ما اكثر وسائل التنكيل التي تمارسها الانظمة الديكتاتورية بحق
مواطنيها لإسكاتهم ومنع الاصوات المعارضة التي تطالب بالإصلاح السياسي،
وما اقدم بعضها. فالتاريخ يحمل في صفحاته قصصا مروعة حول طرق معاملة
المعارضين عبر العصور. ولم يسلم التاريخ الاسلامي من نماذج مروعة
لأساليب معاملة المختلفين سياسيا او ايديولوجيا مع الحاكمين.
والاعتقاد بان وجود آليات دولية للتصدي لانتهاكات حقوق الانسان
سيمنعها من ارتكاب تلك الانتهاكات ليس سوى سراب لا وجود له في الواقع.
فالأنظمة القمعية تواصل سوء معاملة معارضيها لأسباب عديدة من بينها ان
الاستبداد يمثل واحدة من ابشع صور التجسيد العملي لقمع الآخر وانتهاك
حقوقه. وتتعمد أجهزة التوجيه لدى تلك الانظمة بث ثقافة 'المسؤوليات'
بدلا من 'الحقوق' في اوساط شعوبها لضمان صمت المواطنين عما ترتكبه من
مخالفات وانتهاكات. ويصل الامر بالديكتاتور الى مستوى املاء انماط
السلوك الاجتماعي ووضع تعريفاته الخاصة بما يعتبره 'المواطنة الصالحة'
التي تحول الانسان الى آلة ميكانيكية تتحرك بدون عقل او احساس او عاطفة
او انسانية.
ويعيش اغلب الشعوب العربية في ظل انظمة من هذا النوع، ولذلك كانت
مقاومتها لمحاولات الاصلاح والتغيير بعد انطلاق ما سمي 'الربيع العربي'
شرسة جدا، دفعت نظام السعودية مثلا لإعلان رفع موازنته العسكرية
السنوية العام الماضي من 60 مليارا الى 90 مليار دولار، وذلك لضمان ليس
صمت الولايات المتحدة الامريكية فحسب بل انحيازها ضد اطروحة التغيير
التي رفعها الشارع العربي. وتجاوزت مقاومة التغيير هذه كافة الاطر
والحدود، واستخدمت ما يمكن وصفه 'الخيار النووي' وذلك بإحداث فتن
داخلية في اوساط الشعوب الثائرة لسلبها القدرة على الصمود والاستمرار
في حراكها الثوري، لان التفتت الداخلي من أشد الآفات فتكا.
واستطاعت قوى الثورة المضادة تعبئة كافة الامكانات لتحقيق 'الفتنة
الداخلية' بنخر الشعوب من داخلها، ومنها الاعلام والتعاون الامني
واستدعاء الخبرات العسكرية والامنية الاجنبية للمساعدة على كسر شوكة
المعارضين. كما تمكنت من تحقيق بعض الاختراقات على الصعيد الديني،
بتعبئة بعض علماء الدين لبث الفتنة وتمزيق الامة وفق خطوط الانتماء
للدين تارة والمذهب اخرى، والعرق ثالثة. وما تزال تلك السياسات قائمة
حتى الآن، ولن يكون من السهل تجاوز آثارها ما لم تحدث صحوة ض مير لدى
النخب الثقافية والدينية تحول بينها وبين محاولات تعبئتها لخدمة اغراض
الثورة المضادة.
وحيث ان هدف الحراك الثوري يتمثل اساسا في احداث تغيير جوهري في
البنى السياسية للدول العربية المحكومة في غالبها بالاستبداد، فقد
استفاد بعض هذه الانظمة من سياسات العدو الاسرائيلي الذي يسعى لفرض
هيمنته واحتلاله على ارض فلسطين وشعبها بكافة الوسائل القمعية غير
الانسانية. بل ان تل أبيب قدمت خدمات ومساعدات فنية في مجالات الامن
للعديد من الانظمة العربية، مستفيدة من تجربتها الطويلة في قمع الشعب
الفلسطيني. هذا لا يعني ان هذه الخبرات ستنجح في احتواء الظاهرة
الثورية تماما، ولكن افشال ذلك يقتضي وعيا خاصا في الاوساط الثورية
يحول دون تسرب الشعور باليأس او الضعف في نفوس الجيل الثائر الذي يراهن
اعداء التغيير على قصر نفسه السياسي. فالاعتقال والتعذيب والحرمان من
العمل والتجويع والعقاب الجماعي، كل ذلك، برغم منافاته لقيم حقوق
الانسان والمواثيق الدولية، ممارسات يومية لا تتوقف خصوصا في البلدان
التي تشهد حراكا يهدف للتغيير. وهناك سياسة تعسفية اخرى أخرى لا تمارس
على نطاق يومي، ولا تحدث الا في بلدان قليلة، تتمثل بمحاولات استئصال
المواطن من ارضه، وتتم على مراحل وتنطوي على عدد من الانتهاكات.
