الاتحاد الأوروبي وانهيار منطقة اليورو

مصطفى قطبي

لاشك أن أزمة اليورو تقلق العالم بأسره، نظراً لما للقارة الأوروبية واقتصاديات بلدانها من ثقل، ولكن النظرة للأزمة وتقييمها، وكيفية الخروج منها تختلف باختلاف الزاوية التي يُنظر منها للأزمة، والايديولوجية التي تحكم الباحث في هذه الأزمة. فالطبقة العمالية الأوروبية أرغمت على دفع و تسديد ثمن أزمة لم تتسبب بها أصلاً أو شاركت حتى في تأجيجها. والشعوب في أوروبا تثير اليوم احتجاجات كبرى ضد الخطط التعسفية المتبعة في بلدانهم لدرء خطر هذه الأزمة الاقتصادية والمالية.

متى وإلى أين ستزحف هذه الاحتجاجات وتنتشر، وماذا سيؤول إليه الأمر فيما لو عجزت الحكومات عن تبني قرارات تعسفية فرضتها الأسواق المالية؟ وماذا ستكون حيلة الدول أمام سياسات حتمية دخيلة غير قابلة للتطبيق بسبب هويتها الأجنبية؟ إننا في أتون المرحلة الثالثة لأزمة تغذت على سموم العجز المالي وتفشت كالأخطبوط لتنخر جذور الاقتصاد وعصب السياسة، مهددة بذلك الأجهزة الديمقراطية وآلياتها بانفجار سريع وشيك.

في إيرلندا كما في اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، استسلمت شعوب هذه البلاد لمصيرها الغاشم رغم القلق الكبير الذي اعتصر نفوسهم دون شك في هذه الفترة الزمنية، هؤلاء يدركون أن الأزمة المتفشية في بلادهم ليست أزمة رساميل عابرة بل أزمة عجز حاد عن وفاء ديون مترتبة، ولاسيما أنهم قد اكتشفوا أن الإجراءات الصارمة لدرء خطر الأزمة لا تجدي نفعاً في إطلاق الازدهار في الوقت الذي ينبغي فيه تجنب الإفلاس، كما أن الإجراءات الإسعافية تستدعي إجراءات أخرى أكثر صعوبة ومشقة عند تناولنا الأزمتين الماليتين المتضافرتين، الأزمة المالية العامة والأخرى الخاصة، يصح قولنا: إن الشعوب تواطأت على نحو كبير، واستفادت جداً من الأزمة الأولى، وبسبب اندفاعها الكبير للاستهلاك العام، حظيت بإفادة من عوائد الشركات غير الممولة، ما يرتب عليها الآن واجب الدفع والتسديد... هذه اللغة الدارجة اليوم ينبغي تلقينها للشعوب الأوروبية فيما لو تمتعت النخبة السياسية فيه بالجرأة الكافية، هذا الأمر لا يحول مع ذلك دون التصدي لكارثة التمويل الخاص المتهمة في التعجيل من دنو المصيبة الأكبر!‏

لم تدّخر الأزمة في منطقة اليورو سوى القليل من ركائز المشروع الأوروبي لمدة 60 عاماً تقريباً، والهوّة بين هدف النخبة والدعم الشعبي، تتوسع يوماً بعد يوم مع الاعتقاد السائد أن الدعم السياسي للتقشف دون النمو لن يستمر لمدة أطول. فهذه المسألة تهم من جهة ما مجموعة من القادة السياسيين مثل هؤلاء الموجودين في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، لمعاقبتهم على الفشل في اتخاذ ترتيبات فعالة لمواجهة الأزمة المالية، ومن جهة أخرى تهم مؤسسات أوروبا متضمنة البنك المركزي الأوروبي لمواجهة أزمة الثقة والشرعية التي تهدد وجودها.

