قراءة تاريخية... النور السجين الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع)

محمد طاهر محمد

 

شبكة النبأ: إنه السفر الذي صاغ من القيود والأغلال طريق الحرية والكرامة, ورسم من ظلام السجون نهجاً أبلجاً علّم البشرية مقارعة الظلم والطغاة حتى النصر أو الشهادة, إنه النور الذي لم تزده ظلمات الجور الّا اتقاداً ووميضاً, إنه المعنى الحقيقي لرسالات السماء والذي لم يعرف السجود والركوع والإنحناء الّا لربه, إنه ابن من بدد سُحب الكفر ببرق ذي الفقار وابن من لم يقرّ للظالمين حتى زلزلت صرخته عروشهم وقوّضت جبروتهم (هيهات منا الذلة), إنه سليل النبوة, ووريث الامامة الذي عانق القرآن منهجاً واتخذ سيرة آبائه الابرار طريقاً للسير على هديهم وسلوكهم حتى امتزجت دماؤه بدمائهم في سبيل إعلاء كلمة الله وبسط العدل ودحض الباطل, إنه بحر علوم النبوة وطود حلم الامامة الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع).

والحديث عن هذا الامام العظيم متعدد الجوانب متشعب الأغراض, خاض فيه الباحثون والكتاب كثيراً فكانوا كمن يغترف غرفة من بحر أو يحصي حبات الرمل في القفر, فمناقبه أجل من أن توصف أو تحصى وقد اعترف بها القريب والبعيد والموالي والمعادي وسنقتصر في حديثنا هذا على مواقف السلطة العباسية التعسفية تجاه الامام (ع) وما تعرض له من اضطهاد وظلم وسجن حتى استشهاده في بالسم في سجن هارون العباسي.

روى السيد هاشم معروف الحسني في كتابه سيرة الائمة ج 2 ص 328: ان المهدي العباسي استدعى الإمام الكاظم (ع) وعرض عليه أن يرد فدكاً اليه فرفض الإمام (ع) قبولها ولما ألح عليه المهدي قال (ع): لا أقبلها الّا بحدودها, ولما سأله المهدي عن حدودها, قال (ع): الحد الأول: عدن, فتغير وجه المهدي, لكن الامام واصل كلامه قائلاً: والحد الثاني: سمرقند.. فأربد وجهه, فلم يعبأ به الامام وخاطبه بلهجة الواثق: والحد الثالث أفريقية.. ولم يمهله المهدي حتى سأله باضطراب واضح: والحد الرابع ؟ فقال (ع) وهو لا يزال محتفظاً بهدوئه ولهجته المطمئنة: سيف البحر ما يلي الخزر وأرمينية..

فلم يتمالك المهدي وهو يسمع الحد الرابع الا أن قام والغضب يعلو وجهه وقد فهم مقصود الامام وقال له: لم يبق شيء فتحول الى مجلسي.. فأجابه الامام بلهجة المنتصر: لقد أعلمتك بأني إن حددتها لم تردها.

أول ما يُلاحظ من هذه المحاورة بين خليفة عباسي وإمام من ائمة أهل البيت (ع) هو البون الشاسع والنظرة المتناقضة لمفهوم الخلافة عند الجانبين فهذا المفهوم عند العباسيين لم يختلف من خليفة الى آخر الّا باختلاف وتعدد الوسائل القمعية والوحشية التي قامت عليها سياستهم الدموية وقد امتلأت كتب التاريخ بجرائمهم وموبقاتهم وأدنى مراجعة لتاريخهم الاسود يُستشف منها أبشع وأسوأ صفحة من صفحات التاريخ الاسلامي فمفهوم الخلافة عند العباسيين لا يعدو مفهوم السلطة والتجبّر والقتل والتشريد والاستبداد والاستيلاء على مقاليد الحكم بشتى الوسائل ورفع شعار (الملك عقيم)! إذ لم تقتصر الجرائم التي ارتكبها العباسيون على أهل البيت (ع) وشيعتهم وإن كان النصيب الاوفر من هذه الجرائم قد ارتكبت بحقهم بل طالت جميع المسلمين بل وحتى من يتخوفون منه من العباسيين أنفسهم يقول الخوارزمي عن المنصور: (الذي لم يتورع عن قتل ابن أخيه وعمه عبد الله بن علي وأبي مسلم مؤسس دولته) وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا ج 1 ص 91 ان هارون العباسي قال لإبنه المأمون: (والله لو نازعتني هذا الامر لأخذت الذي فيه عيناك, فإن الملك عقيم) ونجد المأمون قد استثمر هذه المقولة التي تماهت تماماً مع نزعته الدموية فلم يتورع عن قتل أخيه الأمين ولو كان الامين هو المنتصر لفعل كما فعل أخوه.. هذا هو مفهوم الخلافة عند بني العباس, الوصول الى السلطة بشتى الوسائل وحكم الناس بالقهر والجور والاستبداد وهتك الحرمات.

