زمن الأكراد

حسين الياسري

 

شبكة النبأ: من حيث المبدأ العام، أقف مع المظلوم ضد الظالم بغض النظر عن صفة المظلوم أو الظالم وعلاقتي بهما، علاقة نسب او قرابة او جوار، او أي شكل من أشكال العلاقات الأخرى. تشكلت شخصيتي من ثلاثة كافات(جمع حرف الكاف) حيث ولادتي في محافظة الكوت قضاء الحي، وسكني بحكم وظيفة الوالد في كركوك لمدة عشرين عاما ، وعملي في مؤسسة تقع في مدينة كربلاء المقدسة، وهو استمرار لنفس العمل مع أهالي كربلاء منذ العام 1997 حين وصلت الى سوريا، وحتى عودتي العراق بعد العام 2003 .هجرتي خارج العراق انطلقت من كركوك، ثمن دفعته عائلتي بسبب موقفها المتعاطف مع البيشمركة، أيام انتفاضة العام 1991 واستضافتنا لعناصر منهم في بيتنا لأنهم أصدقاء لأخي ولنا.

خروج ما تبقى من أهلي (والدي ووالدتي وأخي الصغير) تحفظه سجلات العبور للحزب الديمقراطي الكردستاني، من معبر فيشخابور الحدودي بين زاخو والقامشلي، مثلما يحتفظ والدي ببطاقة الخروج الممهورة بختم الحزب الكردي. ضحايانا العائلية كثر، لم تشف جراحاتنا بعد،اثنان من أعمامي، ابن خال أبي، خمسة من أبناء أخوالي، أخي الأصغر وقبره بمقبرة الغرباء في السيدة زينب، حيث لم يتحمل قلبه الضعيف لوعة ومرارة الغربة الطاحنة وفقد ابنته البكر حديثة الولادة، ليترك زوجة أرملة لم تكمل عامها الزوجي الأول.

هذه السطور مقدمة كي لايزايد احد على وطنية الكاتب او حبه للعراق، حين يقرأ مابعدها ويعتبره هجوما على الأكراد.. كنت شاهدا على الكثير من تجاوزات النظام السابق وأجهزته القمعية ضد الأكراد، حيث كنت اسكن، وسنوات خدمتي في الجيش في دوكان ودربندخان. لم  أكن من ضمن القطعات التي لها علاقة بالمشاة او المغاوير او القوات الخاصة، كنت ضمن كتيبة تابعة للدفاع الجوي، وهي كتيبة مدفعية مقاومة الطائرات الخفيفة 64،  مهمتها حماية السدود في دوكان ودربندخان، وهذه الكلمات أيضا لقطع الطريق على من سيقول أني ربما خدمت في قطعات حاربت الأكراد تلك السنوات.

كنت شاهدا على الكثير من التجاوزات، في أسواق كركوك، ولازلت أتذكر وجه صباغ الأحذية الكردي، رجل في الخمسينات من عمره، في شارع أطلس مقابل سوق الذهب الحالي، وكان ذلك في الثمانينات، حين تجمع حوله عدد من الشرطة واخذوا ينهالون عليه بالضرب المبرح. كان المشهد مؤلما لم تتحمله مشاعري، كنت منشغلا بمسح دموعي وأنا ابتعد عنه. واذكر القرى المدمرة حيث كنت أمر من أمامها بسيارة الزيل او الايفا الخاصة بالأرزاق، لازالت ذاكرتي طرية ببقايا البيوت المهجورة، ورائحة دخان الحرائق المنبعث من سقوفها المحترقة.

كنت في وحدتي العسكرية أيام عمليات الأنفال، وشاهدت أعمدة الدخان الأبيض الكثيف المتصاعد من القرى المحترقة بالغازات السامة، كثيرون منا كان يعتصرهم الألم لما حل بالأكراد، الذين كانوا يميزون بين العدو والصديق يومها، كانوا يعتبرون وحدتنا هي للدفاع عنهم، وكنا نسير بأمان في أسواق مدنهم، ولم أكن أخشى يوما ان أبيت في منزل احد أصدقائي من أكراد المدينتين، او في مدينة السليمانية حيث لدي أصدقاء آخرين.

واذكر بالمقابل أيضا عمليات الحوسمة المنهجية التي قام بها الأكراد لأعمدة الضغط العالي وللسيارات الحكومية وللكثير من المعدات العسكرية، وهو مشهد تكرر بعد العام 2003 حيث لاتجد سيارة حكومية حديثة الا في شمال العراق، نهبا او شراء من ناهبين آخرين. شاهدت الكثير من سلوك الظالمين والمظلومين، والذاكرة متخمة لازالت بالكثير من التفاصيل.

لم انقطع عن كركوك، حتى بعد استقراري في بغداد بعد العام 2003 ، لدي عدة صداقات لازلت أتواصل معهم، عبر الموبايل او اللقاءات الشخصية. تغيرت المواقع والأدوار، فبعد ان عانت كركوك مما يسميه الأكراد بسياسة التعريب ، أصبحت الآن تعاني مما يسميه العرب بسياسة التكريد، الا ان التكريد أبشع واظلم. كنت أريد السكن في منزلنا في كركوك، وكان محل نزاع قضائي مع احد الرفاق العبثيين الذي تملكه بعد قرار مصادرته من قبل النظام السابق بسبب هجرة أهلي.