المرحلة الاولى عادة تشمل سحب الجنسية من المواطن، ثم يتبعها
الحرمان من الخدمات التي توفرها الدولة، ثم يلحقها التهجير. هذا نمط
معمول به على نطاق ضيق، ولكن تلك الخطوات قد تأتي بشكل مختلف. فقد يتم
نفي المعارض، ثم تسلب كافة حقوقه الاساسية ومن بينها الجنسية وجواز
السفر. وفي الثامن من نوفمبر اعلنت العائلة الحاكمة في البحرين سحب
الجنسية من 31 مواطنا معروفين بمعارضتهم لنظام الحكم. جاء القرار بدون
مقدمات قانونية او قضائية، فكان مفاجئا للكثيرين لانه ليس من بين
الاجراءات او الخطوات التي تقوم الدول بها عادة. فسحب الجنسية من اي
مواطن، لأي سبب، اجراء نادر قلما يحدث، وان حدث، فتسبقه اجراءات عديدة
تمهد لسحب الجنسية. والحالتان الوحيدتان اللتان تطرحان مبررا لسحب
الجنسية هما: الخيانة الكبرى، اي التعاون مع طرف اجنبي يهدف لاحتلال
البلد او الاضرار بها. اما السبب الثاني فهو استحصال الجنسية بطريقة
غير مشروعة، كتقديم بيانات خاطئة عند التقدم بطلب لاستحصال الجنسية.
اما البحرانيون الذين اسقطت جنسياتهم فاغلبهم من سكان البلد الاصليين
الذين يطلق عليهم منذ قرون 'البحارنة'. ويختلف الوضع في البحرين عن
بقية بلدان الخليج، بان العائلات الحاكمة في دول مجلس التعاون الخليجي
لا تقل انتماء للأرض عن المواطنين الذين تحكمهم. اما في البحرين
فالعائلة الحاكمة جاءت من الخارج وسيطرت على الجزر في 1783 بالقوة.
في ديسمبر 1992 قامت سلطات الاحتلال الاسرائيلية بإبعاد اكثر من 400
من الفلسطينيين من جماعتي حماس والجهاد الاسلامي الى منطقة 'مرج
الزهور' بالشريط الحدودي داخل الاراضي اللبنانية. ورفض المبعدون الدخول
الى لبنان لكي لا يحققوا للكيان الاسرائيلي هدفه بنفيهم النهائي. وبعد
شهر واحد أقرت محكمة صهيونية قرار الابعاد. ولكن حدثت ضجة دولية كبيرة
ارغمت السلطات الاسرائيلية على الاعلان عن سماحها بعودة المبعدين في
غضون عام واحد على مراحل. وقد عاد اغلبهم الى الاراضي الفلسطينية
لاحقا. واعتبر الرأي العام العالمي ان قرار الابعاد غير قانوني، وانه
يمثل تصعيدا لسياسات القمع وانتهاكا لحقوق الانسان. وتكررت حالات ابعاد
الفلسطينيين من منطقة داخل فلسطين الى اخرى. وبلغ عدد حالات الابعاد من
الضفة الغربية الى غزة حوالي 250 حالة.
