شبكة النبأ: قيم التقدم هي وحدها
كفيلة بصناعة مجتمعات تنحو نحو التطور والاستقرار، وقد وعتْ الشعوب
النازعة الى التطور هذه الاشتراطات الحتمية لخلق المجتمع القوي المتآزر
المنسجم الذي يحافظ على نفسه وتشتبك أفعل وافكار التعاون لديه ليصل
بالنتيجة الى تكوين منظومة انتاج متطور محكومة بقيم تقدمية ترفض كليا
حضور الفساد في عمليات الانتاج المتنوع سواء في ميادين الفكر او الفعل
ايضا.
ولعل اخطر ما يمكن ان يتعرض له المجتمع يكمن في التحولات المحورية
التي تحدث في تاريخه ومسيرته كما هو الحال مع العراق إذ يبدو أن الهزة
العميقة التي تعرض لها المجتمع العراقي، والتي أفضت الى انهيار شبه تام،
على المستويات السياسية والاقتصادية وسواها، قاد الى نوع من التحول، في
منظومة القيم التي حكمت سلوك العراقيين لفترة طويلة، فالعراقيون كما
يعرف أهله والمنتمون له، كانوا متمسكين بالقيم التي تحافظ على الروابط
الاجتماعية، وتزيد من لحمة الشعب، لاسيما الفقراء منهم، ومن تعرضوا
للاضطهاد، أكثر من غيرهم، كانوا رحماء بينهم، يساعدون بعضهم البعض
الآخر، ويواسون من يتعرض منهم الى مصاب، او ضرر ما، سواء كان مصدره
السلطان واذنابه او غيرهم، وهذه كلها تنتمي الى قيم التقدم التي لابد
من الحفاظ عليها لذلك نلاحظ وجود التقارب، بين تلك الشرائح المنتهكة،
في حقوقها السياسية، والمدنية وسواها، وهذا ما دفع بالمجتمع، الى
التمسك بالقيم الاصيلة الجيدة، التي تساعد على حفظ العلاقات الاجتماعية،
والاقتصادية وغيرها، بما يخفف من ثقل الفقر ووطأته، على ضعفاء الحال،
فكان الموظف البسيط، أو المدير العام، أو المسؤول على هذه الدائرة او
تلك، يرفض أن يضغط على المواطن ولا يلجأ الى ابتزازه مطلقا، بل كان
الموظفون يؤدون خدماتهم، بطريقة محصنة بالشرف، والقيم التي يؤمنون بها،
لدرجة أن الموظف كان يرفض أن يستقبل أية هدية، من المواطن، ويعتبر هذا
السلوك، مساسا بشرفه واخلاقه وشخصيته، وطالما أن الدوائر الرسمية أصبحت
على مساس مباشر بحياة الناس، وصار الموظف يتحكم بنوعية حياة الفرد
والجماعة، وغالبا ما تكون الخدمات التي تقدمها هذه الدوائر، تتعلق
بمصدر الرزق اليومي للفرد، ومع التحولات التي رافقت تغيير مابعد نيسان
2003، فقد نمت بعض القيم التي غيّرت التعامل المتبادل بين الموظف
والمواطن، وانتشرت ظواهر لا تمت بصلة لقيم التقدم، وتنامت ظاهرة
الاختلاس والتجاوز على المال العام، وحالات التزوير والاحتيال وغسيل
الاموال والمضاربات والمتاجرة بما يسيء للطبقات المتدنية، ومع أنها
سبقت هذا التأريخ المذكور بكثير، لكنها لم تكن بهذا الحجم الواسع، ولا
بهذا التغيير الملحوظ في منظومة القيم، التي دخلت فيها مضامين، اخلاقية
وسلوكية غريبة، على المجتمع العراقي.
وبهذا ضعفت كثيرا القيم التي تساعد على بناء مجتمع ناجح وحلّت محلها
ظواهر خطيرة إذ أصبح الاختلاس والسرقة وتعاطي الرشوة، نوعا من الشطارة،
لبناء حياة الفرد والعائلة العراقية، كذلك تنامت نزعة الحصول على
الاموال، بغض النظر عن شرعية او مصدر الاموال، والمهم في الامر هو أن
يحصل الفرد على المال، وفقا لقيم الشطارة التي شاعت بين اوساط المجتمع
على نحو واسع، في حين كانت مثل هذه القيم معيبة، ولا يمكن أن يقبلها
العراقي على نفسه، وقد وصل الامر في احيان كثيرة الى اعتبار مثل هذه
السلوكيات، نوعا من الانحراف وفقدان الشرف، وليس نوعا من الشطارة كما
هو متعارف عليه الآن، لذا فإن تنامي مثل هذه الظواهر السلبية، يشكل
خطورة كبرى على المجتمع.
وتعتبر مثل هذه الاعمال إرهابا من نوع آخر، كما عبر عن ذلك كثير من
السياسيين والكتاب والمصلحين والمعنيين بهذا الامر، وهو ما يتطلب
مواجهة هذه الانتكاسات عبر تفعيل قيم التقدم، لهذا ينبغي على الجهات
المعنية أن تتخذ خطوات مهمة في هذا المجال، منها:
- سن القوانين الفورية والشديدة، التي تحد من تنامي هذه الظواهر
الخطيرة، ومعاملة المرتشي كالارهابي، وتشديد العقوبة القضائية عليه،
بما يوازي جريمة الارهاب، ويشمل هذا التشريع مختلس المال العام
والمضارب به.
- ردع التجار والمتجارين بالمواد التي تسيء لصحة الشعب، بقوانين
فورية ذات قوة اجرائية شديدة ومباشرة.
- ردع جميع حالات الاحتيال والنصب والتزوير بقوانين مشددة وفورية.
- لابد للبرلمان العراقي كجهة تشريعية أن يقوم بدوره الهام في هذا
الصدد، وأن يتم ردع المفسدين، والمتجاوزين على المال العام، والمرتشين،
بعقوبات فورية مضاعفة ومشددة.
- وبالتزامن مع الجهدين التشريعي، والقضائي، لابد أن تنطلق حملات
توعية للشعب، على ضرورة الحفاظ على القيم الاصيلة، وتنميتها، ومحاربة
الانحراف بكل انواعه، وهو دور مشترك ينبغي أن تتولاه النخب الاجتماعية
والدينية والثقافية والاعلامية وغيرها. |