ولكن ما هو هذا المفهوم عند الامام الكاظم (ع)؟، لو رجعنا الى تاريخ أهل البيت (ع) نجد هذا المفهوم متجلياً في أقوالهم وأفعالهم على السواء, نجده في قول أمير المؤمنين (ع) لابن عباس عندما رآه يخصف نعله وهو في طريقه لحرب الجمل فينكر ابن عباس أن يكون هذا الفعل في هذا المقام فيبادره الامام بالسؤال: ما قيمة هذه؟، فيكون جواب ابن عباس بان لا قيمة لها فيأتي جواب الامام (ع) ليبين المفهوم الحقيقي للخلافة ويوضح أهدافها السماوية التي تجسد الخير والاحسان واصلاح الانسان وخلق مجتمع فاضل فيقول له: (والله انها أحب اليّ من أمرتكم الّا أن أقيم حقاً وأدفع باطلاً), كما نجد هذا المفهوم في الشروط التي وضعها الامام الحسن (ع) على معاوية والتي تنهاه عن سفك دماء الابرياء والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويتجلى هذا المفهوم بأروع صوره في نهضة الامام الحسين (ع) بقوله: (ما خرجت أشراً ولا بطراً وانما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) أريد أن آمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كما تجلى هذا المفهوم في سلوك الائمة (ع) كلهم ومنهم الامام موسى بن جعفر (ع) فالخلافة لم تكن في مفهوم أهل البيت (ع) سلطة بقدر ما هي مسؤولية وواجب تجاه الامة وقيادتها وفق أحكام الاسلام الحقة التي جاء بها خاتم النبيين (ص) وصونها من الزيغ الانحراف وهذا الامر لا يتأتى لأحد سوى الائمة الذين أختصهم الله بوحيه ونص عليهم الرسول (ص) وقرنهم بالكتاب وهذا ما قصده الامام الكاظم (ع) في جوابه للمهدي.

وهذه المحاولة من المهدي إما ان تكون ساذجة فما قيمة فدك أمام الامبراطورية العباسية التي حدد الامام أركانها الأربعة والتي حكمها العباسيون بالجور والظلم فالإمام كان أزهد الناس في الدنيا وما فيها فضلاً عن فدك وإما ان تكون لإحتواء الإمام واستمالته للسلطة وهذا ما لا يكون أبداً ففكره وأخلاقه ينافيان سياستها الجائرة وقد أثار منهج الامام وسيرته حفيظة العباسيين فبقي (ع) طيلة حكم المهدي تحت الرقابة الشديدة وقد استدعاه المهدي الى بغداد أكثر من مرة وسجنه وعزم على قتله فكان الامام ينجو بدعاء يدعوه, وروى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في احدى المرات التي سجن فيها الامام الكاظم (ع) في سجن المهدي ان المهدي رأى في بعض الليالي علي بن أبي طالب (ع) في نومه فقال له: يا محمد فهل عسيتم ان توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ففزّ مرعوباً واطلق سراح الامام (ع) لكنه لم ينقطع عن فساده في الأرض وقطع أرحامه فشدد من مراقبته على الامام حتى هلك وفي عصر الهادي عاش الامام (ع) حادثة فخ الأليمة وما جرى على أهل بيته من المآسي فكان (ع) يتلوّى ألماً على هذه الحادثة وعبّر عنها بقوله (ع): (لم يكن لنا بعد الطف مصرع أعظم من فخ).

