المرجعيات الدينية والتغيير

د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

التغيير هو الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الإنسانية، لأنه يشير إلى الفعل والحركة والحيوية وإرادة الحياة، ويمثل النقيض اللغوي للجمود والثبات وانعدام الإرادة. والتغيير يكون على نوعين:

الأول: ايجابي صاعد إلى الأعلى، عندما ترغب الشعوب في اختيار أفضل نظم الإدارة والأخلاق، وأفضل الأفكار وأنماط المعرفة من اجل بناء الإنسان وتقدم الحضارة، واستثمار الماضي والحاضر لوضع ركائز التفوق في المستقبل، فتمهد حركة التغيير الصاعدة لترقي المجتمع ثقافيا وحضاريا.

الثاني: سلبي هابط نحو الأسفل، عندما تنحط الشعوب في نظم إدارتها (سيادة نظم الاستبداد والطغيان أو الفوضى والانقسام)، وتنحدر في قيمها الأخلاقية (انتشار قيم الجهل، العنصرية، التعصب، العنف، الرذيلة، احتقار الآخر وهدر كرامته الإنسانية، فساد الضمائر والقلوب، الكذب واللامبالاة، غلبة المصلحة الخاصة على المصلحة العامة..)، وتسير في خيارات خاطئة تهدم الإنسان وتخرب العمران، ولا تتعظ من تجارب الماضي والحاضر، فتعجز عن التفوق في المستقبل، مما يجعل اتجاه التغيير لديها سببا لزوالها واندثارها ثقافيا وحضاريا.

وقبل الشروع بالحديث عن مساهمة المرجعيات الدينية العراقية في عملية التغيير الاجتماعي في بلدها، لا بد من تسليط الضوء على بعض المؤشرات الايجابية والسلبية المعاصرة التي يجب إدراكها من قبل المتصدين للعمل المرجعي، وهذه المؤشرات هي:

أولا: المؤشرات الايجابية: وتتمثل هذه المؤشرات بــ:

- تنامي مشاعر التدين عالميا، وفي كل الحضارات الإنسانية.

- تصاعد حالة التمدن على كوكب الأرض (امتداد المدن واتساع نطاقها).

- التطور التكنولوجي، وانعكاساته على الإعلام والعلاقات بين الشعوب، وإخضاع الطبيعة.

- ضعف سيطرة الطغاة والمستبدين على شعوبهم، وزيادة وعي الشعوب بالحاجة إلى نظم حكم عادلة تضمن الحقوق والحريات الإنسانية.

والمحصلة التي تنتج عن هذه المؤشرات هي: زيادة قدرة الدعاة والمصلحين على كسر قيود الخوف والإرهاب الحكومي، ونشر مناهجهم الإصلاحية بين الناس بتأثير غير مسبوق.

ثانيا: المؤشرات السلبية: وتتمثل هذه المؤشرات بـ:

- ارتفاع مستوى التطرف بكل أبعاده، وتطور أدوات القتل والدمار المستعملة ضد الخصوم.

- استغلال الدين كعامل محوري وأساسي في تأجيج الصراعات الاجتماعية (الوطنية والدولية).

- زيادة الفجوة الاجتماعية عالميا بين القلة الغنية المسيطرة على كل شيء، والأغلبية التي تكون محط سيطرة وتحكم هذه القلة.

- خضوع الإنسان لمستوى مرتفع من القضايا والأزمات المعقدة التي لم يألفها سابقا، وعدم امتلاكه لمرجعية فكرية وتنظيمية واضحة تساعده على تجاوزها.

 والمحصلة التي تنتج عن هذه المؤشرات هي: وجود بيئة إنسانية كثيرة المشاكل، متنامية الصراعات، مجهولة الاتجاهات.

 في ظل هذه المؤشرات، تبرز الحاجة ماسة إلى ضبط التغيير الاجتماعي، وتوجيه بوصلته باتجاهات إصلاحية صاعدة، تساعد الإنسان على حل مشاكله الشائكة، بدلا من أن يكون تغييرا هابطا هداما يجرد البشر من سموهم، ويسقطهم في شراك تمتهن كرامتهم وإنسانيتهم. ولما كانت المرجعيات الدينية تمثل المؤسسات الرائدة في حماية الدين، فأن المهمة الملقاة على عاتقها في مجال التغيير الاجتماعي تكاد تفوق كل المهمات التي واجهتها عبر تاريخها الطويل الممتد بامتداد هذا الدين الحنيف، لكن على المرجعيات الانتباه لما يلي:

التغيير فكرة وحركة

غالبا ما تنادي المرجعيات الدينية بضرورة التغيير، وتروج له بين أتباعها عن طريق المنابر، والمنشورات، والمجالس الحسينية وغيرها. لكن هذه النداءات قد تبقى مجرد أفكار حول التغيير دون أن تتحول إلى حركة تغيير تستفز وجدان الشعوب، وتحركها لبناء ذاتها على أسس جديدة، ومن يصنع التاريخ على امتداد عمر البشرية هو حركة التغيير المقترنة بالإيمان بفكرة التغيير، أما الأفكار فقد تبقى مئات السنين تجول في عقول أصحابها ولا تجد لها أرضا للاستقرار عليها.