التطورات السياسية الجارية في بعض دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تدلل على التحديات الهائلة التي يواجهها الاتحاد في ظل مقتضيات التغيير نحو مستقبل أفضل للقارة العجوز. فقد أدركت الشعوب الأوروبية أن السياسات العامة التي ارتأت حصراً خفض النفقات الاجتماعية وزيادة الضرائب لتقليص الديون لم تفضِ في النهاية إلى تسوية مشكلات الميزانية للدول الأعضاء في الاتحاد الواقعة تحت ضغط ديون باهظة... كما ولاحظت هذه الشعوب أن منطقة اليورو تغوص تدريجياً في هوة التقهقر، وعلى نحو خاص جداً تلك الدول البعيدة عن مركز أوروبا، والتي تأثرت أيما تأثر بارتفاع نسبة البطالة، وتقلّص قدراتها الإنتاجية، وضعف الطلب على شراء منتوجاتها الصناعية، وركود الاستثمارات، وتدهور الدولة الراعية...

وعلى ذلك أن البطالة ازدادت اتساعاً في نطاق الأيدي العاملة بنسبة 10.9 في المائة منذ دخول اليورو والتكنولوجيا، وساهمت في القضاء على القاعدة الإنتاجية المستحدثة، ولتجنب ذلك ينبغي العمل على تشكيل استراتيجية جديدة لمواجهة هذا التحدي الجديد داخل الاتحاد الأوروبي والذي يفترض به التخلي عن سياسة التقشف وعدم وضع حلقة في هذا الاتجاه، بل عليه تشجيع النمو وإعادة البناء التكنولوجي والاجتماعي بهدف تحقيق اقتصاد أوروبي متوازن، ويتوجب على الدول الأعضاء فيه تشجيع تطوير القطاعات الرئيسة التي من شأنها أن تكون أدوات محفزة للخروج من دائرة الركود والبطالة، وتحقيق قاعدة إنتاجية مبتكرة وتكنولوجيا متطورة.‏

واقع اليونان يفرض معطيات كثيرة على أوروبا من خلال حالة البلبلة والاضطراب التي أضحت واضحة على مستوى الساسة الأوروبيين، وهذا الأمر بدأ يهدد بتفكيك القارة العجوز والتي أمضت زمنا طويلاً في رص صفوفها وصولاً إلى ماهي عليه.‏ والأمر الآخر هو حالة الذعر التي تعيشها أوروبا من خطر انهيار وإفلاس إيطاليا والتي تعتبر أكبر ثالث اقتصاد في أوروبا، وبالتالي لابد من القول أنه بالمقارنة مع ديون اليونان تنطوي مديونية الاقتصاد الإيطالي على مخاطر أكبر بكثير، وبالتالي فإن عواقب إفلاس إيطاليا المحتمل يمكن أن تشكل ضربة قاصمة لمنطقة اليورو بكاملها، لأن خطر تلقي الضربة بعد ذلك لفرنسا يصبح حالة لابد منها، والتكهنات تشير إلى أن الاقتصاد الألماني هو الأكثر تماسكاً فيما يجري، ويبدو وبنظر بعض المحللين أن ألمانيا ستضطر لوحدها تولي إنقاذ باقي البلدان الأوروبية المكبلة والمثقلة بالديون، ويوجد رأي آخر أنه يمكن للخلاص أن يأتي عبر الإصدارات النقدية الكبيرة، وهذا بحد ذاته يجعل الرساميل تهاجر من أوروبا وبشكل متسارع.

كل ما تحدثنا عنه يجعلنا نرصد ما بعد شطب قسم من الديون اليونانية، إضافة إلى تبعات ضخ البنك المركزي الأوروبي المليارات وربما التريليون لتعزيز العملة الأوروبية. وهذا يجعلنا نتابع الحديث عن معدلات التضخم وتأثيرها المباشر وغير المباشر على أوروبا عموما، وكل ذلك يعطي مؤشرات حول إلى أي جهة سيتم نزوح إن صح التعبير الرساميل والاستثمارات الخاصة الكبيرة في حال هروبها من منطقة اليورو وما تبعات ذلك إن تحقق وانعكاسه على أسعار الخامات وفي مقدمتها البترول !؟‏

''السوق في أوروبا قصيرة على نطاق واسع''، هكذا صرّح أحد المتداولين في صناديق التحوط ومقرها في لندن: وأضاف، ''هناك شعور بأنه قد فات الأوان وعلى وجه الخصوص، لاتخاذ خطوات مثل خطط ضمان الودائع لمساعدة اليونان أو إسبانيا''. وبطبيعة الحال، بالنسبة للخبراء العاملين في القطاع المالي، فمن السهل أن نتوقع وضعاً أسوأ عندما تظهر على الشاشات أمامك الخسائر المستمرة وطوال اليوم... وقال بعض الخبراء: على الرغم من أنه سيكون من الخطأ أن نقلل من عزيمة الأوروبي بشأن الصدمة من خلال تدابير مثل توحيد سندات اليورو، وتشديد الرقابة المشتركة.

