الإعلام العربي ومنهج التضليل المتعمد

نـذيـر الـنقيـب

الحديث عن الإعلام حديث طويل ذو شجون.؟ لما يحمل بين طياته من مرارة وغصة اليمة تخنق المشتغلين فيه وتقلق المتابعين على حد سواء.! فقد استطاعت السلطات العربية النيرونية، من تحجيم دور الإعلام الريادي وتشويه هدفه الرسالي الإنساني على مدى عقود طويلة من الزمن، بعد أن أشركته معها بدم الحقيقة والحرية فصار الإعلام متهماً ومساهماً في أغلب جرائم السلطة.

 وراح يخدم بطاعة عمياء وبصورة فاعلة وكبيرة كل الأنظمة الدكتاتورية.؟ اذ عمل جاهداً على إخفاء جرائمها واطالة عمرها وديمومة الظلم وتمجيد الظالمين وتبرير أفعال السلطة، ولازال يساهم بسخاء منقطع النظير في عملية تزييف الحقائق وطمس الواضحات وتشويه معالم الحق ومحاربة أهله،، يمدح في موضع من لايستحق المدح.؟ ويذم في موضع آخر من لايستحق الذم.! يبعد ويقصي الآراء الحرة النزيهة عنوة بنفس تضليلي متعمد. يثير حفيظتنا الى حد القرف والاشمئزاز، ولايزال يلعب الإعلام نفس تلك اللعبة القذرة والقديمة.؟ أبان فترة حكم سلاطين الجور. وأن اختلفت الوجوه والأسماء.؟ فهو وسيلة وسلاح فعال لمن يمتلكه أمضى من كل الترسانات العسكرية..

 وبعد تجربة مريرة وطويلة تمكن الشارع المثقف بجدارة من فك شيفرة لغة الخطاب السياسي الإعلامي المضلل الجاري استخدامه الأن، بحثاً وتحليلاً تفكراً وأدراكاً منه لحجم وعمق الهوة التي تحولت مع مرور الوقت الى مهزلة علنية ترافق الخطاب المؤدلج بنكهة وقيم الحكومات البائدة، والمتبع حالياً كأسلوب عمل واقعي في الغالب الأعم من قبل أغلب المؤسسات الإعلامية العربية الا ما ندر.! حتى صارت محط سخرية وتندر الناس بكل شراحهم، و باتت مكشوفة للعيان محاولات الفذلكة الكلامية الخبرية للأحداث واطلاق المسميات والمصطلحات الرنانة، مثل الربيع العربي. وخريف البطرياك.! عفواً أقصد خريف الزعامات. ورياح التغيير العالمي والعولمة والفوضى الخلاقة و....الخ التي تعتبر ترجمة حقيقة لواقعا معاش وزائف تمارس فيه عملية التضليل بقصدية عالية واندفاع مستمر، الضحية والمستهدف فيه هو المتلقي وحده بقصد التعمية؟، مستحدثين طرائق مبتكرة وممنهجة عبر كل المنابر الإعلامية قاطبة.

 من خلال محطات تلفزه محلية وفضائية، صحف ومجلات، اذاعات وندوات، و انترنت، والتي لا تعدو عن كونها استعراضات عضلية وبلاغية للمفردات وبيانات دانكشوتية مبهمة دونها خرط القتاد.!

 تستثمر الأحداث الجارية بصورة انتهازية للوصول الى مكاسب مالية ودعائية أو أنها تدور في فلك مشروع سياسي لجهة ما.؟ واليكم صورة عملية لما يجري على أرض الواقع.

 فمثلا كلنا نشاهد التلفاز ونتابع مجريات الأحداث بصورة دائمة و يومية. فماذا عسانا أن نشاهد أو ماذا يقدم لنا الإعلام.؟ فقط كم هائل من هذه الاستعراضات واللقاءات الهذيانية المرثونية المستمرة على مدار الساعة مصحوبة بهالة من القدسية والصورة التشويقية التي يتم اضفاءها بطريقة مفبركة غايتها شد المتلقي وتهيئته نفسياً لتبني وجهة نظر أحادية الاتجاه، فارضة عليه فيما بعد مواقف عكس قناعاته الفكرية والأخلاقية تماما، ومن دون أن ينبس المشاهد بكلمة.!

