يردد في عدد من المساجد أن من لغى فلا جمعة له وإن قال لصاحبه أنصت.
ولعله إن كذب كان ذنبه عظيماً. و"من لغى" تشمل عند قائليها العالم
والجاهل إذ تبطل صلاة اللاغين عموماً. فما بالك من "إمام" لغى وافترى؟
أليس هذا بموجب لبطلان عدالته وبالتالي إمامته!
لقد خرج فضيلة الشيخ المصري علي جمعة يوم الثلاثاء الماضي في ساحة
يفترض أن تكون ساحةً للعلم والمعرفة، وليس للإفك ولغو الحديث. في
محاضرة ضمن سلسلة المحاضرات التي ينظمها مجمع البحوث الإسلامية الأزهري
حذر من الفكر الشيعي محاولاً ايهام العوام بأن قضية التشيع في مصر هي
مسألة اجندة خارجية تهدف إلى تحويل السنة إلى شيعة، كلام ليس لمثل
قائله فيه من معقول الذريعة سوى متاجرة بالدين والشريعة.. كلام ألقاه
في قلبه التحالف الإخونجي العسكري القائم على ممارسة التوظيف الديني
والمذهبي لإحكام القبضة السياسية على مصير ومقدرات شعب مقهور. شعب دمره
توماهوك جمعة والقرضاوي والطنطاوي والزرقاوي بما لا يرحم ظاهراً إلا
فيالق العقل الخاوي في بلد عمت فيه "البلاوي". شعب انهك من تدهور الصحة
والتعليم وغياب العيش الكريم. شعب طيب يأبى الأفاكون من الإسلامويين
والعسكر إلا أن يستغلوا حالة التدين والإيمان عند كثير منه لجره إلى
حيث النصب والحرمان.. إلى حيث لهم المال والبنيان وللشعب صكوك الغفران.
فهلا وقفنا وقفة مع سندباديات عالم من علماء آخر الزمان؟
لا شك أن ذا الحياتين يملك العيش بوجهين، بل بدينين أحياناً.
فالبارحة يفتخر فضيلة الشيخ بتتلمذه على يد العلامة المغربي عبد الله
بن الصديق الغماري الذي قال للألباني:" التشيع الذي نحن فيه خير من
النصب الذي أنت فيه" في مسلسل رده على بدعه وضلالاته. اليوم يقول فضيلة
الشيخ للشيعة مردداً ما يدرج عند فراخ الألباني " أن المصريين نشأوا
ودرجوا ولا وجود لمذهب الشيعة في مصر" وأن "خططكم -أي خطط الشيعة-
لتحويل أهل السنة إلى شيعة في مصر لن تفلح أبدًا"1. وهذا الشيء في حد
ذاته تعبير عن وجود حالة انفلات وسيبة في المجتمع المصري بحيث ترى شيخاً
تبوأ ما شاء الله من المناصب المدعومة من النظام السابق والحالي وتربع
على كرسي الإفتاء الجمهوري يلفق تهماً ضد طائفة دينية في بلاده من دون
أي دليل قانوني يذكر. انها السيبة بعينها. فهب حتى لوكان فضيلة الشيخ
جمعة قد ثبت عنده ضلوع أفراد أو تنظيم - وهذا ما نناقشه في الإفتراض
تنزلاً-، فهذا لا يمنحه أي حق قانوني أو شرعي لتوريط كل الطائفة بسبب
عمل البعض منها. فجمعة لا يملك الدليل الشرعي ولا يملك الدليل القانوني
وكلامه يعبر عن توجهات الذين يدفعون له الأجر. لا شك أن فضيلة الشيخ
يعلم مدى أهمية إقامة الحجة ويعلم أن الإسلام لا يفرض بالقوة ناهيك عن
المذهب. وعلمه بهذا ومخالفته له يدخله مدخل وعاظ السلاطين الظالمين
ويجعله تمثلا للحرافيش الذين كانوا يرتزقون من ببيع الأحاديث لمعاوية
بن أبي سفيان في الماضي، مع فارق يكمن في بيع الحرافيش الجدد للخطابات
الجاهزة عوض الروايات الجاهزة.
