الإعلام الأمريكي... وحروب إسقاط الدول العربية!

مصطفى قطبي

لم يتح للبشرية يوماً، خلال تاريخها، أن تحصل على هذا الكم الهائل للمعلومات كما تحصل عليه اليوم بفضل الثورة المعلوماتية والتقنيات المتطورة جداً، وبخاصة الأنترنت والفيسبوك والشبكة العنكبوتية وغيرها، لدرجة أنه، ووفق المصادر الإحصائية، أن ما أنتجته البشرية من معلومات متاحة للجميع، خلال العقود الثلاثة الماضية، يعادل مجموع المعلومات التي أنتجت خلال خمسة آلاف عام.

ولم يعد خافياً أن الإعلام اليوم، أصبح كل شيء في عالم صار مفتوحاً على الأثير اللامتناهي، ولسنا نجد ما يعصم المتلقي من الاستسلام لعدوانية اللغة والصوت والصورة سوى تحصنه بثقافة نقدية، وبوعي رصين وتأمل الأحداث ومراجعتها وتفحصها بدقة متناهية، غير أن هذا كله يتوقف على تفاصيل صراع شديدة التعقيد وحرب كونية لا هوادة فيها، إذ كيف يمكن لنا إجراء مقاربة إشكالية بين الإعلام والأخلاق تُعدم في زمن تحول إلى وعاء تُختزل فيه أدوات الحوار والكتابة النقدية والإشارات والرموز وتشوه وجه المصطلحات والمفاهيم في صورة غير أخلاقية غريبة ومربكة، كما أننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن أثر هذه الإشكالية التي تشكلت مفازاتها عبر الفضائيات المتحولة إلى أداة سيطرة هائلة استحوذت على العقول والأنفس، فضائيات خرافية تقبض على ناصية الأخلاق وتديرها كما تُدار الرقاب المعلقة على مشانق الأخلاق وتتلوى في حبال شبكاتها العنكبوتية.

فمع تطور وسائل الاتصال الحديثة لم يعد ممكناً إخفاء معلومة واحدة مهما صغرت... حتى حادث سير في أقصى جنوب وشرق آسيا يتم نقله خلال ثوان... وهذه من فوائد الثورة التكنولوجية وما حققته من تقدم للبشرية... والثورة التكنولوجية ليست مقصورة على وسائل الاتصال بل على كل مناحي التطور ومنها الاقتصادي... وظلالها عمت لتفتتح مشهداً جديداً من المدنية المقرونة بنهضة ثقافية آخذة بيد العقول التواقة لبناء معرفة إنسانية في كثير منها تنأى عن الهيمنة الغربية والأميركية... وهذا ما نشهده في الصين العملاق والياباني والروسي الذين أسسوا لمفاهيم تكنولوجية اقتصادية أرعبت الغرب ومعه الولايات المتحدة... وهنا أيضاً دخلت بعض دول أميركا اللاتينية إلى مربع المنافسة الاقتصادية والتطور التكنولوجي بعيداً عن هيمنة أميركا لهذه الواحات... فالعالم في تطور وسباق مع نفسه ومع كبريات الشركات الأميركية التي تطرح نفسها كلاعب لم يعد وحيداً.

وبفعل وتيرة تدفق المعلومات المتسارع جداً، لا يتمكن المشاهد أو القارئ التفكير النقدي بكل معلومة، وتحول الأنترنت بوصفه واسع الانتشار وبخاصة بين شرائح الشباب، إلى وسيلة لفرض السيطرة الفكرية والسياسية عوضاً عن خدمة الحقيقة، لاسيما أنه في كثير من الأحيان غير ممكن التحقق من صدقية المعلومة ويبرز ذلك خلال الأحداث العاصفة المتسارعة والهدف دائماً إقناع المتلقي بما يبث من معلومات وصور ولو كانت فاضحة التزييف والتضليل، فالتقنيات الحديثة، أتاحت التركيب والتفكيك والاستعارة لأي مشهد مطلوب، ولو كانت من موقع وزمن آخر، وتقديمه وكأنه ابن اللحظة، وبالتالي تغيب الحقيقة عن المشاهد، إذا لم تتوفر الإمكانيات لدحض الصورة المزيفة عبر الوسائل الإعلامية المتضررة من التزييف وتشويه الحقائق.