 تشبه الى حد ما عملية غسيل الدماغ والتنويم المغناطيسي على أساس (نظرية التلقين الببغائي ) وعن طريق بث النشرات الإخبارية المركزة، وسمفونية شريط الأخبار أسفل الشاشة الذي يدور مثل طواحين الهواء وصور الأحداث التي يتم نقلها بعد أجراء عملية مونتاج يوافق الطلب والغاية.؟. وموسيقى طبول حرب غاضبة. وظاهرة الخبر العاجل بالقلم العريض يظهر فجأة ويختفي فجأة وموجز أخباري مكثف كل نصف ساعة.؟ وتحت هذا الضغط والإبهار السمعي والبصري المستمر يكون المتلقي قد تعبى جيدا وجاهز لما يريدون إيصاله عقليا ونفسيا وهذه هي الطريقة المثلى والمتبعة الأن التي تسبق كل حوار دائما، اذ يبدأ المقدم بممارسة دوره التلميعي والتزويقي لبرنامجه الرصين والهادف، وبعدها يطرح تساؤلاته الرتيبة البلهاء كيف.؟ وأين.؟ ولماذا.؟ ثم ينتقل مباشرة الى الجهة الأخرى من الطاولة الأنيقة وباقة الورد تتوسطهم، ليخلع على ضيفه العتيد بنفس واحد من دون انقطاع مجموعة كاملة وحزمة خيالية من الالقاب ومناصب ما أنزل الله بها من سلطان.؟ فعلى سبيل المثال وليس الحصر.

 اليوم نستضيف في هذه الحلقة من برنامجكم المميز الخبير الستراتيجي الأستاذ البرفيسور المحاضر علان العلاني.! أو المستشار السياسي والإعلامي المخضرم في الدائرة المنغلقة الدكتور فلان الفلاني.! أو الكاتب الباحث والمتخصص بالشؤن الدولية.! أو المرجع القانوني والفقيه الدستوري والناشط الحقوقي.! وهلم جرا..؟ وما أن تنتقل الكاميرا الى وجه الضيف الصبوح والبشوش حتى ينطلق صاحبنا المبجل يمضغ المفردات بين فكيه باريحية تامة وقسمات وجهه تشي بخلجات نفسه ولسانه يسطر تعابير الشكر والامتنان والعرفان المنمقة لهذه القناة الجادة والرصينة.؟ التي اتاحت له فرصة اللقاء والتواصل مع جمهوره الواسع والعريض.؟ وعلامات الغبطة والسرور بادية على محياه.! مستعرضاً امامنا بدلته الباريسية الانيقة وساعة يده السويسرية باهظة الثمن وقميصه الحريري وتصفيفة شعره اللماعة المميزة.

 اما اذا كان اصلعا فهذا يضيف عليه هيبة ووقار ويؤكد مما لاشك فيه تلك الالقاب التي خلعت عليه سابقا. ثم يغدو يشرح لنا باسهاب ممل وكئيب بعد ان يشبك أصابع كلتا يديه وبثقة متناهية،

 منطلقا من خلفية ثقافية أكاديمية، ولا أدري ما الداعي والعلة الخفية التي تجعل هذه البرامج الحوارية تنطلق من المنطقة الخلفية دائما.؟ الأمر متروك لنباهة وخيال القارئ.!

 شارحا ابعاد واعراض ومسببات الأزمة وتأثيراتها السلبية على المدى البعيد والقريب في مجتمعنا، ومعاناتنا الشديدة من جراء تلك الحالة غير المستقرة، وعواقبها الوخيمة وتداعيتها الكارثية على مستقبلنا. وما يصاحب ذلك من إرهاصات فعلية وحقيقية، وعلاقة الأجندات الخارجية المؤكدة، وتداخل وتشابك مصالح القوى العالمية والإقليمية في منطقتنا عموما وبلداننا خصوصاً،؟

وبعد هذه الجوقة الاستعراضية للمصطلحات الطنانة، يتطفل مقدم البرنامج مقاطعا فصاحة الضيف الجهبذ ليخبرنا بكل وقاحة وصلف امعانا منه بقهرنا ونكاية بنا، وبعد ان يرسل ابتسامة ماكرة ونظرة جامدة.! مصوبة نحو جباهنا، أحبتي المشاهدين ابقوا معنا فاصل ونواصل.