في مبنى محافظة كركوك، واعرف بعض الأشخاص هناك، الشروط المطلوبة لنقل الأثاث يجب ان تتضمن صورة لقيد العام 1957 ، لااملكه، بطاقة تموينية من كركوك، لا املكها ، فقد نقلتها عند عودتي الى بغداد. أرشدوني الى الهجرة والمهجرين، هي وحدها الكفيلة بتزكيتي وجعلي أستطيع السكن هناك.

تكررت زياراتي الى كركوك، لتكرر الخطوات الروتينية في انجاز معاملتي.

التقيت بأحد الأصدقاء الموظفين في المحافظة، حدثني أيها الصديق، هل هي كركوك المدينة التي هاجرت منها وبسبب حب أكرادها نفسها، ام أنها تغيرت مثلما تكشف الوقائع على الأرض الآن؟ لا تفكر بالعودة إليها، فأنت الآن ملعون،  قد تحصل على موافقة بالسكن، لكن مابعدها أدهى وأمر. ستحارب في رزقك ، سيزورك أشباح الليل، وستسمع في مراحل متقدمة سيمفونية القنابل الصوتية. اذا عدت الى كركوك رغم ذلك ، أنصحك ببيع هذا المنزل وشراء آخر في المناطق ذات الأغلبية العربية. الدين نصيحة، وتلك كانت نصيحة صديقي.

لا احد يستطيع الانتقال الى كركوك دون قيد العام 1957 ، حتى لو كان موظفا تم نقله إليها من مدينة عراقية أخرى، هل هناك من فرق بين ما مارسه صدام ضد الأكراد، وما يمارسه الأكراد ضد العرب الآن؟

عزز كلمات هذا الصديق ومصداقيتها، صديق آخر من أيام الدراسة الإعدادية حين التقيته صدفة في محكمة تحقيق كركوك حيث جاء يرفع دعوى ضد مجهول، وملخص قصته، انه وجد قرصا عند باب منزله، للجيش الإسلامي، لعملياتهم العسكرية واغتيالاتهم، وهي رسالة تهديد كانت قد تم توزيعها في منطقة حي البعث وواحد حزيران ذات الغالبية العربية عند منازل أفراد الشرطة والجيش . صديقي هذا لم يكن عسكريا بل هو معلم في مدرسة ابتدائية، والمفارقة انه يسكن في منطقة الشورجة الكردية ، وهو يكاد يكون العربي الوحيد في تلك المنطقة ، حتى القاضي لم يصدق ان الجيش الإسلامي هو وراء توزيع هذه الأقراص. من يكون اذا؟

في تعميم صادر الى أصحاب المولدات الأهلية، على من يريد الاشتراك في سحب ولو أمبير واحد، عليه مراجعة استخبارات كركوك للحصول على الموافقة، فكرة احسب ان صدام حسين نفسه لم تخطر على باله مثل هذه الفكرة، او ربما الأكراد يقومون الآن بترسم خطوات القائد الضرورة، فالضحية كثيرا ما يماهي الجلاد في تصرفاته.

حسنا، وماذا كنت افعل أنا في محكمة التحقيق؟ كنت أتوهم اننا سنحصل على حقوقنا بحكم القانون ضد احد الأكراد، الذي خرج علينا بعد حسم قضية منزلنا مع الرفيق البعثي، مدعيا بأنه قد اشتراه بعقد مكتب من هذا الرفيق، وان له نصف المنزل. وقد اقمنا عليه دعوى تهديد، بعد كتابات على جدار المنزل. والدخول عنوة إليه. هل قلت حكم القانون؟ اعتذر، او ربما استمر في قولي هذا، لكني اعني به قانون الاسايش، القوة الامنية الضاربة للأكراد في كركوك وفي مدن الشمال والمناطق المتنازع عليها. تقاسمنا ثمن المنزل لاننا نخاف ونخشى على أرواحنا، أنا ووالدي، فالطرف المقابل مدجج بالأسلحة، المسدسات في الحزام والبنادق على مقعد السيارة الخلفي.

من هو الطرف المظلوم في تلك المعادلة؟، لو شبهنا هذا الوضع الا يمكن ان نقول مثلا أننا نمثل المركز وكان الطرف المقابل يمثل الإقليم؟، من له اليد الطولى في كركوك؟، قانون الحكومة الاتحادية ام قانون الاسايش؟ معلومة اختم بها، من كل عشرين شخصا يتم تعيينهم على ميزانية البترو دولار، تكون النسبة، اثنان للعرب، اثنان للتركمان، وستة عشر للأكراد. انه زمن الأكراد. هل يذكركم العنوان بعنوان قريب منه لأحد الأفلام؟.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/تشرين الثاني/2012 - 14/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م