يقول أحد المنظرين الصينيين في علم الاتصال:'' الحرب الإعلامية هي فن النصر دون حرب''.‏ ولكن الحرب الإعلامية ليست سوى المقدمة الضرورية لتحقيق النصر، وإذا لم تجد في تحقيق الهدف، على الإعلام أن يمهد المناخ المناسب لشن الحرب العسكرية أملاً في تحقيق النصر.‏

وتعتبر البلدان العربية اليوم من أكثر الدول تعرضاً للحرب الإعلامية. فقد تحالفت قوى عديدة تلوح متنافرة بينها على ضخ موجة كبيرة من المواد الإعلامية للتضليل على الواقع العربي واستحداث مصطلحات ومفاهيم عنه لا تنسجم وحقيقته، وتطالعنا يومياً وسائل إعلام مختلفة بمواد تهدف لتزييف وعي المتلقي في الخارج والداخل بمفاهيم مختلقة عنه وترسيخ مشاعر الخيبة والهزيمة في نفس المواطن العربي والتشكيك في أهمية ماضيه وآفاق مستقبله.وعادة ما تستخدم الدول الكبرى إعلام صناعة الأزمة والحرب النفسية كأسلوب لتنفيذ استراتيجياتها الكبرى في الهيمنة والسيطرة على العالم وتأكيد قوتها وفرض إرادتها وبسط نفوذها وتحقيق أهدافها الخفية طويلة المدى التي لا تستطيع الإعلان عنها، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة في العراق التي كانت رائدة بإنشاء العديد من المراكز والهيئات المتخصصة في بحوث صناعة الأزمات، كما اتبعه هتلر قبل نشوب الحرب العالمية الثانية عندما غزا بولندا، وقامت عدة دول في الخمسينيات والستينيات مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان بإنشاء مراكز مماثلة.‏

تعتمد إدارة الأزمات السياسية المصنعة على تقنيات التضليل الإعلامي، وهو ما يطلق عليه الخبراء عمليات الدعاية السوداء، القائمة على ما يسمى بناء القوام التراجيدي، أي جعل السرديات أكثر تماسكاً وغير قابلة للافتضاح، وكذلك توظيف المعاناة، بتضخيم المقاربات بشكل تحمل فيه المستهدف بالدعاية السوداء المسؤولية عن المعاناة المفترضة، ويتم فيها أيضاً توظيف التباينات باستخدام عمليات التنميط الإثني والقبلي والثقافي وغيرها، كما أنها تستثمر التزوير بشكل واسع، سواء عن طريق المونتاج، أم من خلال المواد والوثائق المزيفة واستخدام شهود الزور، كما يؤكد الخبراء، وكما يحصل في إدارة الإعلام المغرض لما يجري في الوطن العربي.‏

ولمعرفة هذه الحقيقة فإن من خططَ للسيطرة الاستعمارية على العالم العربي بشكل خاص، وضع الإعلام في قمة أسلحته وفوق بقية الأسلحة الحربية المتنوعة، لأن التحكم في ردود فعل الرأي العام يشكل أحد شروط شن الحروب الكبرى لفرض الهيمنة الصهيوأمريكية وتحقيق رغبتهم الكبرى في شرق أوسط جديد وفق معايير الأصولية اليهودية والتكفير الوهابي لمسح الآخر والسيطرة على ثروات العالم، ومن هنا تكمن العلاقة المأزومة بين نظام عالمي قمعي وآخر وبين تلك العلاقة التبادلية بين موت الأخلاق وبؤس النظام العالمي (المتحضر) الذي أدخل المجتمعات البشرية في دائرة الشك والفوضى والعبث والدوران حول قطب واحد، لأن القوة في القرن الواحد والعشرين لن تكون في المعايير الاقتصادية أو العسكرية، ولكنها تكمن في خزائن المعرفة، و خطورة الأمر يكمن فيمن يمتلك أدوات هذه القوة لتحقيق مآرب وأهداف خاصة لنشر معلبات إعلامية جاهزة وغسل عقول البشر للتحكم بهم واستغلالهم لأهداف اقتصادية أو سياسية أو آيديولوجية.