 وبعد دقائق ثقيلة تلتهم بقية أعمارنا ببط ء شديد يعود الضيف المتحدث بهيئة جديدة هذه المرة غير التي تركناه عليه قبل الفاصل الملعون، مقطب الحاجبين محتقن الوجه ونبرات صوته تنغم ترنيمة نواحة حزن مصطنع تأسياً وأسفاً على أرواح أزهقت وحضارة مدنية دمرت، ودماء سالت أنهاراً، ليفاجئنا برئيه السديد، معلنا، مصرحا بكل تجرد وحيادية أن أخلاقه الأكاديمية والعلمية وتلك الالقاب والنياشين التي يحملها فوق صدره تحتم عليه أن يقف على مسافة واحدة من الضحية والجلاد.!؟ وامام هذا التصريح الطلسمي والفاجع يتسع بؤبؤ عين المشاهد ليصاب بحالة انشطار ذري داخلي تستوجب عليه تجميع أجزاء عقله مرة ثانية وبسرعة الضوء استعدادا لتقبل أطروحة أكاديمية أخرى.! وما أن يستجمع المشاهد بقايا عقله و ذراته المتطايرة. حتى يرفع الضيف عقيرة صوته ملوحا بسبابته في الهواء صارخا لاعنن،.؟ أن سبب الأزمة الأخيرة والهجمة الاستعمارية على المنطقة هو للاستحواذ على منابع النفط ومصادر الطاقة.؟؟؟ حقاً. هل هذا هو السبب الرئيسي.؟ ياسيادة المستشار والأكاديمي والباحث والمفكر والبرفيسور والقانوني، أهذا ما توصلت له طول مشوارك العلمي.؟ وهذا ما تفتقت عنه ذهنيتك الفكرية.! ما هكذا تورد الأبل كما يقال.؟ وساترك العدل الإلهي يجيبك على موقفك من الضحية والجلاد.

 ودعني فقط أهمس في اذنك معلومة يعرفها صغيرنا قبل كبيرنا، مصادر الطاقة التي تتباكى عليها مهدورة منذ عشرات العقود.؟ لأن الغاز العربي يضيئ سماء وليل تل أبيب وشواطئ ومنتجعات أيلات،! ويضيئ المستوطنات المبنية على ركام بيوت السكان الأصلين المهدمة.! أما نحن لازلنا نعيش بظلال الفانوس والشموع.؟ ولولا بترول العرب لما تقدمت جرافة واحدة لتهدم بيت عربي.! وشعار نفط العرب للعرب فقط في اعلام الطغاة للاستهلاك المحلي للسذج أمثالك لكن الحقيقة تقول نفط العرب هبة مجانية للغرب وإسرائيل،؟ وبترول العرب يا فهيم هو الذي يغذي آلة الحرب المستخدمة ضدنا من دبابات ومجنزرات وطائرات حربية يستعملها جيش الاحتلال الإسرائيلي حين يجتاح جنوب العز والكرامة في لبنان.!! مصادر ومنابع البترول التي تتحدث عنها يا أكاديمي.! تذهب عوائدها المزعومة الى جيوب الجنود الأجانب وعوائلهم كتعويضات وتأمينات على حياتهم داخل قواعد عسكرية أجنبية في بلداننا العربية ونحن نقاسي الأمرين بحثاً عن حبة دواء.؟ وباقي العوائد النفطية تستورد فيها الحكومات العربية أسلحة وغازات مسيلة للدموع وادوات التعذيب في البحرين.! أو ترسل سيارات مفخخة تحرق الأرض والناس في العراق ثائراً لزميلهم المقبور.!! وبقية الأموال تتكدس في بنوك أوربا تنعش اقتصادهم وتنمي بلدانهم. أما نحن وبسبب الطغاة وأمثالك من أبواق الأنظمة الاستبدادية والدكتاتورية الرجعية فلنا الحصرم.؟؟؟

 هذا هو واقعنا الحقيقي وواقع أعلامنا المضلل بعد ان باع نفسه بثمن بخس.!! ببضع دراهم معدودات مرتمياً في أحضان الزعامات الكرتونية تبدد ثروات البلاد والعباد على ملذاتها الشخصية.؟ أما نحن الشعوب والجموع المنتظرة لساعة الوعد الإلهي. قرأنا الأحداث الجارية بصورة مغايرة تماماً لما روضوك عليه.؟ لمسناها ببصيرتنا وفطرتنا السوية الخالية من المناصب والأوسمة والنياشين. فقط ببصيرتنا وقلوبنا الندية أزددنا ثقة بحقيقة حلم واحد مفاده.؟ ان رأس الحكمة هو اليقين المطلق بفجر صادق وقريب يملئ الأرض عدلا وقسط بعد أن ملئت ظلماً وجورا...

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/تشرين الأول/2012 - 2/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م