمل ذي المنظر البشع. وقال أوجوز أوزتوزجو رئيس جمعية المعماريين المستقلين في اسطنبول "الاتراك عندهم مثل يقول (لا تكتشف أمريكا مرة أخرى. ولا تحاول أن تبني دار أوبرا سيدني مرة أخرى."

بل إن وزير الثقافة غير مقتنع بالمسجد. ففي خروج نادر الحدوث على الحكومة قال الوزير ارطغرل جوناي "لا يعد نجاحا في عالم اليوم أن تبني هياكل عملاقة. كان ذلك نجاحا في عهد سنان. أما الان فالمسألة تتعلق بالقدر الذي ستستخدمه من الاسمنت." وأضاف "يجب أن نبني شيئا أشبه بالجوهرة ليتألق بجماله لا بحجمه العملاق."

وسيقام المسجد على ربوة جمليجة التي كانت أيام العثمانيين أرضا للصيد للميسورين وأصبحت الان موقعا يحتسي فيه العشاق الشاي بين شجيرات الورد ويلتقطون الصور بهواتفهم المحمولة للمدينة التي يبلغ عدد سكانها 14 مليون نسمة وترتفع المآذن عالية في شطرها الاوروبي.

أما أنصار المشروع فيقولون إنهم يريدون منظرا مشابها لافق المدينة على الجانب الاسيوي لتختفي الهوائيات التي تنتشر الان على الربوة. وقال ارغين كولنوك رئيس الجمعية الاسلامية المشرفة على المشروع إن الجانب الاسيوي لا يوجد به مسجد كبير يلبي حاجة المصلين.

وقال إن المسجد "ضرورة" ورفض عاصفةالانتقادات التي وجهت إلى التصميم الذي وضعته معماريتان تضعان الحجاب. وأضاف "أردنا مسجدا تقليديا بقبة وإذا كنت ستبني مسجدا تقليديا بقبة فمن المحتم أنه سيشبه أيا صوفيا والمسجد السليمي والمسجد الازرق."

ومن الناحية الرسمية فإن الحكومة ليست وراء المشروع لكنها تبرعت بالارض والتأييد الشخصي من جانب أردوغان. أما التكلفة التي تقدر بأكثر من 100 مليون ليرة أي ما يعادل 43 مليون يورو فسيتم تدبيرها من خلال التبرعات وهو باب تقول المعارضة إنه يفتح الطريق أمام رجال الأعمال لطلب الحظوة لدى الحكومة.

ويستمد حزب الحرية والعدالة الذي ينتمي إليه اردوغان التأييد من المجتمع المحافظ في قلب الأناضول وقد كاد يفوز في معركته مع النخبة العلمانية التي ظهرت مع تأسيس الجمهورية الحديثة عام 1923.

فقد أسكت الحزب العسكريين رافعي لواء العلمانية الذين أطاحوا بأربع حكومات منذ عام 1960. وتم الترويج للاصلاحات في الجيش والقضاء باعتبارها من ضرورات التغيير للتأهل لعضويةالاتحاد الاوروبي.

إلا أنه في ضوء تعثر مساعي تركيا للانضمام للاتحاد الاوروبي بدأ اردوغان يتقرب إلى دول الشرق الاوسط التي كانت في الماضي ولايات في الدولة العثمانية. وأصبح النمو الاقتصادي يفوق المعدلات الاوروبية بفضل التجارة مع دول الخليج وتدفق رجال الاعمال والسائحين العرب على تركيا فزاد عدد الزائرين من السعودين لستة أمثاله وزاد القطريون 500 في المئة والكويتيون 400 في المئة منذ أكتوبر تشرين الاول عام 2010.

وأثارت مثل هذه الاقوال حفيظة المنتقدين الذين يتهمون اردوغان بأنه يتصرف وكأنه سلطان العصر في الداخل والخارج. ودخل مئات من ضباط الجيش السجن بتهمة التآمر للانقلاب على أردوغان ويواجه أساتذة جامعات وصحفيون وساسة محاكمات بسبب اتهامات مماثلة.

وقال الرئيس السوري بشار الاسد في مقابلة تلفزيونية هذا الشهر إن اردوغان يحسب أنه السلطان الجديد أو أنه الخليفة. إلا أن المسجد الجديد سيكون متواضعا إذا ما قورن بالمساجد الكبرى الأخرى في المنطقة مثل المسجد النبوي الذي يسع 600 ألف مصل والمسجد الحرام في مكة.

كما أن المسجد المقترح لا يقارن بخطط اردوغان الأخرى لاسطنبول والتي تشمل شق قناة طولها 45 كيلومترا تربط البحر الاسود ببحر مرمرة لتخفيف التكدس الذي يعاني منه مضيق البوسفور بالاضافة إلى ردم جزء من البحر لانشاء تجمع سكني يسع 800 ألف نسمة. ويأمل كذلك وضع دستور جديد ليحل محل الدستور الذي كتب عقب انقلاب 1980 العسكري وتأسيس نظام رئاسي تنفيذي قوي للحكم.

ويحظر القانون على أردوغان أن يرشح نفسه مرة أخرى لمنصب رئيس الوزراء ومن المتوقع على نطاق واسع أن يخوض انتخابات الرئاسة عام 2014 ليقوي وضعه كأبرز زعماء تركيا منذ مصطفى كمال أتاتورك الذي أسس الجمهورية العلمانية على أنقاض الامبراطورية العثمانية التي سقطت في الحرب العالمية الاولى.

