فقه الدولة: مفهوم الحزب والانظمة الحزبية

الشيخ فاضل الصفّار

إن ضرورة البحث تستدعي التعرض إلى الأحزاب بعض الشيء وبعض أصناف الأنظمة القائمة على التنظيمات الحزبية، فنقول:

يطلق الحزب على مجموعة من المواطنين يؤمنون بأهداف سياسية وعقيدة مشتركة، وينظمون أنفسهم بهدف الوصول إلى السلطة وتحقيق برامجهم التي يرونها السبيل الوحيد أو الأفضل في تحقيق الهدف[1]، ويبدو أن الحزب السياسي من العوامل الطبيعية الملازمة لكل نظام سياسي، فالحزب السياسي موجود في الأنظمة السلطوية كما هو موجود في الأنظمة الحرة، بل وفي البلدان التي هي على طريق النمو كما في البلدان المصنعة، ويندر أن يكون هناك دولة لا وجود لحزب سياسي واحد فيها على الأقل، وحتى البلدان التي قد تخلو ساحتها السياسية من تشكيل خاص باسم الحزب كبعض الأنظمة الملكية أو الأميرية أو السلطوية إلا أنها لا تخلو من واقع الحزب واتجاهاته الفكرية؛ إذ لا يخلو البلد من جماعات يجمعهم فكر واحد وهدف مشترك، سواء كان في قمة السلطة أو في ظلّها أو في طريق العمل لأجلها.

والظاهر أن دخول الحزب في تركيبة الحكم والدولة في الأنظمة السياسية حديث نسبياً، إذ لم يكن للأحزاب وجود يذكر قبل الربع الثاني من القرن التاسع عشر، كما لم يكن لكلمة حزب المدلولات والمعاني نفسها تماما المعروفة اليوم، وقد كانت الدراسات الحزبية القديمة تعتمد بشكل كلي على تحليل عقائد الأحزاب؛ لأن النظرة السائدة في ذلك الوقت كانت تحصر مفهوم الحزب في جماعة عقيدية، وقد عرّفها بعضهم بأنه اجتماع اشخاص يعتنقون العقيدة السياسية نفسها، وأما موسوعة لاروس فتدخل عنصر المصالح في تعريفها للحزب فتحدده بأنه مجموعة أشخاص تعارض مجموعة أخرى بالآراء والمصالح[2].

وتتميز الأحزاب المعاصرة قبل كل شيء بكياناتها وبنيتها وتنظيمها، ويعتقد بعض المفكرين[3] بأن نشأة الأحزاب المعاصرة تعود إلى عام 1850م، حيث لم يكن قبل ذلك أي بلد في العالم باستثناء الولايات المتحدة يعرف الأحزاب السياسية بالمعنى الحديث للكلمة، ويرى أن هناك أصلين للأحزاب: الأصل الانتخابي والبرلماني على ما يعبرون، والأصل غير الانتخابي وغير البرلماني، أو ما يسمى بالأصل الخارجي، ويتبلور الأصل الأول في تكوين الأحزاب من خلال إنشاء الكتل البرلمانية أولاً، ثم اللجان الانتخابية فيما بعد، وأخيراً يقوم في المرحلة الثالثة تفاعل دائم بين هذين العنصرين، وكانت وحدة العقائد السياسية المحرك الاساسي في تكوين الكتل البرلمانية[4].

وإلى جانب العوامل المحلية الإقليمية والعوامل العقيدية يجب أن يحسب حساب للمصالح كما عرفت من موسوعة لاروس، كقيام بعض الكتل بصورة صريحة أو ضمنية بالدفاع عن مصالحها البرلمانية، شأنها في ذلك شأن أي نقابة، والاهتمام برعاية الانتخاب يؤدي بالطبع دورا كبيرا.

هذا وفي كثير من الأحيان يتم إنشاء الحزب بصورة أساسية بفضل مؤسسة قائمة من قبل وذات نشاط مستقل وخارج عن البرلمان، وحينئذ يمكن الكلام بحق النشأة الخارجية للأحزاب، فالكتل والمنظمات تعمل على إنشاء أحزاب سياسية كثيرة ومتنوعة، ومثال النقابات فيما نحن فيه من النماذج البارزة.

هذا ولا يخفى أن هناك أحزاباً سياسية تنشأ حول ندوة فكرية أو مؤتمر، ولكن قلما يستطيع حزب نشأ على هذا الأساس ان يوجد قاعدة شعبية تمكنه من النجاح في ظل نظام يعتمد الانتخابات طريقاً للوصول إلى السلطة، إن التطور الذي رافق مفهوم الدولة والحياة السياسية والانتقال إلى مرحلة الدولة الإقليمية والدولة الأمة أصبح فيه الشعب بدلا عن الدولة محور السلطة، ومصدر شرعيتها.