''الرهان الدائم من قبل المستثمرين على الدوام هو أن الاستجابة السياسية من أوروبا لن تكون كافية للحفاظ على الدول في منطقة اليورو''، كما قال Rediker، وهو عضو سابق في المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي الذي هو الآن في مؤسسة أمريكا الجديدة في واشنطن. وأضاف: ''لكن التدابير التي تجري مناقشتها اليوم ـ لم تكن حتى على طاولة المفاوضات منذ عامين ـ تنسيق تنظيم العمل المصرفي، وضمانات الودائع المصرفية وسندات اليورو''.

فشعوب أوروبا تدرك إذن أن هذه السياسات قد أفضت إلى شلّ عصب الحياة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، مع توقعهم لتعرض الاتحاد ''لأزمة خانقة'' بفعل الركود والكساد والتدهور في مختلف مناحيه الاقتصادية والمالية والاجتماعية.‏ فمثل هذه التطورات الجارية لابد وأن تقود إلى انحلال منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي معاً، كما وتشير التطورات إلى هزيمة كبرى للمشروع الأوروبي القائم على تعزيز التكامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي (كما فسرّه بول كروغمان في 2012).‏

فإذا ما أجبرت اليونان، الحلقة الأضعف، على الخروج من الاتحاد النقدي، فهذا من شأنه أن يقوي العملة في الواقع، وستكون النتيجة فوضوية جداً بالنسبة لليونان وستقوم البلدان المدينة الأخرى، بمراقبة الحطام، واتخاذ كل ما يلزم لتجنب نفس المصير، مخفضة من عجزها بسرعة أكبر و مسرعة الإصلاحات الأخرى. وعلاوة على ذلك، لتجنب خطر التداعيات في أماكن أخرى في منطقة اليورو، سيربط الأوروبيون الأقوياء بين ''خروج اليونان'' والزيادات الحادة في حجم جدران الحماية المالية والمصرفية، وسيسرعون التكامل المصرفي و المالي. ومن خلال إخراج اليونان، يمكن أن تخرج منطقة اليورو أقوى.

لاشك أن الأزمة في أوروبا قللت الصادرات وأرباح الشركات في الولايات المتحدة، وأضعفت معدلات التوظيف وثقة المستثمرين، وربما خفضت 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. ويرى بعض المنظرين الاقتصاديين أن انهيار اليورو من شأنه أن يؤدي إلى تجدد الركود في أمريكا خلال العام المقبل ومعدل بطالة فوق الـ 9 في المائة على الأقل خلال عام 2013.

ولكن الاقتصادات الناشئة في العالم، وعلى رأسها الصين والهند، التي تعادل نصف الاقتصاد العالمي والتي ستواصل النمو بنحو 6 في المائة سنوياً في المستقبل المنظور، وهذا المعدل الأبطأ من ذي قبل، سيبقي الاقتصاد العالمي ـ بما في ذلك اقتصاد الولايات المتحدة ـ مهتزاً لبعض الوقت، لكن الولايات المتحدة ستجني فوائد هامة من متاعب أوروبا، لأن الأزمة المالية العالمية حولت رأس المال العالمي إلى الدولار، وبخاصة سندات الخزينة، مبقية أسعار الفائدة منخفضة في الولايات المتحدة، ما سيفرز تالياً انتعاشاً تدريجياً للسكن والطلب على السلع الاستهلاكية. ولذلك فإن احتمال استمرار أوروبا في ارتباكها سيحمي أمريكا، وانتخاباتها، من تداعيات اقتصادية كبرى.

هذا هو جوهر المأزق في منطقة وجود اليورو: كيف يمكن أن تلزم دافعي الضرائب في البلدان الشمالية الدائنة مثل ألمانيا بتوفير الأموال اللازمة لدول مثل اليونان وإسبانيا التي هي ليست على استعداد لقبول فقدان السيطرة السيادية على بنوكها وميزانياتها، التي من شأنها أن تكون نتيجة لمثل هذه المساعدة.

لاشك أن الوسط السياسي قد تم تقييده في كل البلدان المدينة، وأن الحكومات الحالية في كل هذه البلدان واجهت الرفض، ولكن، وفي واحد من أكثر المظاهر المذهلة لأزمة اليورو، تم رفض البدائل المتطرفة من قبل اليسار واليمين على حد سواء. فقد بات الوضع الاقتصادي في أوروبا رهينة بيد السياسيين الذين يحاولون درء انهيار منطقة اليورو انطلاقاً من مصلحتهم السياسية، ومن متطلبات بقائهم في الساحة، وفي مثل هذه الظروف يواجه المركزي الأوروبي خيارين أحلاهما مر، فإما أن يواصل إصدار مئات المليارات الجديدة من اليورو أو يترك الدول الأوروبية وجهاً لوجه أمام سلسلة من حالات الإفلاس، وإذا كان المستثمر في السابق يقدم بجرأة على شراء سندات الديون الائتمانية الأوروبية لقناعته بوجود ضمانة من احتمال إفلاس الدولة، فإن شطب ديون اليونان من دون تعويضات تأمينية جعل سوق الديون في أوروبا بالنسبة للمستثمرين الخاصين أشبه بحقل الألغام، وبذلك حصلت سابقة خطيرة مفادها أن الاستثمارات الكبيرة في سندات الدولة في أوروبا يمكن أن تواجه مجازفات لا تعود إلا بالخسائر، ولذا يبدو أن الأمر الطبيعي توقع هروب الرساميل من أوروبا لجهة أسواق الخامات وبالدرجة الأولى لجهة سوق النفط، ولابد من القول أن هذه الحلول الإسعافية التي يتم التعامل بها من قبل أوروبا لا يمكن أن تحل المشكلة بل على العكس قد تساهم في انهيار منطقة اليورو، والأزمات التي تحاول أوروبا تصديرها للعالم عبر أشكال مختلفة لن تعطي نتيجة إيجابية بالنسبة لها.

صحيح، أنه ليس للاتحاد الأوروبي دستور، لكن لديه مؤسسات هامة وشرعيتها عرضة للخطر، وأهمها البنك المركزي الأوروبي ـ هذه المؤسسة التي عملت أكثر من غيرها من المؤسسات على المستوى الأوروبي لتحقيق استجابة فعالة للأزمة المالية، ومع ذلك مصداقية ولايته في تقديم الأولوية لاستقرار الأسعار الآن معرضة للمساءلة كما أن الثقة الشعبية في البنك المركزي الأوروبي في أدنى مستوياتها التاريخية. والشيئان الوحيدان اللذان يقفان بين البنك المركزي وإجراء إصلاحات هما: إيمان الاقتصاديين الأوروبيين في الاستقلال السياسي للبنك، والاهتمام الواسع النطاق بأنه ليس من شأن أي مؤسسة سياسية ألمانية، أو البرلمان أو البنك المركزي أو المحكمة الدستورية أو الرأي العام تحمل التغيير في ولاية البنك المركزي الأوروبي.

اِن الإفراط في الحلول الترقيعية، جعل أغلب الشعوب الأوروبية التي تعاني كل أنواع المصائب والشرور دون أن يحق لها بالتفوه ولو ببنت شفة رهائن حقيقيين، وأكثر ما تجلى ذلك في قانون (وول ستريت) الذي فرض نفسه على الرئيس الأميركي ''أوباما'' وبقية العالم. إذ يمثل أكبر تهديد للدول التي فقدت كامل شرعيتها عندما فرضت نظاماً اعترف به بالإجماع أنه نظام جائر بامتياز!

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 17/تشرين الأول/2012 - 2/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م