أكثر من صدفة... اقل من تدبير

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: سقطت التفاحة في احضان اسحاق نيوتن فاكتشف قانون الجاذبية، وتاه كولومبوس في محيطات الظلام فاكتشف امريكا، كنت اسير في احد الشوارع، وكان امامي شابان احدهما يتحدث عبر الهاتف النقال، حين وصلت بجانبه سمعته يقول للشخص الذي يتحدث اليه على الطرف الاخر، انا خارج البيت الان وحيدر معي، كان من يسير معه يحمل نفس اسمي، وغيرها حين كنت اعمل في التجارة في سوق الشورجة المعروف في بغداد، طلبت ممن يعمل معي وكان ذاهبا الى ساحة الرصافي ان يشتري لنا كمية من الساعات الجدارية، لم يعد صاحبي الى المحل يومها، في اليوم التالي جاء احد الحمالين وهو يحمل اربعة كراتين، سالني هل هذا محل ابو شمس؟ اجبته: نعم، قال : هذه الساعات ارسلها الحاج فلان.

وضعها خارج المحل، وفتحت كارتونة واحدة منها، واخذت بعرض الساعات على الجدار. بعد زهاء النصف ساعة، عاد الحمال مع احد الاشخاص، وكان هذا الشخص يعتذر لسوء الفهم الذي حصل. فالمحل ليس هو المقصود، صحيح انه يقع في نفس العمارة وصحيح انني ابو شمس وصحيح ايضا اني اوصيت صاحبي على ساعات جدارية، لكن ذلك كان محض ثلاث صدف اجتمعت مرة واحدة في زمان واحد ومكان واحد.

كثير منا مروا في حياتهم بعدد من الصدف المتكررة، وهي لكثرة تكرارها ربما تكون احيانا بتدبير معين يغيب عن اذهاننا لانشغالها بمحاولة تفسير او اكتشاف السبب في ما حدث ووقع، في الفصل الرابع من مسرحيته هنري الخامس يقول شكسبير: (كل الامور جاهزة إذا كانت أذهاننا كذلك).

يقول احد الباحثين في تعريفه لمفهوم الصدفة: إذا نُظِرَ إلى ظاهرةٍ ما من زاويةِ ظهورها للإنسان من دون قصدٍ وبصورة عابرة، أيْ مِنْ دونِ أنْ ينتظرَها ذلك الإنسانُ، سُمِّيَتْ صُدْفةً (عشوائية، بدون قصد ولا هدف). وإذا نُظِرَ إلى الظاهرة من زاويةِ وقوعها على إنسانٍ مُعَيَّن دون غيرِه سُمِّيَتْ حظًا أو نصيبًا. وإذا نُظِرَ إلى هذه الظاهرة من زاويةٍ سببية (عِلِّـيَّـة) لا مفرَّ منها، أيْ إذا نُظِرَ إليها على أنه نتيجةٌ حتمية سلبية لسببٍ يكون في الغالب مجهولاً سُمِّيَتْ قَدَرًا. وإذا نُظِرَ إلى الظاهرة على أنَّها تدَخُّلٌ إلهيٌّ إيجابيٌّ سُمِّيَتْ عنايةً [إلهية] أو لطفًا [إلهيًا] أو توفيقًا إلهيًا. وإذا نُظِرَ إلى الظاهرة بمعزِل عن أسبابها وظروفها سُمِّيَتْ عبثًا. وإذا وقعَ أو حصلَ حدَثان (ظاهرتان) في مكان واحد أو زمان واحد، بحسب إحساسنا الفيزيولوجي (ولكنْ قد لا يكونُ ذلك صحيحًا من وجهة نظر فيزيائية)، سُمِّيَتْ تلك المصادفةُ تزامنًا.

من الناحيةٍ اللغوية فإنَّ كَلِمَتَيْ (صُدْفة) و(مصادفة) مشتقَّتان من الفعل (صَدَفَ)، ويعني: عرَضَ أو ظَهَرَ. يقال: صادفَ [فلانٌ] فلانًا، أيْ وجدَه ولقيَه. كما يذكر ذلك الصاغاني في كتاب العُباب الزاخر، وصدَفَ عن الشيء: أعرضَ عنه. جاء في القرآن الكريم: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عنْها؟ سَنَجْزِي الذين يَصْدِفون عن آياتنا سُوء العذاب بما كانوا يَصْدِفُونَ". (سورة الأنعام، الآية 157) فما يسمَّى في لغتنا المعاصرة بالصُّدْفة (بمعنى اللقاء من غير قصد) كان يسمَّى في العربية قديمًا بالعَرَض. يقال: لقِيْتُه عَرَضًا، أيْ التقيتُ به صُدْفةً (صادفْتُه) أو التقيتُ به من دون موعد، الصُّدْفةُ هي كلُّ عارضٍ للإنسان لم يكُنْ يتوقَّعُه أو لا يعرِفُ أسبابَ ظهورِه.

