هل يوجد مستقبل لليبراليين المصريين؟

عماد جاد

بات مصطلح الليبرالية من بين المصطلحات سيئة السمعة في مصر، فقد نجح تيار الإسلام السياسي في تشويه مجموعة من المفاهيم كالحرية، الديمقراطية، الليبرالية، ناهيك عن مصطلح العلمانية، وبات الليبراليون المصريون يفضلون استخدام مصطلحات أخرى للتعبير عما يؤمنون به من قيم وما يسعون إلى أرساء من مبادئ.

ومن بين أبرز العقبات التي تحول دون إرساء منظومة القيم وفي القلب منها الليبرالية، انتشار ثقافة معادية لهذه القيم وتحديدا للحرية والمساواة، ومن هنا نرى أن انتشار ثقافة التعصب والتطرف الفكري تعد العائق الأبرز أمام قبول منظومة القيم ومنها الليبرالية، واي محاولة لترسيخ قيمة الليبرالية لابد وأن يسبقها جهد ضخم لمواجهة ثقافة التعصب والكراهية المنتشرة في عالمنا العربي وتتصدره مصر.

ربما لا توجد آفة تهدد البشرية حاليا أكثر من انتشار التعصب والتطرف الفكري، والذي عبر عن نفسه في أحيان كثيرة في شكل عنف دموي اجتاح العديد من مناطق وأقاليم العالم، ولم تكن الظاهرة خاصة بعقيدة أو إتجاه فكري أو جماعة بشرية، بل طالت الجميع، فهذه المشاعر السلبية التي يحملها البعض تجاه "الآخر" أي آخر، كانت وستظل موجودة لدى أتباع الاتجاهات الفكرية والنظريات السياسية والعقائد، ولكن الخطورة كل الخطورة تتمثل في انتشار هذه المظاهر واتساع نطاقها من مجموعات محدودة هامشية منبوذة إلى قلب التجمعات البشرية، بحيث يتراجع معها اعتدال وتسامح الغالبية، وتزداد الخطورة عندما تبدأ هذه الجماعات في تحويل الفكر إلى ممارسة، هنا نشهد الاعتداءات وأعمال القتل والتخريب وإبادة البشر من منطلق الاختلاف.

 ولعل أخطر أنواع التعصب والتطرف هو ذلك المنطلق من عوامل الانقسام الأولي التي تتمثل في اللغة والعرق والدين، فهنا تظهر المذابح وعمليات الإبادة التي تجري وفق هذه العوامل، ومعها تتصارع فئات المجتمع، وتنهار النظم، ويعم الخراب ويتنشر، ففي مثل هذه النوعية من الصراعات القائمة على أسس أولية وفي مقمتها عنصر الدين أو العقيدة، عادة ما تتوافر دوافع إضافية غير منظورة لما يقوم به الفرد من أعمال قتل وتخريب. ووسط موجة المد المتصاعد من التطرف والتعصب، تراجع مناخ التسامح والاعتدال الذي كان يسود مجتمعات عديدة، وبرز نفوذ جماعات ومنظمات متطرفة، وانتقل التطرف والتعصب أيضا إلى الحلقات المحيطة بقوى ليست بهامشية في المجتمعات، الأمر الذي بات يمثل تهديدا خطيرا لأمن واستقرار عديد من المجتمعات.

وفي مواجهة هذا المد الانغلاقي، لم تنفع أطروحات من قبيل حوار الحضارات، وحوار العقائد والأديان، بل أن الكثير من الرموز التي كانت تشارك في مثل هذه الحلقات من الحوارات، ارتدت كثيرا ودخلت دائرة الانغلاق الفكري والعقائدي على النحو الذي قلص من دائرة "الاعتدال" داخل العديد من المجتمعات. وبات مطلوبا الآن وبشدة العمل على كسر هذه الدائرة التي تمثل الخطر الأول حاليا على أمن واستقرار العديد من المجتمعات، وتمثل تهديدا لمجموعات بشرية معرضة لدفع ثمن كبير لتراجع قيمة التسامح والاعتدال واتساع نطلق التعصب والتطرف.