والغريب العجيب أن أنظمة الحكم في عالمنا الإسلامي تشجع على بقاء دور المرجعيات مقتصر على بث أفكار التغيير، لأنها تدرك أن اقتران فكرة التغيير بحركة التغيير، يعني اقتلاعها من جذورها. إن المطلوب من المرجعيات الدينية العراقية في الوقت الحاضر لكي تأخذ زمام المبادرة في مساعدة الشعب العراقي وتوجيه حركة التغيير فيه نحو الأعلى هو أن تجعل إيمانها بضرورة التغيير متزامن مع استعدادها للقيام بفعل التغيير، لأن تركها لهذا الأمر لن يكون إلا على حساب مصلحة الناس عندما تجد قناعاتهم بضرورة التغيير حركات سياسية واجتماعية هابطة تقودها نخب فاسدة تخدعهم وتزيف الحقائق لديهم. ويجب في ظل المؤشرات التي تم تقديمها آنفا عدم تعليل التخلي عن فعل التغيير بداعي التقية وما شابه، لان ظروف العراق والعالم اليوم تغيرت كثيرا لصالح فعل التغيير.

اعتماد نظرية التغيير النخبوي

ترى مرجعياتنا الدينية المباركة، أن التغيير المنشود يجب أن يبدأ بالقاعدة (عموم الشعب) قبل القمة (النخبة)، فتجد مشايخنا ودعاتنا يؤكدون في خطبهم ومواعظهم على هذا الأمر، ويقرنون ذلك بقوله تعالى:{.. بان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..}، وانه: " كيفما تكونوا يولى عليكم " (حديث نبوي).. الخ. لكن هذا التوجه قد يكون صحيحا في إطاره الوعظي الإرشادي، أما في مجال التغيير الاجتماعي الشامل ففيه عدم وجود تقدير جيد للأولويات، فالعامة غالبا ما تكون منشغلة بمتطلبات حياتها اليومية من الحاجات الأساسية، لاسيما في عصر أصبح تأمين هذه الحاجات يستهلك كل وقتها ومقدراتها، نعم إن كل واحد من عامة الشعب يدرك الحاجة إلى التغيير، لكنه عاجز عنه بدون نخبة فاعلة تقوده وتحركه. إذا فالتوجه المرجعي نحو العامة كمدخل للتغيير الشامل فيه إشكال تطبيقي، والبديل الحقيقي عنه هو التركيز على تغيير النخبة أو كسبها إلى جانب حركة التغيير، وجعل هذا التوجه محور النشاط المرجعي في المستقبل، مع بقاء الخطاب الوعظي والإرشادي للعامة.

 والدليل على صحة نظرية التغيير النخبوي يمكن أخذه من القرآن الكريم من خلال قصتي موسى (ع) وفرعون، ويوسف (ع) وملك مصر، فعندما لم يستطع نبي الله في القصة الأولى عن تغيير النخبة أو بعضها لم يكن الحل أمامه إلا الخروج من مصر والبحث عن بلاد أخرى توفر له ملاذ آمن من عنف السلطة وطغيانها، أما نجاح نبي الله في القصة الثانية في التأثير في النخبة وكسبها إلى جانبه، فقد جعله متحكما بخزائن الأرض، ونجح في تحقيق تغيير مؤثر في الدولة التي يعيش فيها.

منهجية التغيير

يحتاج التغيير إلى اعتماد منهجية شرعية معتدلة تركز على القواسم المشتركة بين المسلمين، فتستحضر الجوانب المشرقة من سيرة المعصومين وتاريخ المسلمين، تقطع السبيل على المتخبطين من أنصاف المتعلمين، الذين يريدون استغلال الدين وتحويله من عامل بث للألفة والمحبة والتعاون والتعايش بين الناس إلى عامل هدم، وتأجيج للعنف والصراع، واستباحة المحرمات المقدسة وأولها الإنسان الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): بأنه " بنيان الله ملعون من هدمه". إن هذه المنهجية التي ندعو إليها، تحتاج إلى تجنب الخطاب الديني المتطرف من كل الأطراف، وعدم الرد على دعاته بأساليبهم المدمرة.

هدف التغيير

يجب أن يكون الهدف النهائي للتغيير، هو بناء نظام حكم مدني إسلامي يستوعب جميع المكونات الاجتماعية على اختلاف رؤاها الاعتقادية والفكرية، ويقدم الدليل على مدنية الإسلام، واستجابة أحكامه وقواعده للتطور الإنساني المتمدن.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

www.fcdrs.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 7/تشرين الثاني/2012 - 22/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م