وأما السنين التي قضاها الامام في عصر هارون فكانت أسوأ ما مر عليه في حياته فقد سخّر هارون أجهزته لمراقبة الإمام ورصد حركاته وسكناته وكثرت العيون والجواسيس حوله ولعل أشد ما قاساه الامام من ذلك هو انه كان من ضمنهم أقرب الناس الى الامام يقول السيد محمد تقي المدرّسي في كتابه التاريخ الاسلامي ص 193 (ولكي تتمكن السلطات العباسية من الحصول على المعلومات فقد بذلت من أجل ذلك الكثير من الأموال لشراء الذمم حتى ذمم بعض العلويين) وروى الكشي والكلينيان محمد بن اسماعيل دخل على هارون العباسي وقال: (ما ظننت ان في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة فأرسل اليه هارون مائة الف درهم فرماه الله بالذبحة فما نظر منها الى درهم ولا مسه) وهذا ما أثار كوامن حقده على الامام الكاظم (ع) فهو يعلم قبل غيره ما يشكله الامام من مصدر خطر عليه وما يحتله من حب وتقدير في نفوس الجماهير التي تكوّن قاعدة شعبية واسعة فصمم على اعتقال الامام والتخلص منه بنفسه فذهب الى المدينة في طريقه الى الحج فأمر جلاوزته بالقبض على الامام وأمرهم ان يتوجهوا به الى البصرة وأمر عيسى بن جعفر المنصور الذي كان والياً من قبل هارون بسجنه فبقي الامام سنة في سجن عيسى حتى أمره هارون بقتله لكن عيسى امتنع وكتب اليه كتاباً مضمونه انه لا يستطيع قتل رجل يقضي ليله بالعبادة ويصبح صائماً وطلب منه أن يرسل من يتسلم الامام منه أو يخلي سبيله فأرسل هارون من تسلم الامام من عيسى ليودعه عند الفضل بن الربيع فقضى الامام عنده مدة طويلة لا يصرف وجهه عن المحراب ثم أمره هارون بقتل الامام فأبى الفضل بن الربيع فكتب اليه بتسليمه الى الفضل بن يحيى البرمكي فتسلمه منه ووضعه تحت المراقبة الشديدة ثم وسع عليه وأكرمه فبلغ ذلك هارون فأمر الفضل بقتله فأبى الفضل فاغتاظ هارون وأمر السندي بن شاهك بضرب الفضل بين يديه مائة سوط وأراد قتله فتوسط يحيى بن خالد البرمكي والد الفضل في تخليص ابنه منه وسلّم الامام الى السندي الذي ضيق عليه، وقد جرت اثناء سجنه (ع) محاولات كثيرة من قبل هارون للانتقاص من قدر الامام واخرى لاخضاعه وانتزاع اعتراف منه بشرعية الخلافة العباسية لكن كل هذه المحاولات كان مصيرها الفشل الذريع من هذه المحاولات ارسال جارية بارعة الجمال الى الامام لأغرائه بها ولما ذهب هارون ليتفحص الامر وجدها ساجدة خلف الامام وهي تقول (قدّوس, قدّوس) فقال هارون: سحرها موسى بن جعفر!

كما حاول هارون بعد ان صار فضل الامام وعبادته حديث الناس أن يبرر فعلته الشنعاء بأطلاق سراح الامام بمجرد أن يسأله العفو فيكون ذلك اعترافاً من الامام بالذنب ومن ثم يستطيع هارون التشهير بالإمام ولكن هارون نسي أو تناسى ان هذه النفس الابية لا يمكن ان تخضع وتطلب العفو الا من بارئها وروى اليعقوبي انه قيل للإمام موسى بن جعفر بعد أن مكث مدة طويلة في سجن هارون: لو كتبت الى فلان ليكلم هارون فيك فقال: حدثني أبي عن آبائه أن الله أوصى الى داود ما أعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي دوني الا قطعت عنه أسباب السماء وأسخت الأرض من تحته) والعجيب ممن يطلب ممن قرن الله طاعته بطاعته أن يطلب من يتوسط له عند طاغية كهارون!

وانتشرت معاجز الامام ومناقبه وكراماته حتى في بيوت سجانيه فكان مصدر قلق للسلطة وهو في سجنه واصبح الكثير من عرفوا ببغضهم لآل علي بن أبي طالب موالين للإمام لما رأوا من تقواه وورعه مثل أخت السندي وخادمه بشار والمسيب بن زهرة الذي اذا أراد المنصور شراً برجل أمر بتسليمه اليه فانه لما أوكل اليه حبس الامام الكاظم (ع) أصبح من مواليه وصار يناديه بــ (سيدي) كل تلك الامور تجري أمام هارون أو تنقل اليه عن طريق العيون فيزداد غيظاً وغماً.