بعد الحرب العالمية الثانية بقليل، قام ستالين بترحيل مليون ونصف
المليون سوفياتي إلى 'سيبيريا' وجمهوريات آسيا الوسطى. والسبب الرسمي
هو إمّا تعاونهم مع القوات النازية الغازية أو معاداتهم للمبادىء
السوفياتية! ولكن السبب الحقيقي هو رغبة ستالين في خلق توازن عرقي لكي
يبتعد الشعب عن النزعات القومية للسلافيين، ولكي يتسنّى لستالين إيجاد
توازن إثني في الجمهوريات. في مطلع العام الحالي سحبت دولة الامارات
جنسيات سبعة من مواطنيها. وفي 13 نوفمبر قرر القضاء الاماراتي سحب
الجنسية من 7 اماراتيين على خلفية دعواتهم لإصلاحات سياسية، كما فرض
احكاما بالسجن على من يدعو عبر الانترنت لقلب نظام الحكم او يمس بهيبة
الدولة او يسخر من حكام البلاد أو مؤسسات الدولة. اما الكويت فتعاني من
مشكلة آلاف المواطنين الذين ترفض منحهم جنسيتها بدعوى انهم ينحدرون من
اصول غير كويتية. وبرغم المحاولات الحثيثة لحل المشكلة، الا انها ما
تزال عالقة.
وسبق لحكومة البحرين ابعاد معارضيها السياسيين منذ عقود. ففي 1923
تم نفي كل من عبد الوهاب الزياني واحمد بن لاحج الى الهند بسبب
الاضطرابات في البلاد آنذاك. وفي 1928 قامت السلطات البريطانية في
البحرين بنفي الشيخ خلف العصفور الى العراق بسبب ما اعتبروه تحريضا ضد
العائلة الحاكمة والانكليز، وبقي هناك حتى 1931 ثم عاد الى بلاده
ليتوفى فيها بعد عام. وفي 1938 قامت بإبعاد بعض النشطاء من بينهم سعد
الشملان الى الهند بسبب معارضتهم الحكم الخليفي. ولعل الحادثة الاكثر
شهرة نفي ثلاثة من زعماء هيئة الاتحاد الوطني البحرانية الى جزيرة وسط
المحيط الاطلسي. فبعد العدوان الثلاثي على مصر في اكتوبر 1956 خرجت
المظاهرات ضد البريطانيين على مدى ثلاثة ايام استهدف المشاركون فيها
كافة المصالح البريطانية، فتدخلت القوات البريطانية وضربت هيئة الاتحاد
الوطني التي كانت تمثل اجماعا وطنيا يمثل كافة شرائح الشعب المذهبية
والعرقية. وفي يناير 1957 وقع حاكم البحرين، الشيخ سلمان بن حمد آل
خليفة (جد الحاكم الحالي) قرار ابعاد ثلاثة من رموز المعارضة هم عبد
العزيز الشملان وعبد علي العليوات وعبد الرحمن الباكر، الى جزيرة 'سانت
هيلانة' وسط المحيط الاطلسي (وهي الجزيرة التي نفي اليها نابليون
بونابرت). وبقوا في المنفى حتى يوليو 1961 عندما حكمت محكمة بريطانية
ببطلان قرار نقلهم من البحرين الى الجزيرة.
وكانت السلطات البريطانية قد دفعت حاكم البحرين قبل ذلك لسحب جنسية
عبد الرحمن الباكر عقابا له على مواقفه القومية ودوره في الحركة
الوطنية وصموده ضد محاولات بث الفتنة المذهبية في البلاد. وفي
الثمانينات قامت السلطات البحرينية بنفي العديد من المواطنين، من بينهم
السيد عبد الله الغريفي الذي سلمته السعودية اليها فرفضت استلامه
واعادته الى السعودية، فقامت بإبعاده الى دبي، التي ارجعته ايضا، ثم
بعثته السعودية الى سوريا التي بقي بها حتى العام 2001 عندما رجع الى
البحرين. ونفت العديد من المناضلين من بينهم الدكتور عبد الهادي خلف
الذي رفضت السماح له بدخول البلاد اكثر من مرة، وسحبت جنسيته مؤخرا.
وفي يناير 1995 قامت السلطات بنفي عدد من قادة الانتفاضة الشعبية من
بينهم الشيخ علي سلمان، والسيد حيدر الستري والشيخ حمزة الديري والشيخ
عادل الشعلة، وقد استقبلت عمليات الابعاد هذه جميعا بشجب دولي، لانه
مناقض لمبادىء حقوق الانسان الاساسية التي تمنع حرمان البشر من التمتع
بالبقاء في اوطانهم.