وللأسف الشديد لم يعد مجتمعنا المصري استثناء من هذا المناخ " المجنون"، فظهرت على السطح أصوات أطلقت العنان للسان كي يمهد الأرض لنار قد لا تبقي ولا تذر. يعلم من أطلق التصريحات، الاتهامات، الإساءات أننا في مجتمع متدين بالفطرة، وأن نسبة الأمية مرتفعة، والأهم الأمية الثقافية، مع انتشار لموجات التعصب المقيت الذي لا صلة له بالروح المصرية التي اتسمت بالاعتدال، يعلم من أطلق هذه التصريحات أن هناك حالة من حالات التوتر العام بفعل أوضاع اقتصادية ضاغطة واجتماعية صعبة، ومن ثم فأن مواصلة الشحن، إطلاق الأكاذيب، التجاوزات، يمكن أن يدفع بمجتمعنا نحو الكارثة، وهو أمر لم تشهده مصر من قبل، فكل ما وقع من قبل من توترات واشتباكات، أو اعتداءات طائفية لن يقارن على الإطلاق بما يمكن أن تؤدي إليه حالة التشنج والتراشق بين رموز إسلامية ومسيحية من كوارث يدفع ثمنها المواطن المصري العادي، ويدفع الوطن كله ثمنا باهظا يدفعنا إلى الوراء مئات السنين، ففي مجتمع كمجتمعنا، بكل سماته الجغرافية والديموجرافية، فأن الاستجابة لعمليات النفخ الطائفي والاتهامات المتبادلة والغمز واللمز من قناة " دين الآخر"، وترويج الإشاعات والأكاذيب، وعمليات التهييج والإثارة..سيكون كارثة على الجميع.

ورغم أن نسبة المحرضين لا تزال محدودة للغاية، إلا أ ن من سيدفع الثمن سيكون القطاع الأوسع من المصريين الذين لا علاقة لهم بكل ما يجري من سجال طائفي/ ديني كنا نظن أنه قاصر على غرف الدردشة على الشبكة الدولية للمعلومات، فبات يدخل بيوتنا وعلى لسان أشخاص يشغلون مواقع ليست بهامشية. ووجد أنصار الفتن من يتجاوب معهم سريعا وينفخ في كل ما يقولون، وجدوا صحف – للأسف مصرية- وفضائيات مصرية أيضا سارت على درب الإثارة والتهييج رغبة في جماهيرية على أشلاء الوطن. مؤكد أن ما وصلنا إليه الآن من سجال طائفي/ ديني يعد بمثابة إفراز طبيعي لخلط الدين بالسياسة، وإفساح المجال لرجال الدين للعب أداور لم تكن أبدا لهم، فقد أعجبتهم لعبة التصريحات، وسجال الفضائيات ففاقوا لاعبي كرة القدم في التواجد في الفضائيات وبعضهم استقر في وظيفة مقدم البرامج ( الدينية ) والآخر استهوته لعبة الظهور الإعلامي. لقد آن الآوان كي يتوقف رجال الدين عن ممارسة لعبة تهدد بحرق الوطن، آن لهم أن يترجلوا ويعودوا إلى مواقعهم الأصلية في " المحراب" عابدا، ناسكا، ناصحا، شارحا مفسرا، ميسرا...... في نفس الوقت نحن في أمس الحاجة في مصر إلى جماعة من المصريين تتوافر لديها المشاعر الإنسانية الراقية التي تتعامل مع البشر جميعا، بصرف النظر عن لونهم وعرقهم ودينهم وطائفتهم، باعتبارهم مخلوقات لله، نحتاج إلى بشر يلتقون على أرضية مصرية، بشر تحركهم مشاعر إنسانية راقية وتكون مهمتهم الوحيدة نشر فكر التسامح والاعتدال، وتواجه التطرف والتعصب والانغلاق، حركة تعلي من قيمة الإنسان كإنسان، وتدافع عن حقوق البشر وعن قيمة المساواة، حركة يشارك في الدعوة لها وتأسيسها مثقفون وكتاب مصريين، ورجال أعمال وطنيين شرفاء من مختلف الانتماءات، يلتقون على أن الوطن يواجه خطر فتنة شديدة، ولهذا السبب تحركوا من أجل مصر ومن أجل المصريين بصرف النظر عن الأصل العرقي، اللغوي، الديني، الطائفي...حركة تطالب بعودة رجال الدين إلى أداء وظائفهم الأصلية، تتوصل إلى ميثاق شرف يتوقفون بموجبه عن ممارسة لعبة الإعلام أو لعبة " حرق الوطن"، حركة تمهد الطريق لدولة مدنية قائمة على المواطنة كما نقول المادة الأولى من الدستور، حركة تدعو إلى دولة محايدة دينيا، تمارس الوظائف المتعارف عليها للدولة وتترك مسألة الجنة والنار للخالق يحاسب البشر وفق رأفته ورحمته التي لا يدركها البشر وفي مقدمتهم الساسة وأيضا كثير من رجال الدين. ما لم يحدث ذلك فانا سائرون باتجاه دولة دينية تتعامل مع المصريين من منطلق ديني طائفي فيتحولون في نظر الدولة من مواطنين إلى ملل ونحل وأعراق.

* مقال نشر في صحيفة لوموند ديبلوماتيك والأهرام - تشرين الأوّل/أكتوبر 2012

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 25/تشرين الأول/2012 - 9/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م