العرض الإيراني والتفكير من خارج الصندوق

عريب الرنتاوي

لم نأخذ العرض الإيراني بتزويد الأردن بالنفط المجاني لثلاثين سنة قادمة على محمل الجد ابتداءً، على أن ظهور سفير الجهورية الإسلامية الإيرانية على شاشة محطة تلفزيونية محلية، وتقديمه لعرض بلاده بـ"الصوت والصورة"، أمرٌ يستحق التأمل والتفكير، بدل الإجابات الفورية "الحاسمة" المرحبة بالعرض أو المُنددة به و"المُكفرة" لكل من تسول له نفسه أمر القبول به...ووفقاً لما نُسب للسفير مصطفى مصلح زادة، فإن إيران تنتظر في المقابل، "تسليك قنوات التجارة والسياحة الدينية" بين البلدين، لا أكثر ولا أقل.

ليس سراً، أن الأردن وإيران لا يحتفظان بعلاقات "طبيعية"، العلاقات الثنائية بين البلدين هي دون مستوى "التطبيع"، ولطالما قابل الأردن، رسمياً بخاصة، وشعبياً إلى "حد ما"، محاولات طهران التقرب إليه والاقتراب منه، بكثير من الحذر، باعتبار أن إيران دولة "تدخلية"، لا تخفي هويتها المذهبية، وأن لها أطماع في مد نفوذها الإقليمي، وإشاعة "التشييع"، فضلاً عن "الهواجس الأمنية" التي تظل حاضرة في خلفية الموقف الأردني من إيران وحيالها...ولقد قابل الأردن بحذر بالغ، عروضاً تجارية وسياحية إيرانية مشابهة، ولم يستجب لمبادرات إيرانية لتطوير "مراقد الصحابة" ممن لهم مكانة وازنة لدى عموم الشيعة في المنطقة، وليس لإيران وحدها.

سياسياً، يصطف الأردن في المعسكر المقابل للمعسكر الذي تقوده إيران، ومن عمان صدرت التحذيرات من مخاطر قيام "هلال شيعي" في المنطقة، وحتى سنوات قليلة خلت، كان الحديث في الدوائر المغلقة لصنع القرار، يدور حول الحاجة لبناء سد "عروبي" في وجه التمدد الفارسي"، أو قوس سنّي محصن في مواجهة "الهلال الشيعي" الآخذ في التمدد والانتشار..

ولا أحسب أن "المؤسسة" الأردنية قد غادرت تلك المقاربة، على الرغم من "خيبات الأمل" المتكررة من "الاعتدال" و"دوله" و"محاوره" و"مجالسه"، بدلالة أزمتنا المالية والاقتصادية من جهة، وعجز هذا المحور عن تحقيق أي إنجاز حقيقي في ميادين التنمية والديمقراطية وحل القضية الفلسطينية من جهة ثانية. ما الذي تريده إيران من عرضها للأردن، بفرض جديته؟..وهل يقوى الأردن على تقديم "المقابل" لهذا النفط المجاني...إن كان الأمر مقتصراً على السياحة والتجارة، فأحسب أنها مشكلة يمكن التعامل معها، تحت سقف الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، ولا خوف على الأردنيين من "غول التشييع" الذي يجعل البعض منه "أسطورة" بعيد عن المنطق والحقيقة...فالأردن، بلد منسجم من حيث تكوينه الديني (والمذهبي)، والاختراقات في هذا المجال، تبدو عصية على الحجاج والزائرين.

في الأردن، كنز من المقاومات الدينية، التي قد تجعل البلد قبلة لمختلف صنوف الحجيج...لقد استثمرنا في المواقع المسيحية (الإنجيلية)، الشيء الكثير، وإن كنا لم نجن حتى الآن، سياحة دينية مسيحية وازنة، قادرة على أن تحدث فرقاً...وسمحنا لدول ومراكز عربية، وازنة في نشر "قراءاتها" المتطرفة للإسلام، بحجة أننا لا نستطيع المقامرة بخسارة علاقاتنا "الأخوية" معها، فتغلغلت "القراءات الخليجية في طبعتها الوهابية والسلفية" في أوساطنا الاجتماعية، بخلاف ما كان عليه حالنا سابقاً، فهل نخشى أمراً مماثلاً مع إيران، دولة المذهب والقومية؟.