ورغم التطور الإعلامي المنقطع النظير الذي نشهده اليوم، فإن فرص التضليل الإعلامي والمبالغة والكذب وإخفاء الحقائق ظل متاحاً للأطراف التي ترغب في تطبيقه لترسيخ قناعات معينة أو لخلق ظروف خاصة تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على مجريات القتال، وهذا بدوره دفع بعض الإعلاميين للقول: إن الحقيقة في عصرنا هي أولى ضحايا الحرب، ومع اتساع بؤر الحرب العدوانية بداية من القرن العشرين وبداية القرن الحالي والتي عمت معظم أرجاء الوطن تبنى الغرب نظرية مفادها، أن الجيش والإعلام يحاربان معاً على نفس الخط والجبهة، لذلك تم تسخير وسائل الإعلام الغربية بكل الطرق الممكنة لخدمة أهداف الحرب حتى إن أي وسيلة إعلام كانت تخالف التوجه العام، ينظر إليها وتقيم على أنها غير وطنية ولم تكن وسائل الإعلام المختلفة تغامر لتوصف بهذه الصفة المشينة، فالأميركان لا يكتفون عادة بالاستراتيجية العسكرية وحسب إنما يرتكزون على الحرب النفسية والدعاية والإعلام من أجل التلاعب والسيطرة على العقول والأفكار والاتجاهات وصولاً لتحقيق الغايات المرجوة.

فمع نهاية القرن العشرين وبداية الواحد والعشرين، تبلورت في الغرب آلية كاملة لتحول وسائل الاتصال الاجتماعي، إلى مجمع أطلقت عليه تسميات مختلفة، إلا أن أكثرها دقة تلك القائلة بوجود ''إمبريالية إعلامية'' مركزها الولايات المتحدة، ولها فروعها في مختلف دول ومناطق العالم، وتتماهى هذه الفروع مع المركز الأم لدرجة التطابق، إن كان في أساليب التضليل أو الأهداف، والفروع تخدم المركز، وأخطر تطور بهذا الصدد، أن المجمع الصناعي العسكري الأميركي الذي يشكل رأس المال اليهودي ما نسبته 25 في المائة من تمويله الإجمالي إضافة إلى ما تمثله الرأسمالية اليهودية من وسائل إعلام متطورة في أميركا، تصل سيطرتها على نحو 72 في المائة من مجمل وسائل الإعلام، ولا تقل كثيراً هذه النسبة في أوروبا واستخدم المجمع العسكري وسائله الإعلامية في الحرب ضد يوغوسلافيا وأفغانستان وكوريا الشمالية والعراق وضد ما يسمى محور الشر ـ إيران ـ العراق ـ كوريا واستخدم بشكل واسع ضد سورية بعد مقتل الحريري ويستخدم اليوم بطريقة جنونية ضد سورية عبر وسائله ووسائل فروعه في المنطقة العربية، وبخاصة الفضائيات الناطقة بالعربية، وتنفق أميركا على الدعاية الخارجية نحو 6 مليارات دولار سنوياً وتنظم عملية الانفاق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وتمول مئات المجلات والصحف والفضائيات في مختلف أنحاء العالم وبأكثر من 20 لغة. وتقوم الدوائر والأجهزة الإعلامية التابعة لمراكز القرار، بإيجاد صلات نفعية ورشاوى وشراء ذمم صحفيين ومثقفين وقادة بعض الجمعيات واللجان التي تطلق على نفسها إما لجان حقوق الإنسان أو ''المجتمع المدني'' وتنظيمات أخرى مكونه من ذوي النفوذ في أحزاب ووسائل إعلام تقوم بعملية التأثير على المحيط الاجتماعي المحلي في البلدان النامية.‏