ان الإبعاد من البلاد لا يعني سحب الجنسية، ولكنه امر مخالف
للقوانين الدولية. كما ان حرمان المواطن من جنسيته مناف بشكل صارخ
للمادة 15 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تحتوي على بندين:
اولهما يقول: لكل فرد حق التمتع بجنسية ما. وينص الثاني على انه 'لا
يجوز حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو إنكار حقه في تغييرها'. ولكن
المرجح غالبا ان يؤدي إبعاد الاشخاص الى سحب جنسياتهم بعد تهيئة الظروف
لذلك. كما ان سحب الجنسية يؤدي الى الابعاد. وفي احسن الاحوال فان من
لا يمتلك جنسية ليس امامه الا واحد من خيارين: فاما البقاء في البلد
الذي سحب جنسيته بدون ان يستطيع السفر او يتمتع بالحقوق المتوفرة لبقية
المواطنين، او يبحث عن ملجأ آخر يعامله بإنسانية وشيء من التقدير.
الامر المؤكد ان سحب الجنسية لا يلغي هوية الانسان، فالشعور بالانتماء
للوطن لا يحتاج لجواز سفر او اوراق رسمية لاثباته. انه حالة من الوعي
الذي لا يمكن طمسه او الغاؤه او تقنينه. كما ان من يعطى جنسية بلد غير
بلده الاصلي، لأسباب سياسية قد لا يكتسب حب تلك الارض، فالجنسية ووثيقة
السفر وتأشيرة الاقامة، انما هي وسائل تسهل البقاء المادي ولا تتصل
بالمشاعر الداخلية لدى الانسان. وتسترجع الذاكرة قصائد الشاعر المصري
محمود سامي البارودي الذي نفته السلطات المصرية في 1882 في ظل الاحتلال
الانكليزي مع بقية رموز الثورة العرابية الى جزيرة 'سرنديب، سريلانكا'.
انها قصائد تنضح بالوطنية وتؤكد ان الانسان هو الذي يقرر هويته وجنسيته،
ولا تستطيع قوة سلبه ذلك، وان قامت بنفيه او سلبت جواز سفره.
ما هي الهوية؟ وما هي الجنسية؟ وما معنى الانتماء؟ ما طبيعته؟ من
يقرره؟ وهل يستطيع الديكتاتور المسيطر على الامور توجيهه او السيطرة
عليه، او غرسه في من يريد وسحبه ممن لا يرغب فيه؟ في عالم يفترض انه قد
تطور في مجال الحريات والحقوق، ونجح في تقنين كل ذلك، وأسس منظمات
وجهات دولية تمارس دور الرقابة والمحاسبة، ما يزال الطريق طويلا للوصول
الى عالم قادر على اتخاذ المواقف اللازمة عندما يتطاول الحاكمون على
شعوبهم، او المحتلون على المستضعفين من ابناء الارض الواقعة تحت
الاحتلال.
وفي غياب ارادة دولية لتنفيذ القرارات الدولية وحماية القيم
الانسانية خصوصا في مجال حقوق الانسان، سيظل العالم يعيش الاوضاع نفسها
التي عانى منها الآباء والاجداد. فكأن ما تحقق طوال اكثر من ستين عاما
منذ ان سارت عجلة تقنين الحقوق وحمايتها، ما يزال حبرا على ورق، او
كلمات للتضليل والتخدير، او سراب يتشبث العالم الظمآن للحق والعدل به
فما يلبث ان يرى حقيقته. ان التحكم في مصائر الشعوب وحقوق المواطنين
بالطرق التي شهدها العالم، بالنفي او الابعاد القسري او 'الترانسفير'
او سحب الجنسية او التنكيل على الهوية، لهو عنوان يخفي وراءه ظلامة
تاريخية بدون حدود، ومؤشر لمستوى من العلاقات الانسانية غير مسبوق في
مستواه الهابط. فإسقاط الجنسية عن المعارضين، او نفيهم من اوطانهم، او
سجنهم وتعذيبهم، او اصدار الاحكام عليهم جزافا، ليس سوى تكريس
الاستبداد والظلم، وقفز على استحقاقات التحضر والتأنسن، وتجاوز للحقوق
الاساسية للبشر. وفي نهاية المطاف فانه اجراء يضاعف مصاعب النظام بدلا
من تخفيفها لأنه ينطوي على استحكام روح الانتقام في نفس الديكتاتور
بدلا من اقامة حكم القانون الذي يمثل أساس الدولة الحديثة.
* كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن |