المثقف بين الامس واليوم

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: قرأتُ قبل أيام مقارنات لأحد المثقفين العراقيين، يقارن فيها بين مثقف الامس ومثقف اليوم، وهو يرى من وجهة نظره تطابقا بين جوهر المثقف السابق واللاحق، إذ يبدو أن الوجوه والعناوين تغيرت، لكن تبعية المثقف (للسلطة/ المال/ المنفعة) لا تزال قائمة، وهو مؤشر ودليل لا يقبل الريب، على عدم قيام المثقف الراهن بدوره الطليعي في المجتمع، وهو ما حصل ايضا ابان الانظمة العسكرية التي تعاقبت على حكم العراق، والتي وضعت المثقف غالبا، في خانة الرأي الحكومي وحاولت ونجحت في تجييره لصالحها.

مثقف اليوم يقع في الخانة نفسها، بعد أن وجد نفسه وجها لوجه أما السلطة، ليس الحكومية وحدها، بل جميع البؤر السلطوية التي انتشرت في عموم العراق، فقد تشظّت السلطة، ولم تعد تابعة للحكومة وحدها، بوجود الكتل السياسية والاحزاب والتيارات، وحتى الشخصيات السياسية المستقلة، لذا فإن مثقف اليوم يجد نفسه أمام سلطة مركزية حكومية وسلطات اخرى تتفرع منها، أو سلطات كتل واحزاب وشخصيات سياسية.

في ظل هذا الواقع المربك، يجد المثقف نفسه أسيرا لفوضى السلطة، وعليه أن يوازن بين حاجاته اليومية وضمان العيش المقبول لعائلته، وبين الحفاظ على دوره الريادي كمثقف ينبغي عليه القيام بدور متميز، يختلف عن ادوار الآخرين في بناء المجتمع، هذه الموازنة تجعل المثقف الراهن في حيرة من أمره، فاذا كان تابعا للسلطة السياسية (يعمل في احدى دوائرها ومؤسساتها الثقافية والاعلامية)، عليه أن لا يتقرب من نقد السلطة كما يريد او كما يرغب، وإلا فالنتائج واضحة، حيث المستقبل المجهول له ولعائلته، ولدينا هنا في العراق أمثلة لا تقبل الدحض وفي دول عربية اخرى، واذا كان المثقف يعمل لتحصيل رزقه اليومي في مؤسسة اعلامية او ثقافية تابعة لكتلة او حزب او تيار او حتى شخصية سياسية، فعليه أن يلتزم حرفيا بما يُملى عليه، حتى لو كان غير مؤمن ولا مقتنع بما يُملى عليه!.

هذه الاشكالية التي يعانيها المثقفون اليوم، حاضرة وشاخصة بقوة في الواقع العملي، وهي انعكاس للتشظي السياسي الحادث في العراق منذ 2003، وقد يبدو الخلاص منها أمرا مستحيلا، أو هو غاية في الصعوبة، في حالة كهذه كيف يمكن للمثقف أن يقوم بدوره المطلوب في قيادة الوعي المجتمعي وترصينه وترقيته الى درجات أعلى؟.

من الواضح هنا أهمية بل حتمية الحصول على عنصر تمويل بديل للمثقفين، فإذا ضمن المثقف ايرادا ماليا له ولعائلته، هنا يمكنه القيام بدوره الصحيح من دون املاءات من السلطة او سواها، لذا غالبا ما يضمن القطاع الاهلي والمنظمات الخيرية وسواها، حياة المثقف وذويه في المجتمعات المتطورة، الامر الذي يبعده عن سطوة السلطة بأنواعها كافة، وإملاءاتها.

تُرى هل تحقق لمثقف اليوم ما كان يفتقده مثقف الامس؟؟..

إن الاجابة الصحيحة والصريحة عن هذا السؤال، هي التي تمكن المعنيين من وضع الحلول الاجرائية الدقيقة لمعالجة اشكالية دور المثقف في الواقع الراهن، وما يعانيه من ارتباك وفوضى، نتيجة لتشظي السلطة وتعدد فروعها وتنوع إملاءاتها ايضا، ولا نعني بمعالجة هذا الارتباك الواقعي إعطاء الذرائع للمثقفين كي يلهثوا وراء فوائدهم (المادية خاصة)، وينسوا مبادئهم ورسالتهم التثقيفية الانسانية التي لامناص من الالتزام بها.

لذا فالمثقف في كل الاحوال عليه وحده تقع مسؤولية الالتزام بجهده الرسالي في خدمة المجتمع، من ناحية رفع الوعي الشعبي الى درجات تمكن الشعب من العيش بطريقة تليق بكرامة الانسان، لكن يجب أن يعرف أثرياء البلد دورهم الأساس في حماية المثقف من ضغط السلطة بكل فروعها وانواعها، بل لابد للسلطة نفسها أن تصل الى قناعة، بأن المثقف يجب أن يبقى في منأى عن إملاءاتها، لأن حرية المثقف تضمن حرية الرأي، والاخير يضمن استقرارا وتطورا للديمقراطية، وللعملية السياسية، والاقتراب سريعا من دولة المؤسسات المدنية.

إن مثقف اليوم لا يختلف عن مثقف الامس اذا تركناه تحت سطوة السلطة بأنواعها، وتحت ضغط أفكارها التي لا تتسم في كل الاحوال بسعة الآفاق وتعدد الرؤى والانفتاح الفكري الذي يقود الى مجتمع التعايش، والتسامح، والتعددية، حيث يندمج فيه الجميع تحت خيمة الوطن الواحد. لذا على المعنين جميعا، انقاذ المثقف من ضغوط السلطة بكل اشكالها وانواعها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 13/تشرين الثاني/2012 - 28/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م