يرى العِلْمُ بأنَّ لكل ظاهرةٍ سببًا، وبتعبير أدق: أسبابًا، وبأنَّ الصُّدْفة تحصلُ في الأنظمة الديناميكية التي بلغَ مستوى تعقيدِها حدًا لا يمكن فيه للعقل البشري أنْ يحدِّدَ صيرورتَها أو مآلَها، كحركة كُراتِ اللوتو. فالصُّدْفةُ لا تطبَّقُ إلاَّ على الأنظمة الخاضعة لنظرية الشواش (الفوضى الخلاَّقة أو العماه) والتي لا تتبع تسلسلاً سببيًا خطِّيًا.

في المثال الذي بدأنا به الموضوع، وهو تفاحة نيوتن ودورها في اكتشاف قانون الجاذبية، مثل هذه الصدفة تسمى (السرنديبية) وتعني (حادث سعيد) أو (مفاجأة سارة)، عند العثور على شيء جيد أو مفيد دون قصد. وقد تم التصويت على هذه الكلمة باعتبارها واحدة من أصعب عشر كلمات في الإنجليزية يصعب ترجمتها في حزيران / يونيو 2004 من قبل شركة بريطانية للترجمة، وقد كان أول استخدام لهذه الكلمة في اللغة الإنجليزية عن طريق البول هوراس (1717-1792). في رسالة موجهة إلى هوراس مان (بتاريخ 28 يناير 1754) وقال انه شكلها من خرافة فارسية تدعى الأمراء الثلاثة من سيرنديب حيث كانوا يكتشفون العديد من الأشياء دون قصد. والسرنديبيه هي اسم مشتق من سيرنديب، وهو الاسم القديم لسري لانكا (سيلان اكا)، من Sarandib اللغة العربية، وهو مأخوذ من اللغة السنسكريتية ويترجم حرفيا إلى (جزيرة السكنى بين الأسود).

الصدفة والسنرديبية هي في الواقع عنصر رئيسي في الاكتشافات العلمية والاختراعات. وفقا لام نى ستوسكوبف (ينبغي الاعتراف بأن الاكتشافات التى تحدث صدفة هي ذات قيمة كبيرة في تقدم العلم، وغالبا ما تبني الأساس لقفزات فكرية هامة في فهمنا)، يتفاوت تأثير السرنديبيه في الاكتشافات بين التخصصات العلمية. فعلم الصيدلة والكيمياء هما على الأرجح من المجالات حيث الصدفة هي الأكثر شيوعا.

معظم الكتاب الذين درسوا الصدفة العلمية من حيث الناحية التاريخية وكذلك من الناحية المعرفية يتفقون على أن العالم أو المخترع يجب أن يحتفظ بعقل مفتوح فهذا جزء مهم للكشف عن المعلومات التي تنجلى بطريق الخطأ. وقد تكون السرنديبيه هي السبب الرئيسي في معظم الاكتشافات العرضية في التخصصات الدقيقه. حول هذا الموضوع، كتب ألبرت هوفمان الكيميائي السويسري الذي اكتشف خصائص LSD عن غير قصد، عندما قام بلمس قطرات صغيره جدا من ال LSD كانت قد تناثرت عن طريق الخطأ في مختبره، ويرتبط مثال آخر من الصدفة في العلم مع الكسندر فليمنغ واكتشافه البنسلين ضد الأمراض الخطيرة في ذلك الوقت. فقذ ترك -ناسيا- طبق من البكتيريا العنقودية مفتوحا ودخلت بعض الفطريات داخل القالب وقامت على ما يبدو بقتل البكتيريا حولها. وتبين له فيما بعد أن هذه الفطريات من نوع البنسليوم والتي أصبحت فيما بعد سببا في ثورة طبيه كبيرة عبر اكتشاف المضادات الحيوية.

ومثل ذلك ايضا بينما أرخميدس يستحم في إذ لاحظ أن جسمه يطفو فوق الماء وكان من قبل قد كلفه الملك بأن يتحرى مدى جودة ذهب تاج الملك… ومكنته نظريته حول كثافة الأجسام إلى التوصل للنتيجة المرغوبة، وايضا عندما كان أحد طلاب شعبة الكيمياء يبحث في تطوير مادة متفجرة إذ به يرى أن المادة الفوسفورية  _ التي يجري عليها إختباراته _ إلتصقت بأحد أعواد الخشب . فأراد أن يزيلها بحكها مع الأرض…فكانت النتيجة أن إشتعلت النار واكتشفت أعواد الثقاب…وحول ذلك يقول العالم الفرنسي لويس باستورجملته الشهيرة : (في مجال العلوم تأتي الفرص للعقول المستعدة).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/تشرين الثاني/2012 - 6/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م