الامتناع عن تنفيذ الاحكام القضائية

(احكام المحكمة الاتحادية العليا إنموذجاً)

القاضي سالم روضان الموسوي

في اكثر من مناسبة اشرت الى الاسباب التي دعت الى ظهور القضاء والمحاكم لحاجة المجتمعات إليها وانبثقت من هذه الحاجة العلوم والفنون ذات الصلة والاهمية التي تنطوي عليها فكرة وجود القضاء بكافة اشكاله (الاعتيادي والدستوري والاداري) ولا حاجة لإعادة ذكرها، وإنما التذكير بأهميتها لتكرار المحاولة تجاه التعرض لها مثلما صرح به احد اعضاء مفوضية الانتخابات المستقلة تجاه حكم المحكمة الاتحادية العليا بصدد قانون انتخابات مجالس المحافظات والاقضية والنواحي.

 وهذه الاهمية دعت كافة التشريعات في الدول الى حماية هذه الاحكام وجعلها من اسس الثبات والدوام لكينونة المجتمعات، وسأعرض للمنظومة التشريعية العراقية التي عدت افعال تتعلق بمخالفة الاحكام القضائية والامتناع عن تنفيذها بمثابة جريمة وحددت لها العقوبة البدنية والمالية (الحبس والغرامة) ولان المشرع ومن خلال التجربة الحياتية وجد ان من يخالف الاحكام القضائية ويعطلها في الاغلب الاعم هو القائم على تنفيذها سواء كان موظف مهمته تنفيذها بحكم وظيفته مثل دوائر التنفيذ واعضاء الضبط القضائي وسائر الموظفين المثبتين على الملاك الدائم او غيرهم من اصحاب الدرجات الخاصة والوزراء والنواب والقضاة ومن يدخلون في مفهوم (المكلف بخدمة عامة) المعرفون في حكم الفقرة (2) من المادة (19) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل التي جاء فيها الاتي (المكلف بخدمة عامة: كل موظف او مستخدم او عامل انيطت به مهمة عامة في خدمة الحكومة ودوائرها الرسمية وشبه الرسمية والمصالح التابعة لها او الموضوعة تحت رقابتها ويشمل ذلك رئيس الوزراء ونوابه والوزراء واعضاء المجالس النيابية والادارية والبلدية كما يشمل المحكمين والخبراء ووكلاء الدائنين (السنديكيين) والمصفين والحراس القضائيين واعضاء مجالس ادارة ومديري ومستخدمي المؤسسات والشركات والجمعيات والمنظمات والمنشئات التي تساهم الحكومة او احدى دوائرها الرسمية او شبه الرسمية في مالها بنصيب ما بأية صفة كانت، وعلى العموم كل من يقوم بخدمة عامة باجر او بغير اجر.