فماذا بعد ان تغلغل حب الامام الى الكثير من رجال دولته وقادة جيشه بل وحتى غلمانه وجواريه الّا الحد من هذه السلطة الروحية والخلافة الالهية التي يتمتع بها الامام ليحافظ هارون على سلطته القمعية وخلافته المزيفة وليس من سبيل الى ذلك سوى قتل الامام فسولت له نفسه الخبيثة تلك الجريمة النكراء بدس السم الى الامام فبقي (ع) ثلاثة أيام ثم قضى نحبه ملتحقاً بالرفيق الاعلى مع آبائه الطاهرين.

ترتل التضاريس خطاه*

محمد طاهر محمد

خُطاهُ فصولُ الوحي تروي انتماءَهُ الى حيثُ يقفو عطرُها انبياءَهُ

الى حي ثُأر واحٌتقدّ سفرُها على سرِّها ألقى النبيُّ كساءَهُ

فينسلُ تاريخُ الضياءِ ملائكاً لتسر جَفي ذكرِ السماءِ سماءَهُ

أتى يقتني موتاً يضيئُ نشورُه على كل فجرٍ.. خطَّفيه نداءه

فجابَ تضاريسَ السماءِ بروحهِ ليعلنَ فيهم بالرحيلِ بقاءَهُ

وكان ضنيناً بالنبوءةِ رفرفتْ عليها رؤى الآباءِ تجلو نقاءَهُ

فأفنى أقاويلَ الوجود ملامحاً وآثرَأن يتلو الخلودُ دعاءَهُ

فشبَّتْ بنجواهُ المرايا قصائدا لتنسجَمن سفرِ الدموعِ لواءَهُ

وتخفقُ في حزنِا لتراتيل كفُّه صدى سورةِ الاصفادِ تروي ابتلاءَهُ

وينشقُّ نبضُ الأرضِ قلباً لسرّ هِو يغرسُ في بغدادِها كبرياءَهُ

وينبعُ صوتٌ من بواكيرِ حزنِها يرتِّلُ في سجنِ الجراحِ حراءَهُ

بموسى يلوذُ الليلُ تسحرُ نجمَه مناجاةُ معشوقٍ تتوقُ لقاءَهُ

ويهد أُفجرٌ خلفَ قضبانِ نسكهِ وتنشد أَنداءُ القبابِ إباءَهُ

على فترةٍ قد جاءَ ضوءً مع الندى تصوغُ سلالاتُ السماءِ صفاءَهُ

يبوحُ الى الأشياءِ آيات روحــهِ كأيِّ نبيٍّ إذ يبوحُا صطفاءَهُ

لتنبتَ من أضلاعهِا لأرضُ قبلةً عليها وجوهُا لأفق مدَّتْ بهاءَهُ

وينبضُ من كفيه فـــــــــجرُ حمائم يظللُّ بالسلوى ويسقي رثاءَهُ

وتفتحُ من أَشذا هُبابُ حـوائجٍ جداولُ في الآفاقِ فاحتْ سخاءَهُ

عليها لأَجيال الدموعِ شـــــواطئٌ ظلُّلها الأَملاكُ تدلي عطاءَهُ

فأَسرى ولكن عافَ قيدينِ فيهما الى الآن خفق يرويان فداءَهُ

فصاغت تواريخُ الشهادةِ منهما شعاراً وأَذكتْ في العيونِ دماءَهُ

فيا سيدي.. جفَّتْ أسىً روحُ شاعرٍ لتورقَ أَحد اقٌتضي بكاءَهُ

يناجيكَ يا بابَ الحـوائجِ بُلغَةً تسجِّرُ في أَضلاعِه كربلاءَهُ

أبا الطهرِ.. هبني بعضَ طُهرِكَ أرتقي الى فلكٍ يستافُ منكَ ضياءَهُ

وجدْ لي بجودٍ.. شاطئُ النورِ أَعشبتْ عليه قل وبٌتستدرُّ نماءَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أُلقيت هذه القصيدة في مهرجان الجوادين الذي أقامته العتبة الكاظمية المقدسة في الصحن الكاظمي الشريف في 11 رجب 1433 الموافق 2/6 /2012 في الذكرى 1250 لإستشهاد الإمام موسى بن جعفر (ع).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/تشرين الثاني/2012 - 21/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م