ويكون المركز مع الفروع إمبراطورية إعلامية مترامية الأطراف جاهزة للعمل على مدار الساعة لخدمة المخططات العدوانية للبيت الأبيض والبنتاغون ومخططات الحركة الصهيونية وإسرائيل المتغلغلة في أجهزة الإعلام الأميركي على الساحة الدولية، ولتنفيذ هذه المخططات تعمل لتشويه والوعي، وإحلال بدائل وهمية مشوقة محل الوقائع الفعلية، ودفع المجموعات المتأثرة أو المرتشية إلى السلوك المطلوب ميدانياً، وخلقت من نمط التفكير والحياة الاستهلاكية إلى أن هؤلاء جاهزون للحصول على المال ولو كان ثمناً للانتماء الوطني.‏

ومبتغى الكلام هنا أن هذا التطور التكنولوجي والسعي الأميركي للتفرد أصبح ضرباً من العبث... لكن ينبغي أن ندقق أن الولايات المتحدة قد سخرت هذا التطور في فضاء الهيمنة ومد الذراع العسكرية لها في العالم بغية بقائها متحكمة بالقرار الاقتصادي وهي تفشل إلى حد كبير أمام النهوض الاقتصادي العالمي... ولتخرج من دائرة الخناق الذي يضيق عليها فإنها تطل برأسها متسللة لاقتناص ''بروباغاندا'' بقاء العالم تحت رهاب ''الإرهاب'' أو لنقل توسيع دائرة التخويف المضلل لتبقى قادرة على تسويق أفكارها وحماية مصالحها وحلفائها.

فبعد مقتل بن لادن بدأت تظهر أشرطة وتنفخ في بوق ''الخطر'' القادم وخوفها على الديمقراطية في العالم... وخشيتها على العراق الذي استباحته وأوغلت حرابها في دم أبنائه... ورسائلها إلى العالم أن ما يجري في سورية هو انتهاك لحقوق الإنسان... حيث سخرت من ''موقع'' الهيمنة التكنولوجية التي تسعى إليها وسائل ضخمة لدعم من تسميهم المعارضين. وحجم ذلك يفوق التوقعات إذ يتبين ومن خلال المتابعة أن حجم من كلفوا من متخصصين في وسائل الاتصالات الحديثة يفوق الآلاف ومنهم من يحمل اختصاصات علمية بغية نشر صور وتقارير وبيانات بلغات عدة لتشويه صورة الحقيقة... وكذلك غرف عمليات لوجيستية لمد هذه المواقع بمواد يراد منها تضليل الشعوب وحقيقة ما يجري في سورية.

إن ما يمارس ضد سورية في مجال الإعلام هو حرب فضائية بكل ما تعنيه هذه العبارة من معنى، حيث دأبت الشاشات الصغيرة ومحطات الإذاعة ووسائل الإعلام الأخرى الغربية والعربية المتحالفة معها على إشعال نار الفتنة، وشجعت بشكل أو بآخر على سفك الدماء من خلال ما قامت به من تلفيق للأخبار وتضخيمها، وقلب الحقائق رأساً على عقب بهدف التأثير في عقول بعض الناس ممن هم غير قادرين على فهم واستيعاب ما يرونه ويسمعونه، وتوجيههم بالاتجاه الذي تريد والمرسوم بدقة في دوائر واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الإقليمية والعربية المتحالفة معها، وذلك تنفيذاً لمثل صيني يقول: (الصورة تساوي عشرة آلاف كلمة لما تتركه من أثر كبير في إدخال المعلومة إلى الذاكرة وتثبيتها فيه) ومن ثم المساهمة في تكوين رأي عام مرتبك وضائع ينقاد وراء ما تقوله تلك المحطات الممولة من أعداء الأمة العربية.