 ومن الواضح أنه لا يمكن للشعب ممارسة السلطة والحرية السياسية ككل، فقامت الضرورة لإحداث أجهزة وأعضاء وممثلين تنوب عنه في ممارسة السلطة السياسية، وحيث إن المؤسسات السياسية على رغم انبثاقها عن الشعب وانفصالها ظاهرياً عنه تظهر بمظهر القوى المتميزة عن قوة الشعب، فتحدّ سلطتها في الواقع بالنظام القانوني الذي يطمح إليه الناس، ومن هنا كان لابد من تحديد سلطات السلطة الحاكمة وتعيين واجبات الأفراد وحقوقهم، والدولة بحكم طبيعتها القانونية بوصفها تنظيم قانوني لا تملك إلا احترام هذه الحقوق، وحينئذٍ يتفرّع على ذلك أمور:

1. كما أن للفرد حقوقاً على الدولة فان عليه واجبات تجاهها، وأقل ما فيها هو احترامها واحترام مؤسساتها القائمة والالتزام بمقرراتها ما دامت ضمن الموازين الشرعية والعقلائية.

2. الاعتراف للفرد بحقوق وحريات عامة وخاصة يتمتع بها، ويدافع عنها في حال مخالفتها، تخول الأفراد منفردين ومجتمعين حماية المكاسب التي انتزعوها بالسلم حينا وبالقوة في حين، ولكن لما كان السبيل الفردي غير كاف لحماية الحقوق وجد الأفراد من الواجب اتحادهم لما في الاتحاد من قوة، ومن أجل احترام حقوقهم وحرياتهم، وبذلك انضوت مختلف فئات الشعب في تكتلات تجمعها وحدة العقيدة والأهداف.

3. أن هذه التكتلات الشعبية صارت المعيار الذي يميز الأنظمة الحرة عن الأخرى المستبدة؛ لأن هناك صراعا في الحقوق بين فئة حاكمة وأخرى محكومة تعمل كل منها بفعل عوامل النزعة التسلطية في الإنسان على التدخل في أعمال الأخرى، والحد من سلطاتها، فإذا كانت الغلبة للسلطة الحاكمة اتصف النظام بالتفرد والاستبداد نعم تارة يكون استبداده فردياً واخرى جماعياً، فيقوم على تقليص الحريات العامة وإقامة مجتمع موحد يحكمه رئيس واحد وحزب واحد، وأما إذا كان النصر حليف الفئة المحكومة اتصف النظام بالحرية وما يعبرون عنه بالنظام الديمقراطي بغض النظر عن التعاون الحاصل فيها بسبب سعة مساحة الحرية وضيقها فيها، حيث يسمح فيه بالتعبير وابداء الرأي وحرية التجمعات السياسية والنقابية والحرفية وما أشبه ذلك.

4. على رغم مظاهر الانفصال بين طبقات الشعب الحاكمة والمحكومة ورغم الفوارق الجوهرية بين الأنظمة المستبدة والأخرى الحرة فإنه لابدّ للطبقة الحاكمة في كل من النظامين أن تستند على حزب أو أحزاب لتدعم كيانها، وهنا نلاحظ أن الحزب أو الأحزاب التي هدفت في بدء تكوينها إلى محاربة الدولة واكتساب السلطة أصبحت هي الأخرى عاملاً في تكوين السلطة، ومن هنا قلنا: إن الحزب هو القناة التي تجمع بين السلطتين: سلطة الشعب وسلطة الحكومة، وعليه لابد لكل نظام من الاعتماد على الشعب أو على جزء منه ليستمر في البقاء والمحافظة على كيانه، وهذا الجزء منه هو الأحزاب.

فلو أخذنا الشعب من الوجهة السياسية لوجدنا فيه طبقات وعناصر متحدة تملك من القوة ذات الفعالية والتأثير أكثر من غيرها من الطبقات الأخرى المتفرقة، وعندما تتحد الطبقات وتنتظم فيما بينها تشكل قوة لا يستهان بها، وتكون النواة في تكوين الأحزاب وغيرها من النقابات والتجمعات والتكتلات.

هذه القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في الدولة والتي تعبّر عن تحركات الشعب تحد من سلطة الدولة المطلقة لصالح الفئات التي تقوم على أرضها، كما أنها الآلة الطبيعية القادرة والكفوءة على تطبيق برامج السلطة وخططها.

هذا وتصنّف الأحزاب إلى تصانيف عديدة مثل أحزاب الرأي وأحزاب الطبقات كأحزاب الحرفيين أو الفلاحين أو ما أشبه ذلك، وربما تصنف بحسب التركيب الجغرافي أو العرقي أو الديني، أو حسب الاتجاهات السياسية، كما أنه يمكن تصنيف الأحزاب إلى إقليمية، والسبب في تعدد التصنيفات يعود إلى الفوارق بين الأحزاب فيما يختص بعقيدتها واهدافها وطريقة نظامها وتركيبها وحجمها.

ومن الواضح أن هذا كله ينبغي أن يخضع في الحرمة والجواز إلى مطابقة الموازين، ولسنا نحن بصدد بحثه لعدم دخوله في الغرض فعلا، وأما ما يدخل فيه فهو معرفة إجمالية عن وظائف الأحزاب السياسية، فقد عرفت أن الأحزاب أداة حكم ووسيلة معارضة، فتساهم بذلك بصنع إرادة الأمة، كما قد تحد في الوقت نفسه من تلك الإرادة بحسب موقعها ودورها في العملية السياسية.