 ولا يحول دون تطبيق احكام هذا القانون بحق المكلف بخدمة عامة انتهاء وظيفته او خدمته او عمله متى وقع الفعل الجرمي اثناء توافر صفة من الصفات المبينة في هذه الفقرة فيه) وحيث ان المبدأ العام في الفقه الجنائي (لا عقوبة ولا جريمة الا بنص او بناء على نص) والمشرع العراقي بين بان فعل امتناع الموظف او المكلف بخدمة عامة عن تنفيذ الاحكام القضائية او تعطيلها جريمة يعاقب عليها على وفق حكم المادة (329) عقوبات التي جاء فيها الاتي (1 – يعاقب بالحبس وبالغرامة او بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف او مكلف بخدمة امة استغل وظيفته في وقف او تعطيل تنفيذ الاوامر الصادرة من الحكومة او احكام القوانين والأنظمة او اي حكم او امر صادر من احدى المحاكم او اية سلطة عامة مختصة او في تأخير تحصيل الاموال او الرسوم ونحوها المقررة قانونا 2 – يعاقب بالعقوبة ذاتها كل موظف او مكلف بخدمة عامة امتنع عن تنفيذ حكم او امر صادر من احدى المحاكم او من اية سلطة عامة مختصة بعد مضي ثمانية ايام من انذاره رسميا بالتنفيذ متى كان تنفيذ الحكم او الامر داخلا في اختصاصه 3 -تطبق العقوبات ذاتها على الموظف او الوكيل الرسمي الذي يسرح، ينزل درجة، ينقل، يهدد، يرهب، يميز ضد، يضايق، ينتقم باي طريقة اخرى من اي شخص يبلغ او يتعاون مع لجنة النزاهة العامة العراقية او المفتش العام في الوزارة او ديوان الرقابة المالية العليا او اي جهة حكومية اخرى مختصة بالتحقيق وفضح الفساد واساءة التصرف من قبل المسؤولين عن المؤسسات العامة) وحيث ان مناط الفعل الجرمي الامتناع او تعطيل تنفيذ الحكم القضائي فان محلها هو الحكم القضائي لذلك لابد وان اوضح ما هو الحكم القضائي بعجالة هو القرار الذي تصدره المحكمة في خصومة ووصف حكم المادة (161) من قانون المرافعات رقم 83 لسنة 1969 المعدل بان الحكم القضائي هو (يتلى منطوق الحكم علنا بعد تحرير مسودته وكتابة اسبابه الموجبة في الجلسة المحددة لذلك، ويعتبر الطرفان مبلغين به تلقائيا، اذا كانت المرافعة قد جرت حضوريا، حضر الطرفان ام لم يحضرا في الموعد الذي عين لتلاوة القرار) وهو يشمل كافة الاحكام القضائية الصادرة عن المحاكم التي تعمل بموجب قانون المرافعات في الدعاوى المدنية اما في الدعاوى الجزائية او الجنائية فان الاحكام الواجبة التنفيذ هي الاحكام التي تصدرها المحاكم الجزائية (الجنايات، الجنح والتحقيق) والتي تصدر احكامها بموجب قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 المعدل وعد الحكم الواجب النفاذ هو الحكم القضائي الذي اشارت اليه المادة (224) اصول جزائية وفي القضاء الاداري هو الحكم الذي يصدر من محكمة القضاء الاداري بموجب الاجراءات التي اشار اليها قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل على وفق حكم المادة(7) من قانون مجلس شورى الدولة رقم 65 لسنة 1979 المعدلن اما في القضاء الدستوري وهو اصل البحث في هذه المادة فان احكام القضاء الدستوري في العراق مثل غيره هي الاحكام التي تصدر لتفسير النصوص الدستورية او البت في الطعن بعدم دستورية القوانين والتشريعات النافذة واختصت فيه المحكمة الاتحادية العليا في العراق دون غيرها بهذا الاختصاص بموجب قانون ادارة الدولة الانتقالية رقم لسنة 2004 المعدل وقانون المحكمة الاتحادية العليا الصادر بموجب الامر رقم 30 لسنة 2005 ثم تعزز هذا الدور والاختصاص بحكم المادة (93) من دستور العراق لعام 2005 وجاء فيه نص اخر يؤكد على الزامية احكامها ووجوب تنفيذها على وفق حكم المادة (94) من الدستور التي جاء فيها (قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة) وفي عجز المادة اشار الى ان الالزام يشمل كافة السلطات وارى بان كاتب الدستور ثبت عبارة (كافة) ولم يذكر كلمة (جميع) لتأكيد شمولية فعل الالزام على الكل دون استثناء حيث نجد ان معنى كلمة (كافة) عند اهل اللغة بمعنى (والكافَّةُ الجماعة، وقيل: الجماعة من الناس. يقال: لَقِيتهم كافَّةً أَي كلَّهم. وقال أبو إسحق في قوله تعالى: يا أَيها الذين آمنوا ادْخلُوا في السلم كافَّةً، قال: كافة بمعنى الميع والإحاطة، فيجوز أَن يكون معناه ادخلوا في السِّلْمِ كلِّه أَي في جميع شرائعه، ومعنى كافةً في اشتقاق اللغة: ما يكفّ الشيء في آخره، من ذلك كُفَّة القميص وهي حاشيته) اما كلمة الجميع فإنها بمعانٍ شتى منها جمع الشيء وعلى وفق ما ورد في لسان العرب والفرق واضح لاستخدام كلمة كافة لتشمل السلطات القائمة