إن كل من يشاهد محطات التضليل الإعلامي وعلى رأسها الجزيرة القطرية منذ بداية الأحداث العربية بشكل عام والأزمة السورية بشكل خاص يدرك فوراً وبلا تردد أن للجزيرة وأخواتها وظيفة مخابراتية، فالطريقة الهستيرية لتغطية الجزيرة للأحداث وتحول مقدمي البرامج والمذيعين إلى (مقاتلين إرهابيين) يقومون بمهمة واضحة بنشر الفوضى وإشعال الحرب الأهلية وتعمد عدم إطفاء نيران الحرب والفتنة، التي كانوا هم المحرضين عليها، وتخليهم الصريح عن كل قواعد المهنة الصحفية مثل الموضوعية النسبية والحياد، مما يؤكد أنها كانت مشروعاً مخابراتياً صرفاً، اعتمدت أحقر عمليات الكذب والتزوير والتشويه لما يحدث ليس من أجل إسقاط أنظمة بل من أجل تضليل الرأي العام ودفعه في دهليز مسدود عمداً تنفيذاً للمخطط الصهيوني الذي لم يعد خافياً على أحد.

وقد يطل علينا من يرغب في دحض أقوالنا ويقول نحن نتحدث من زاوية واحدة فقط دون النظر إلى إنجازات هذا الإعلام العربي... وحضوره القوي ومهنيته التي لا يشق لها غبار... ولكن أقول هنا علينا التفريق في قراءة ما يذهب إليه الإعلام الذي يقول عن نفسه إنه مهني وحيادي وما يصنعه من فوضى إعلامية تبعده كل البعد عن جوهر الحقيقة... فالحقيقة التي يجب أن يسعى إليها الإعلام خدمة للكلمة الحرة والرأي ليست بفتح النار الإعلامية على كل من يختلف برأيه مع الجزيرة والعربية.

أن يكون لك تاريخ إعلامي وحضور... هذا لا يعطيك الحق في أن تقلب الصورة كما ترغب الدولة التي تمول هذه المحطة أو تلك... ومن واقع معرفتي بالمطبخ الصحفي أدرك أن هذه المطابخ تبحث وتنقب عن خبر هنا وهناك ومسيرة هنا وأخرى ربما لم تحدث... لتقول ما ترغب فيه وليس ما يرغب فيه الشارع. وأعتقد أن بعض الإعلام العربي قد دخل في لعبة السياسة ودهاليز التآمر وكشف عن أنيابه... معيداً إلى الأذهان ما قيل وكتب عن أهداف صُنعت لأجلها تلك المحطات... وهذا ليس من ضروب الرومانسية أو المغالاة في القول... إنما يستند إلى معرفة علمية تقرأ واقع التمويل لكثير من تلك المحطات التي تغزو العقل في مواد دسمة حيناً وأخرى كالحية الرقطاء.

نعم نحن أمام حرب فضائيات عربية كشفت عن أنيابها بعد أن تسللت إلى غرف نومنا وأقنعتنا لزمن طويل أنها تنشد حرية الكلمة... ومن يعمل وعمل في تلك المحطات يعرف أكثر مني بحريتها التي أُلبست ثياباً من خداع وتضليل.

ومن خلال قراءة متأنية وتحليلية لطبيعة الحملة الإعلامية والسياسية على سورية التي ترتبط في جزء كبير منها مع محطات عالمية وعربية... نجد ذلك التناغم في الخطاب الإعلامي الذي يكاد يكون واحداً في كثير من الأحيان... ومن يتابع المحطات الأميركية والصحف فسيجد ذلك دون جهد... بل إن تسخير وسائل الاتصال المتقدمة لا يقتصر على تشويه الصورة في سورية... بل اتبعت لدعم أنظمة موالية لواشنطن في العالم... وهذا يعيدنا إلى دور يد الخراب في جنوب إفريقيا التي انتصرت على حكم الأبارتهايد كمثل على تسخير التكنولوجيا الأميركية هناك لعقود في دعم الأقلية التي رهنت البلاد للإرادة الأميركية. والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا المجال.