في ظني أن القفز من وضعية "شبه القطعية" مع إيران إلى حالة الانفتاح الكامل، بلا تحفظات ولا قيود، ليس من السياسة في شيء، لكن إقفال الباب في وجه خيار تطوير العلاقة مع إيران، هو أيضاً، ليس من السياسة ولا من المصلحة في شيء...وثمة حاجة لمتابعة "العرض" الإيراني حتى آخر مدى، وليس لدينا ترف الاختيار بين "مانحين أسخياء" كثر، فقد خذلنا الأشقاء والأصدقاء، وعلينا أن "ننوّع" في صداقتنا وشراكاتنا الاقتصادية.

وبالإمكان وضع "العرض" الإيراني على مائدة مفاوضات جادة وصريحة وشفافة...فنحيطه بكل تحفظاتنا، ونأخذ منه ما نقدر عليه ونقوى على الإحاطة به، فنكون بذلك قد وفرنا مخرجاً جيداً لأزمة الطاقة والوقود، وحركنا التجارة والصناعة والزراعة في بلادنا، وأعدنا بعث قطاع السياحة الذي لم ينمو كما تشتهي سفن أهل القطاع، والأهم، أننا سنكون قد أسهمنا في تنمية معظم المحافظات التي تحتضن هذه المقامات، بالغة القدسية والقداسة عن نفر من المسلمين. يقل المثل الأجنبي: "لا توجد وجبة مجانية"، والمؤكد أن لإيران حسابات ومصالح كامنة وراء "عرضها السخي"، فهي دولة إقليمية لها حساباتها ومصالحها، وليست "جمعية خيرية"، ولكننا في المقابل، لسنا قوماً من "البلهاء" الذي سيسلمون بلادهم ومصالحهم وأمنهم، لقمة صائغة، لا لطهران ولا لغيرها.

إن الحاجة تقتضي، أن نُجري تفكيرنا في العرض الإيراني "من خارج الصندوق"، فإيران شريك تجاري كبير لأكثر الدول تورطاً في النزاع معها: الإمارات صاحبة الجزر المحتلة، وتركيا تستورد الغاز والنفط الإيرانيين، والعلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض لم تنقطع لحظة، وثمة في الأفق ما يشير إلى تنامي فرص التوصل إلى "صفقة إيرانية – أمريكية" شاملة، تستتبع انفراجات في علاقات طهران مع المجتمع الدولي.

ما تعرضه طهران اليوم من موقع الأزمة والحصار والعقوبات، قد لا تعرضه غداً، ومن الحصافة تلقي العرض الإيراني، بعقل منفتح، ولا أقترح القبول به بحذافيره، وأن نحيطه بكل ما يلزم من ضوابط ومحددات، تكفل "سد الثغرات" و"تعظيم المنافع"، فما يربطنا عربا وفرسا، سنة وشيعة، أكبر مما يفرقنا، أنه التاريخ والجغرافيا معاً، ومن المؤسف أن تنجر قوى سياسية إلى منطق "التحليل والتحريم" في النظر إلى هذه المسألة، فإن صح ما نسبته "القدس العربي" لمراقب الإخوان في الأردن من اعتبار القبول بالعرض "حرام شرعاً" يعكس ذهنية لا يمكن أن تكون مقبولة أو مفيدة أو صالحة في إدارة العلاقات الدولية...والمؤسف حقاً أن من يحرم مثل هذا العرض أردنياً، يلوذ بصمت القبول على إشادات قادة حماس أجمعين، بالدعم الإيراني لإخوان فلسطين، الذين لم يتوقفوا لحظة واحدة، عن تقديم "وصلات" الشكر والتقدير لإيران على ما قدمت من مال وسلاح، فهل حرام على بلابله الدوح، حلال للإخوان من كل جنس...هل يحق للإخوان ما لا يحق لغيرهم..هل الشرع والشريعة لا يسيران إلا في ركابهم وحدهم، وحيثما يكونون ويتقلبون، يكون الشرع وينقلب الحرام حلالاً؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 29/تشرين الثاني/2012 - 14/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م