حريم السلطان

الى ذلك اثار مسلسل تلفزيوني يروي حياة السلطان سليمان القانوني صاحب اطول فترة حكم في الامبراطورية العثمانية عاصفة سياسية في تركيا اذ دعا رئيس الوزراء طيب أردوغان إلى اتخاذ اجراء قانوني بسبب عدم الدقة التاريخية فيما اتهمت المعارضة أردوغان بالاستبداد الفني.

وانتقد اردوغان بشدة مسلسل (القرن العظيم) "Magnificent Century" او كما يعرف في العالم العربي باسم (حريم السلطان) والذي بلغت نسبة مشاهديه حوالي 150 مليون شخص في تركيا واجزاء من البلقان والشرق الاوسط ردا على انتقادات للسياسة الخارجية لحكومته.

والانتاج التلفزيوني الضخم الذي يستحوذ على انتباه المشاهدين بحكايات عن صراع السلطة والدسائس التي تتم في القصر يتعرض لفترة حكم السلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر عندما كان الحكام العثمانيون يبسطون سيطرتهم على امبراطوية تمتد إلى ثلاث قارات.

وقال أردوغان إن السلطان سليمان كان قائدا فاتحا وليس كما يصوره المسلسل كشخص مفرط في حب النساء.

وقال أردوغان في افتتاح مطار في غرب تركيا "(المنتقدون) يسألون لماذا نتعامل مع شؤون العراق وسوريا وغزة.. انهم يعرفون ابائنا واسلافنا من خلال (القرن العظيم) لكننا لا نعرف سليمان القانوني بالشخصية التي يظهر بها في المسلسل. لقد امضى 30 عاما على ظهر الخيول وليس في القصر . ليس كما ترون في المسلسل."

وأدت المشاهد التي يظهر فيها السلطان سليمان مع نساء في القصر إلى نداءات من مشاهدين في تركيا للرقابة بمنع المسلسل. لكن المسلسل يحتل اعلى نسبة مشاهدة كل اسبوع.

وقال اردوغان انه قد تم تحذير مخرج المسلسل الذي يعرض منذ يناير كانون الثاني 2011 وصاحب القناة التي تعرضه لكنه اضاف دون الخوض في التفاصيل انه يتوقع ايضا تحركا من السلطة القضائية.

المدارس الدينية

من جهة أخرى رفعت تركيا حظر الحجاب في مدارس التعليم الديني في خطوة أثارت انتقاد العلمانيين الذين اعتبروها دليلا جديدا على سعي الحكومة لتنفيذ جدول أعمال إسلامي.

وقطاع التعليم من مجالات الخلاف الرئيسية بين المحافظين دينيا الذين تتكون منهم قاعدة التأييد لحزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان وبين خصومه العلمانيين الذين يتهمونه بفرض قيم إسلامية بأسلوب المواربة.

وثارت مخاوف أولئك العلمانيين هذا العام عندما قال اردوغان إنه يسعى لتربية "نشء متدين" وطرح حزب العدالة والتنمية الذي يتولى السلطة منذ عشر سنوات إصلاحات لنظام التعليم تعزز دور المدارس الدينية.

ويتضمن القرار الخاص برفع الحظر عن الحجاب والذي سيدخل حيز التنفيذ بدءا من العام الدراسي 2013-2014 السماح للطالبات في المدارس العادية أيضا بوضع الحجاب في حصص تعليم الدين.

وقال اردوغان إن القرار الذي يتضمن أيضا إلغاء إلزام الطلاب بزي مدرسي موحد جاء بناء على طلب الجمهور. وأضاف خلال مؤتمر صحفي في مدريد يوم الثلاثاء "لنسمح لكل واحد بأن يلبس أبناءه ما يريد حسب إمكاناته." وتابع "هذه كلها خطوات اتخذت بناء على الطلب."

والتنافس بين النخبتين الدينية والعلمانية من الصدوع الكبيرة في الحياة العامة في تركيا. وقلص حزب اردوغان ذو الجذور الإسلامية على مدى السنوات العشر الماضية نفوذ الجيش الذي يعتبر نفسه حامي العلمانية منذ تأسيس الجمهورية الحديثة عام 1923. لكن الحزب ينفي أن له جدول أعمال إسلاميا.

ووصفت صحيفة جمهوريت العلمانية أحدث إجراءات الإصلاح بأنه خطوة نحو "أسلمة" التعليم.

وكتبت الصحيفة في عنوان رئيسي "سينتهي هذا الأمر بالنقاب".

وجاء أحدث إجراءات الإصلاح في أعقاب قانون أقر في مارس آذار يسمح بإنشاء مدارس متخصصة في التعليم الديني يدرس التلاميذ فيها أيضا مناهج التعليم الحديثة وتقبل الطلاب من سن 11 إلى 15 سنة.

وانتقد اتحاد العاملين في قطاع التعليم الإجراء الخاص بالزي المدرسي الموحد والحجاب. وقال الاتحاد في بيان "تغيير قواعد الزي مهمة لأنها ترينا إلى أي مدى بعيد يجري تحويل التعليم إلى تعليم ديني." وأضاف "يجب بالقطع ألا تستخدم الرموز الدينية التي تشيع نمط حياة دينيا في المدارس والتي سيكون لها تأثير سلبي على نفسية التلاميذ."

لكن آخرين عبروا عن تأييدهم للقرار. وذكر جوركان أفجيي رئيس الاتحاد الديمقراطي للتعليم أن القرار ينهي موروثا من الانقلاب العسكري الذي وقع في 12 سبتمبر أيلول عام 1980 بتغيير قواعد الزي. وقال "لن نتمكن من إنقاذ نظام التعليم من العواقب الضارة لقمع وطقوس ومباديء وتفكير حقبة الحرب الباردة إلا بعد تحرير المعلمين والطلاب."

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 6/كانون الأول/2012 - 21/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م