وفي فلسطين كان لواشنطن اليد الطولى في دعم كيان الاغتصاب بأفضل وسائل الاتصال... وتطوير المنظومات الصهيونية لمواجهة من اغتصبت أرضهم وشردوا إلى أصقاع المعمورة.

ومن واقع الادعاء بالحرص على الشعوب والثورات التي حصلت في العالم العربي تنظر أميركا إلى ما يحصل في سورية على أنه استجابة لما تطرحه من دعوات للديمقراطية وفق ما جاء على لسان أحد المحللين السياسيين في صحيفة ''نيويورك تايمز''. وبالطبع ترى واشنطن من زاوية هذا المنطق، وإن كانت تخفي ذلك أحياناً أنها معنية في الوضع الداخلي العربي... وتسعى إلى ترميم مواقعها التي انهارت بعد ما حدث من ثورات في مصر وتونس... لذا كانت ليبيا مدخلاً للتدخل المباشر ونهب مقدرات النفط الليبية. ومن ثم وتلاقياً مع أهدافها تسخر التكنولوجيا ''الصورة'' ومن جانب واحد لتعرض لنا ما يخدم سياساتها وإستراتيجيتها في المنطقة العربية والإسلامية. وتتقاطع مع من ينفذون هذه المخططات على الأرض عبر مدّهم بكل وسائل التطور. ولنلحظ هنا أن من توفر لهم أميركا هذه الأجواء ومعها بالطبع فرنسا وبريطانيا منغمسون إلى حد النخاع بمشروعها... وهم أصلاً بعيدون كل البعد عن الواقع الحقيقي للشعوب العربية وتطلعاتها.

وبالطبع من الصعب أن تجد آثار الغزو اليومي تأثيرها دون توفر عنصر رئيسي وهو وجود الجسور المحلية الإقليمية والداخلية للغزو في البلدان الأخرى، فالأنظمة السياسية التابعة للمراكز الاستعمارية الغربية والأميركية، تقوم بعملية الترويج للغزو الإعلامي وتصوغ مؤسساتها الإعلامية والثقافية وفق مضمون الغزو الامبريالي الإعلامي، ووسائل الإعلام المحلية التي تقوم بعملية الضخ اليومي لبرامج المركز الغربي، تحاول إعطاء وسائلها طابعاً ''محلياً'' وتدعي الحيادية والموضوعية بهدف زيادة التأثير من خلال الاندماج والتماهي. بينما نجد في برامجها الإخبارية عملية تشويه الأحداث بصورة فظيعة، يمتزج فيها الكذب بالحقيقة وفي حالات معينة يكون الحدث صحيحاً وينقل بصورة تشبه الحقيقة ولكنها تأخذ في مجمل الوضع لتصبح مشوهة في نهاية الأمر وبالتالي يحصل المتلقي على معلومات غير صحيحة وكاذبة، المهم أن يدفع لسلوك منسجم مع المعلومات المفبركة.

يقول المفكر ''جورج غالوب'': ''إن إنفاق خمسة مليارات دولار في الوقت الحاضر لإنتاج الدبابات والمدافع والبوارج لن تكفل لنا درجة التفوق التي تؤدي إلى النصر النهائي على الخصم، والتي تكفلها إنفاق نفس المبلغ على الحرب النفسية الإعلامية'' وهذه النفقات يجب وفق آلية التضليل الغربية والفروع التابعة أن تنفق أولاً: على تحريف الأخبار عن الحقائق الفعلية بشكل يتقبلها الفرد وكأنها مسأله طبيعية ويعمل وفق ما تمليه تلك الأخبار الملفقة.

