واشنطن إذ تعيد هيكلة المعارضة السورية

عريب الرنتاوي

ستشهد الدوحة على امتداد الأيام الخمسة المقبلة أوسع عملية "إعادة هيكلة" للمعارضة السورية، منذ تشكيل المجلس الوطني السوري الذي أصبح "كادوك" بحسابات السياسة الأمريكية...أكثر من خمسين معارضاً، من الداخل والخارج، سيعملون على تشكيل مكتب تنفيذي جديد، من المتوقع أن تنضم إليه لأول مرة، هيئة التنسيق والمنبر الديمقراطي والمجالس المحلية والتنسيقيات، فضلا عن ممثلين للمجلس الوطني وغيرهم.

أبرز المؤشرات التي يمكن تسجيلها في حركة السفير الأمريكي لدى سوريا روبرت فورد، أو "بريمر سوريا"، أنه يسعى في إخراج أطر المعارضة الرسمية، من سطوة القاعدة والسلفية الجهادية، والتخفيف من هيمنة إخوان سوريا عليها، فضلاً عن إضعاف نفوذ تركيا والسعودية (وحتى قطر، الدولة المضيفة)، وهي الأطراف الإقليمية التي لعبت دوراً حاسماً في تسليح وتمويل المعارضة ورعايتها.

ثمة تباينات في قراءة الحراك الأمريكي المكثف على خط المعارضة السورية، وثمة شكوك أعمق في جدوى هذا التحرك وجديته، بل وفي فرص نجاح هذه المحاولة بعد أن فشلت محاولات سابقة عديدة لجمع المعارضة حول مائدة واحدة.

واحدة من تلك القراءات تقول: أن واشنطن تريد "ترتيب بيت المعارضة الداخلي" توطئة لمدٍّها بالسلاح الثقيل والمتطور، وأن هذه الخطوة إنما تُمهد لقرار الحسم الذي ستتخذه الولايات المتحدة، بعد أن تضع انتخاباتها الرئاسية أوزارها... وهناك قراءة أخرى تقترح أن هذه الخطوة هي بمثابة محاولة لخلق جسم قيادي للمعارضة، ذي صدقية، قادر على التعامل مع المجتمع الدولي، والتفاوض مع النظام السوري إن اقتضى الأمر وآن أوانه.

والحقيقة أنه لا يمكن فهم هذا الحراك الأمريكي على خط المعارضة، بمعزل عن "المراجعة" التي تجريها واشنطن لسياساتها الشرق أوسطية، ولسلة مواقفها من "الربيع العربي" وصعود الإسلام السياسي بجناحيه الإخواني والسلفي، فضلا عن تفاقم تهديدات القاعدة من جديد... تلك المراجعة التي أكسبتها حادثة بنغازي ومقتل السفير والدبلوماسيين الأمريكيين زخماً إضافياً وسرّعت في تحويلها إلى مواقف جديدة وسياسات.

واشنطن كما تؤكد كافة المؤشرات، باتت أكثر حذراً وتحفظاً حيال الربيع العربي بأنظمته وحكوماته وفصائله الجديدة...واشنطن باتت أشد "قلقاً" من "الخطاب الإخواني المزدوج"، وأكثر خشية من أي وقت مضى من خطر "الأصولية المتطرفة" و"إرهاب القاعدة"...واشنطن باتت أقل حماساً للتغير في سوريا، وهي في أحسن الحالات، تريد تغيير الأسد وإبقاء النظام، وفي مطلق الأحوال، هي لا تريد لسوريا أن تقع في قبضة السلفيين والجهاديين، ولا تريد احتكاراً إخوانياً للمعارضة الآن أو للسلطة في المستقبل.

إذا كانت هذه القراءة للتحولات في الموقف الأمريكي بعد "بنغازي" صحيحة، ونحن نرجح صحتها، فإن من المنطقي التفكير بأن إعادة هيكلة المعارضة السورية، إنما يندرج في هذا السياق، ويستهدف تحقيق هذه الأهداف واحتواء ما تنطوي عليه مخاوف وتهديدات...الأمر الذي يعني أن واشنطن تريد رفع منسوب العمل السياسي والمدني في قيادة المعارضة، وتريد "تأهيل" قيادتها لخوض غمار تجربة التفاوض والتسويات والعلاقات العامة، مع المجتمع الدولي والإقليم من جهة، وربما مع النظام أو أجزاء رئيسة منه من جهة ثانية.

نرجح أن تكون الترتيبات الجديدة لأطر المعارضة، في حال نجاح المسعى الأمريكي، توطئة لمرحلة التسويات الإقليمية والدولية للأزمة السورية، بعد أن بلغت طالت حالة الجمود والمراوحة سياسياً وعسكرياً، وبعد أن تأكد عجز كل فريق عن حسم الصراع عسكرياً ضد الفريق الآخر، وبعد أن تفاقمت مخاطر تمدد الأزمة وانتشار تداعياتها السياسية والأمنية إلى كل من لبنان وتركيا والأردن والعراق، بل وإلى الإقليم بمجمله، وهذا ما لا تريده واشنطن على أية حال، وتسعى في تفاديه.

وتقتضي هذه المقاربة الجديدة، تخفيف قبضة المحور التركي – السعودي – القطري على المعارضة السورية، إذ في ظل هيمنة هذا المحور، انتعش الدوران السلفي والإخواني في المعارضة، وارتفع منسوب التطيّف والتمذهب في الأزمة السورية، ارتفعت معدلات العنف المنفلت من كل عقال... وهذا ما أدركته واشنطن متأخرة (بوحي من بنغازي)، وبدأت تعد العدة لتفاديه...والأرجح أن هذه المقاربة سوف تكون نقطة الارتكاز لسياسة الإدارة الأمريكية المقبلة، ديمقراطية كانت أم جمهورية، وإن بدرجات متفاوتة من الشدة واللين، الأرجح أنها تأتي من خارج إطار الانتخابات الأمريكية، بدلالة أن ثمارها لن تظهر قبل ظهور نتائج السباق نحو البيت الأبيض.

وتفسر هذه القراءة للحراك الأمريكي الجديد، تفشي مظاهر القلق والانزعاج في أوساط المحور القطري – السعودي – التركي من الخطوة الأمريكية، فهذا الحلف بنى إستراتيجية كاملة على الحسم والتغيير الشامل، واستثمر فيها الكثير من المال والسلاح والجهد الدبلوماسي، وأنشأ شبكات وجيوش من التابعين والعملاء والمحسوبين على هذه العواصم، لتأتي واشنطن لتطيح بكل هذا البنيان و"بجرة قلم" من روبرت فورد، "عرّاب" إعادة الهيكلة هذه.

أياً يكن من أمر، فإن هذه القراءة تحتمل التعديل والتأويل، فالمعلومات المتسربة عن "التوجه الأمريكي الجديد" المصحوب بحراك روسي – صيني كثيف، ومبادرة وشيكة للموفد الأممي، ما زالت محدودة، والأرجح أننا سنعود لقراءة الموقف من جديد، بعد أن يتصاعد الدخان الأبيض من "الدوحة" و"واشنطن" في بحر هذا الأسبوع.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 6/تشرين الثاني/2012 - 21/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م