دولة العدالة وسياسة الوفاء

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: دولة العدالة تبتني أركانها وركائزها على منظومة قيم، معنوية، وقانونية، يلتقي في هذه المنظومة التشريع القانوني والديني من جهة، والعرف المعنوي الاخلاقي من جهة اخرى، وكلاهما يعاضد الآخر ويدعمه من اجل حماية المجتمع والدولة من الانزلاق نحو هاوية الفوضى والصراع العشوائي القائم على تضاد المصالح والمنافع والاهداف، ومن بين القيم التي تدعم استقامة المجتمع وتكامل العدل وانتشار السلوك السليم، قيمة الوفاء.

المجتمع وقيمة الوفاء

حضور القيم والحفاظ عليها، يُسهم بقوة في ترسيخ علاقات اجتماعية ثقافية راقية، تسهم بدورها في استقرار المجتمع وثبات ركائز الدولة، وتتيح فرص تقدم وتطور متواصلة وواسعة في عموم المجالات، إن السياسة لا تعني ادارة الدولة فقط، انها ادارة اصغر المؤسسات صعودا الى اكبرها، انها تعني ادارة العائلة والمدرسة والدائرة والمنظمة، بل تعني حتى ادارة العلاقات الفردية المتبادلة بين الاشخاص والجماعات ايضا، لهذا تكون قيمة الوفاء مهمة وركيزة اساسية في نجاح الادارة.

ان دولة الاسلام في اكثر حلقاتها إشراقا وقوة وعظمة، كانت تقوم على سياسة الوفاء، هذا ما أكده سماحة المرجع الديني آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام) اذ يقول سماحته في هذا المجال: (سياسة الرسول صلی الله عليه و آله التي هي: إدارة البلاد والعباد بمعناها الصحيح كما يحب الله تعالى ويرضاه، وكانت مبتنية أيضاً على الوفاء بالوعد، والالتزام بالقول، والوفاء الخلقي. وقد ذكر المؤرخون الكثير من القصص الرائعة في ذلك).

احترام قيمة الوفاء

الوفاء لا ينحصر في حالة دون غيرها، وغير محدد بمجال دون غيره، الوفاء سلوك انساني صحيح وحتمي لتحقيق البناء الامثل للمجتمع ككل وللدولة ومرافقها ومؤسساتها، وينسحب هذا حتى على ابسط العلاقات القائمة بين الافراد، لذا كان هناك احترام دقيق للالتزام بالمواعيد التي تتعلق بلقاء الاشخاص وما شابه، بمعنى اذا اعطيت وعدا لشخص ما حول لقاء محدد في زمن محدد عليك الالتزام به كتعبير عن الاحترام اولا، ومن ثم يسهم هذا الالتزام بتطوير المجتمع والدولة ويساعد ايضا على نشر حالة من الانسجام والوئام، ثم في نهاية المطاف تحقيق العدالة بأبعادها الاجتماعية التي ستنعكس قطعا على العدالة السياسية وسواها.

ويضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي مثالا واقعيا، عن مدى التزام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بوقت الموعد في اللقاء حتى مع الافراد العاديين وهو القائد الاعلى للدولة الاسلامية، يقول سماحته في هذا الصدد بكتابه المذكور نفسه: (في مكّة المكرمة، وقبل البعثة تواعد النبي صلی الله عليه و آله مع شخص أن ينتظره حتى يجيء ذلك الشخص، فراح الرجل، ونسي وعده، وترك النبي صلی الله عليه و آله يترقّبه ثلاث ليال في المكان نفسه. وبعد ثلاث جاء الفتى ليجد النبي صلی الله عليه و آله لا يزال في انتظاره بمكانه).

ويكرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الالتزام نفسه في رد الجمل لم يحسن العلاقة، ويلتزم بالخلق الانساني الرفيع، كدلالة على اهمية ذلك في بناء المجتمع القائمة على العدالة والقبول بالتكافؤ في جميع المجالات، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب: (ذكروا: أنّه كانت لخديجة أم المؤمنين، امرأة صديقة لها حين تركها أقرباؤها ونساؤها وقريش كلهم، فكانت تتعاهد خديجة وتأتيها، وتؤنسها من الوحدة. فلما توفّيت خديجة كان النبي صلی الله عليه و آله يرسل بالهدايا إلى تلك المرأة وفاءً لها، وكان صلی الله عليه و آله يقول: إنها كانت تأتينا في زمن خديجة، وإنّ حسن العهد من الإيمان).

في السراء والضراء

تُشاع في عالم اليوم المادي قيم يُقال لها جيدة لأنها تحقق مصلحة الانسان اولا، حتى لو لم تراعي الخسائر المادية والمعنوية التي قد يتعرض لها الجانب الآخر، هذا ما نلاحظه في العلاقات الغربية، سواء داخل المجتمع الغربي او في علاقاته مع الخارج، وهناك المذهب البراغماتي الذي يدعو الى تحقيق المصلحة الذاتية اولا، الامر الذي لا يحقق العدالة الاجتماعي في نهاية المطاف، وهذا ينعكس بدوره على سياسة الدولة والمجتمع.

إن الوفاء للاخرين يجب أن لا تحكمه المصلحة الفردي او حتى الجماعية، بل علينا أن نتذكر كأفراد وجماعات أن من يكون وفيا معك في وقت ما عليك ان تكون وفيا معه بغض النظر هن المصلحة والفائدة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (لما فتح الله تعالى لرسوله الكريم صلی الله عليه و آله مكّة المكرّمة لم يبق فيها ويترك الأنصار يعودون إلى المدينة لوحدهم، فيكون قد شاركهم مادام في العسرة فإذا تم الفتح تركهم.. بل أمّر على مكّة بعض أصحابه، وقفل راجعاً إلى المدينة بصحبة الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وآووه ونصروه. بالرغم من أن مكّة كانت مسقط رأسه الشريف، وبلده الذي قضى فيه أكثر من خمسين عاماً، وبلد آبائه، وفيها الكعبة، وأضرحة آبائه وأجداده وآثارهم، وآثار الأنبياء السابقين من آدم، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل عليهم السلام وغيرهم. كل ذلك وفاءً للأنصار. وقال: اليوم بر ووفاء).

ويضيف سماحة المرجع الشيرازي: (وهذا هو الفريد من نوعه في تاريخ العظماء والقادة والثوار، فإنهم إذا أخرجوا من ديارهم نتيجة الثورة فإذا قضوا على الزمرة الظالمة عادوا إلى ديارهم، إلا الرسول صلی الله عليه و آله فلم يعد إلى مكّة ليبقى فيها. بل رجع إلى المدينة مع الأنصار، وبقي فيها حتى توفاه الله تعالى والتحق بالرفيق الأعلى، ولم يسكن في مكّة المكرّمة، ولم يبت فيها ليلة واحدة).

فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يضع هذه القيمة العليا للوفاء، وهو القائد الاعلى للدولة الاسلامية، فما بال الانسان الآخر، الذي ينبغي عليه أن يعي دور الوفاء كقيمة راسخة ومهمة في بناء المجتمع، ومن ثم تحقيق العدالة المثلى في دولة العدالة التي يربو إليها الجميع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 1/تشرين الثاني/2012 - 16/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م