وعلى نفس النهج، يسير البروفسور الأميركي ''هودين'' ويقول: في كتابه'' سياسة التحكم'' أن التحكم بعقول الناس هو خداعهم بشكل منظم جيداً'' ويقول: كلما زاد اطلاع الناس، كلما صعب التحكم في وعيهم، لذلك يبثون ما هو بديل للأخبار الفعلية كالأخبار الناقصة غير الموثقة والمحرفة عبر مثلاً شهود العيان والمراسلين الخاصين، والمدونين وغيرهم، وبقدر غياب الحقيقة يمكن التحايل على الوعي. ويلجؤون إلى الغش وفبركة الوثائق لتصبح مزورة ويتم استخدام المونتاج في الصورة يدخل عليها عنصر التزوير، وكذلك التركيز على أحداث هامشية مثيرة لتحويل الاهتمام عما هو رئيسي في الحدث، وأحياناً يتم افتعال أحداث ليست ذات قيمة وتصويرها وكأنها فائقة الأهمية.‏ فيحولون الضحية إلى جلاد والعكس صحيح، وثمة أسلوب خطير وهو تضخيم الحدث والأرقام أكثر بكثير مما هو واقع، المهم البحث عن صياغة للخبر ليصبح جذاباً ومثيراً، ولو كان ملفقاً حتى يتفق مع واضعي السياسة الإعلامية مسبقاً.

وفي نفس السياق، يقول أحد المفكرين:'' في مجال الظواهر الاجتماعية والأحداث الكبرى، لا يوجد مثال أكثر انتشاراً وأكثر نفاقاً من أبراز بعض جوانب الواقع وإخفاء الجوانب الأخرى، هذا لعب في الأمثلة من الضروري ليس انتقاء بعض الحقائق بل جميع جوانب الظاهرة وربطها مع بعضها البعض، ودون ذلك سيظهر حتماً الشك في المصداقية، والانتقاء المتعمد لبعض الجوانب هدفه تشويه الحقيقة''.‏

إن الديمقراطية الموعودة التي يلوّح بها الغرب الاستعماري، والحرص على الحرية وحقوق الإنسان، ما هي إلا ذرائع لتغطية أهداف بعيدة ومصالح معروفة، فمن يعمل من أجل الديمقراطية والحرية الحقيقية لا يرتكب أفظع وأبشع الجرائم من خلال القصف الذي قامت به القوات الأميركية وقوات حلف الناتو في المدن العراقية والليبية وفي أفغانستان وباكستان مروراً باليمن والصومال تحت ذرائع واهية وللتغطية على الأهداف الحقيقية في استعمار هذه الدول، كل ذلك جرى بعد حملات إعلامية مضللة تقوم على اختراع الأخبار، وتلفيق الروايات، وصنع المشاهد الكاذبة بما يساعد على اختراق وعي المواطن وإرباكه.

باختصار نقول: لم يعد ممكناً ـ كما قلنا بداية ـ أن يخفى أصغر خبر... ولم يعد مستحيلاً أن نكتشف ونقرأ عناوين الإرهاب الأميركي... والزعم بدعم التواقين للديمقراطية... فديمقراطية بوش الأب والإبن خبرها أهل العراق ولبنان وفلسطين... وديمقراطية أوباما على أرض فلسطين مجسدة بجدار الموت الصهيوني والاستيطان والتهويد، وبالمجازر التي ترتكبها الآلة الحربية الإسرائيلية في غزة المحاصرة.

هي إذاً تكنولوجيا صناعة الموت والقتل... وقد خبرنا كغيرنا تلك الصورة البشعة... ولن تبيضها كل أفلام هوليوود... فالعالم استيقظ ويصنع ثقافة كونية إنسانية بعيداً عن الكاوبوي ورصاص مسدسه الذي لا يفرغ.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 2/كانون الأول/2012 - 17/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م