ولا تدل الا على الا على الكل بينما كلمة جميع تعبر احيانا عن المفرد في اسلوب التعظيم مثل قوله تعالى في الاية الكريمة (105) من سورة النساء (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) ومن ذلك فان الدستور شمل كل السلطات القائمة في تاريخ كتابة الدستور او التي ستقوم او تتكون لاحقا، فضلا عن حكم الفقرة (ثانيا) من المادة (5) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم 30 لسنة 2005 ومن ذلك نجد ان حكم المحكمة الاتحادية العليا لازم وبات وواجب التنفيذ، والامتناع عن تنفيذه او السعي لتعطيله يشكل فعل جرمه قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل على وفق حكم المادة (329) عقوبات الملمع عنها أعلاه ولابد من الاستشهاد بواقعة حدثت مؤخرا اذ صرح احد اعضاء مفوضية الانتخابات (نقض المحكمة الاتحادية للمادة 13 من قانون مجالس المحافظات غير ملزم للمفوضية لأنها تعمل بقانون مشرع من مجلس النواب"،مستطردا "لكنه ملزم لمجلس النواب) ويقصد بذلك ان المفوضية غير معنية بتنفيذ حكم المحكمة الاتحادية العليا رقم (67/اتحادية/2012 في 22/10/2012) الذي قضى بتعطيل نص الفقرة (خامساً) من المادة (13) من قانون انتخابات مجالس المحافظات والاقضية والنواحي رقم (38) لسنة 2008 المعدل وان صح الادعاء على ذمة وسائل الاعلام فان من نطق به اما انه يتعمد تعطيل حكم قضائي بات وملزم ويخضع لأحكام قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل او انه لا يعلم بان الحكم القضائي قد عطل نص الفقرة (5) وأصبحت هي والعدم سواء، لان فقه القانون الدستوري يعرف تعطيل النص القانوني بموجب حكم القضاء الدستوري هو بمثابة الغاء للنص ولا يجوز تنفيذه ويوجب على الجهات التشريعية اصدار تشريع جديد يعالج ذلك الفراغ التشريعي لان حكم المحكمة الاتحادية العليا كاشف لبطلان النص وفي قرار للمحكمة الدستورية العليا في مصر المرقم 39 لسنة 1990 جاء توضيح لفكرة البطلان وتعطيل النص على وفق الاتي (استقر قضاء المحكمة الدستورية العليا على أن للحكم بعدم الدستورية أثراً رجعياً كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة فقررت في أحد أحكامها " إن الأصل في الأحكام القضائية أنها كاشفة وليست منشئة، إذ هي لا تستحدث جديداً ولا تنشئ مراكزاً أو أوضاعاً لم تكن موجودة من قبل، بل هي تكشف عن حكم الدستور أو القانون في المنازعات المطروحة على القضاء وترده الى مفهومه الصحيح الذي يلازمه منذ صدوره الأمر الذي يستتبع أن يكون للحكم بعدم الدستورية أثر رجعي كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة بياناً لوجه الصواب في دستورية النص التشريعي المطعون عليه منذ صدوره، وما إذا كان هذا النص قد جاء موافقاً للدستور، وفي حدوده المقررة شكلاً وموضوعاً فتتأكد للنص شرعيته الدستورية، ويستمر نفاذه، أم أنه صدر متعارضاً مع الدستور، فينسلخ عنه وصفه وتنعدم قيمته بأثر ينسحب الى يوم صدوره، وذلك يؤكد قصد المشرع في تقرير الأثر الرجعي للحكم بعدم الدستورية ويؤيد انسحابه على ما سبقه من علاقات وأوضاع نشأت في ظل القانون الذي قضي بعدم دستوريته) وحيث ان عضو مفوضية الانتخابات وهو اما بحكم الموظف او المكلف بخدمة عامة وعليه ان يصدر اوامره على وفق نص نافذ وغير معطل ولا ملغى وإلا عد امره او قراره معدوم لإصابته بعيب الانحراف على وفق فقه القانون الاداري ولا تلحقه القضائية او القانونية ويتحمل تبعات اثاره ان رتب اثر ومثلما ذكر احد الاشخاص ان الملفت للنظر بان اي من السلطتين التشريعية او التنفيذية او اعضاء الاحزاب والكتل السياسية لم استنكر او يشجب تصريح عضو المفوضية المنوه عنه في أعلاه، لربما لأنه ينسجم وتطلعاتهم السياسية في الاستحواذ على اصوات لم تمنح لهم او كما يطلق عليها سرقة اصوات الناخبين التي تصدى لها القضاء فوجه مسيرتها نحو الصواب لحفظ الحقوق والخروج بمجالس نيابية وطنية او محلية تمثل الاقرب الى رغبة الناخب العراقي وهذا ما نؤكد عليه بان القضاء هو الضمانة لحقوق الانسان من كل خرق او تعد من الغير وادعوا مفوضية الانتخابات الى مراجعة ما صدر عنها او عن عضوها حتى لا يشكل فعلهم خرقا يعاقب عليه القانون وإنما نفترض فيها الاستقلالية والنزاهة ونعول على ادائها في انتخابات حرة نزيهة تعبر عن حقيقة مطلب جمهور الناخبين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/تشرين الثاني/2012 - 20/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م