وظائف الأحزاب

لكي تظهر الأحزاب على المسرح السياسي لابد أن تقوم بخمس وظائف:

الوظيفة الأولى: تنظيمية؛ إذ تتطلب الحياة السياسية تمحور مختلف الآراء الفردية والميول الشخصية في ضمن الجماعة، وفي مجتمع تتشعب فيه الآراء والأهواء وتتضارب الميول السياسية يصعب فيه بروز تيار فكري واحد ومسيطر؛ لذلك كان على الأحزاب أن تقوم بدور الحافز والموحد للأفكار واختيار القرارات السياسية المهمة.

الوظيفة الثانية: إعلامية؛ إذ تتولى الأحزاب السياسية تثقيف أعضائها وتنمية النخبة من الأعضاء الذين يملكون قدرة فائقة في الدفاع عن آراء الحزب ومبادئه وبرامجه، وتمدهم بالمعلومات التي يستطيعون من خلالها مواجهة التغيرات الطارئة الحالية أو المستقبلية، سواء على صعيد المواطنين، أو على صعيد الحكومة والسلطة، وبعملها هذا تشكل نقطة اتصال بين السلطة والشعب والحاكم والمحكوم، فتنقل إلى الفئة الأولى مطالب الفئة الثانية، وتنذرها بوجوب تحقيق تلك المطالب، والدور الإعلامي للحزب لا يقتصر على العضو والنائب، بل يتعدّاه إلى الناخب؛ إذ يقوم بمدّه بالمعلومات والإرشادات التي تنمي لدى المواطنين ملكة فهم الظواهر السياسية والاجتماعية، وتساعده على اختيار الأصلح والأنسب لمصالحه.

الوظيفة الثالثة: الانتقائية؛ إذ يتولى الحزب اختيار مرشحيه وانتقاء المرشح الأوفر حظاً بالنجاح، فالمرشح الذي يقود الانتخابات على أساس شخصي قلما يضمن الفوز بمقعده النيابي، بينما النائب الحزبي حال انتخابه يخضع لتعليمات الحزب وتوجيهاته، وحتى يحظى بثقة الحزب والوقوف إلى جانبه عليه أن يضع المصالح العامة فوق مصالحه الشخصية، وإن شذ عن الانضباطية التي يفرضها الحزب فإنه يخضع لعقوبة الفصل أو التجميد.

ويبرز الدور الانتقائي للحزب على صعيد الدائرة الانتخابية، إذ يختار الحزب الدائرة التي يضمن فيها فوز المرشح، ومن الواضح أن هذه الأمور لا تبرز بحدة في الدول ذات نظام الحزب الواحد، حيث لا وجود للمعارضة أو البدائل المتعددة في الانتخابات، فالحزب يقدم مرشحاً واحداً عن الدائرة الانتخابية حيث يتولى الشعب المصادقة على ترشيحه من دون أن يكون له حرية الخيار بين عدة مرشحين عادة، وإن كان فإنه يخضع فيما يختار إلى ما تريده السلطة الحاكمة بسبب الخوف، أو عدم وجود فرق حقيقي بين البدائل المرشحة من قبل السلطة.

الوظيفة الرابعة: أخلاقية؛ إذ إن حياة المرشح السياسية لا تكفي للإحاطة الكاملة بمجريات السياسة عادة، كما أنه من الصعب الحكم بالعدل على كفاءات الأفراد؛ نظراً للتضارب والتناقض في مواقفهم السياسية التي تتحكم بها مصالحهم الخاصة، ولتعدد شخصية الرجل السياسي، فالأحزاب التي تتمتع بالديمومة والاستمرارية تستطيع ان تحل محل الأفراد لتضطلع بالمسؤولية السياسية التي ينجم عنها خسارة السلطة، أو الاحتفاظ بها في حال عدم احترامها للمبادئ التي وجدت من أجلها.

الوظيفة الخامسة: تربوية؛ إذ إن الأحزاب تعد الكفاءات وأصحاب الخبرات لممارسة العمل السياسي والحكومي، وهذا من شأنه أن يحفظ الحرية، ويجعل اختيارات الشعب مستقلة وحرة، كما يسوقه إلى رقيه وتطوره؛ بداهة تبادل الكفاءات مراكز السلطة والقدرة مما يسبب التنافس وتقديم الأفضل.

والظاهر أن هذه الوظائف مما تشترك فيها الأحزاب الإسلامية وغيرها؛ إذ لا مانع شرعي وعقلي يفصل بين الصنفين من الأحزاب. هذا في أصل التصنيف.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

.....................................................

[1] موسوعة السياسة: ج2 ص310.

[2] موسوعة السياسة: ج2 ص310.

[3] المصدر نفسه: ص310.

[4] المصدر نفسه: ص310-311.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 2/تشرين الثاني/2012 - 18/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م