أليس فضيلة الشيخ جمعة هو ذاك الذي كان قاب قوسين أو أدنى من أن
يقول للمصريين أن الله إئتمن على الوحي حسني مبارك لولا الفارق الزمني؟
أليس فضيلته هومن أضاف آل حسني مبارك إلى العشرة المبشرين بالجنة في
إحدى القصص "المقدسة" يوم قال على قناة المصرية بعد وفاة أحد أحفاد
حسني مبارك:" هو أيضا -يعني حسني مبارك- الحكيم، هو رب الأسرة المصرية،
هو القائد الفارس النبيل الذي درب وعلم ومنح هذا البلد الكثير، والكثير
والحمد لله رب رب العالمين. أنا أتوجه إلى محمد حسني مبارك رئيس
الكمهورية -يعني الجمهورية- بخالص العزاء وأقول له اننا جميعاً نشاركك
في حزنك، لا نستطيع إطلاقاً أن نقول للإنسان لا تحزن، انما نستطيع أن
نقول حول هذا الحزن كما عودتنا في نفسك، كما عودتنا في حياتك وتاريخك
إلى طاقة، طاقة من الحب، طاقة من العطاء، طاقة من العمل كما كان وعبر
التاريخ العلماء والحكماء والآباء..وأنت منهم"، إلى أن قال أن جنازة
حفيد مبارك كشفت له "أن الولد من أهل الجنة " وأنه يأخذ بيد علاء مبارك
إلى الجنة 2. هكذا يرى العلامة الفهامة أن أحد أشرس زعماء المنطقة
وأفسدهم من العلماء والحكماء مزكياً فساده وظلمه وانحرافه في مناسبة
تلفزيونية وفي يوم قضاه مع أسرة الرئيس منشغلاً بالجنازة بما يعطيه ألف
سبب للاعتذار. لكن طوعية القدوم ومبالغته في مدح الرئيس المخلوع لا
مبرر له سوى ضلوعه مع الرئيس فيما كان عليه. ولعل ضلوعه بنفس الطريقة
مع التحالف العسكري الإخونجي هذه الأيام يجعلنا أمام شخصية "ذي
الحياتين" الذي يبايع من في الحكم أصبح وليس من بالحكم أصلح.
لقد أعطى فضيلة الشيخ لمبارك وآله الحق في الحزن وقال بعدم إمكان
منع الجد من الحزن إطلاقاً على حفيده. وفي هذا تمظهر لمخازي العقيدة
الصكوكية التي تبني شرعها على أساس نفعي. فالرئيس صاحب الأجر الشهري
لمولانا الشيخ المفتي له أن يحزن على حفيده والمواطن الشيعي المصري ليس
له أن يحزن على حفيد الرسول ص. فها هو في ثلاثائه المشؤومة يحرض على
الشيعة بعد أن دعم حبسهم لمجرد عدم ايمانهم بتسييس الدين تحت السقيفة.
لا عجب أن ترى من مارس تداول الدين في البورصة السياسية ينافح عمن مارس
تداوله من أجل الدنانير والقطع الأرضية؟ ثم كيف لا يخشى المنتفع من
بروتوكولات الزمن السقيفي من ثقافة التشيع التي تكشف مؤامرات الأعراب
التي بدأت بمحاولة اغتيال الرسول يوم العقبة ولم تنتهي لا عند إحراق
بيت بنته ولا عند ذبح حفيده. لا ولم تنتهي حتى عند تدمير مراقد أهل
البيت في الكيان السعودي وتفجير مراقد الأئمة في العراق وملاحقة كل
مخلوق يدين بدين آل محمد على الجغرافيا الأعرابية. فضيلة الشيخ أعرابي
يشارك بنشاط في مشروع تخليد الزمن السقيفي بمعاوية جديد وهارون جديد
وسفاح جديد وحرافيش جدد.
لوكان عند فضيلة الشيخ جمعة من المودة والوفاء لنبي الإسلام ص نفس
ما ظهر عنده من مودة ووفاء لحسني مبارك لكان قال كلمة في إحدى خطبه
المولوية العديدة عن إبن الحسين الرضيع القتيل بكربلاء مثل ما ما قاله
عن حفيد مبارك وبنفس الخشوع.. لكن خطبه كلها وإن خالفت في النص خطبة:"
الحمد لله الذي اشبع بطني بعد أن كنت أتقلب جوعا" المشهورة إلا أنها
تعد من نظيراتها في الوقع والتأثير. والمفاد هو إضفاء الشرعية على
الحاكم الظالم إنطلاقاً من المنبر الديني مقابل إشباع البطن. انهم
"الخبزيون" من الناس كما يقول المغاربة.
ومن جملة أكاذيب فضيلته ما نسبه للشيعة من قول بأن الله عندهم يغير
رأيه في عقيدة البداء. وهذا كذب ينبي بجهل مخيف لمشايخ الطائفة السنية
بالعقائد الشيعية. تكاد تظن أن الشيخ واضرابه يأخذون العلم من الإشاعات
الشعبية وليس من كتب العلم. فيا لفضيحة سلطان الإفتاء عند قوم جهلوه.
البداء الذي فسره الشيخ معتمداً على كلام الحرافيش ليس يعني تغيير الله
لرأيه، بل هو تغيير حكم ابداه لنا مع علمه بعاقبة الأمور. فمثلاً قد
يكون المرء في طريقه إلى الموت كما يبدو لملك الموت في يوم محدد ليقوم
بصلة الرحم فجأةً فيأمر الله ملك الموت بتأجيل اليوم الذي حدده الله
له. فالله لم يغير رأيه والعياذ بالله وهو يعلم مسبقاً بما سيحدثه
العبد وما سيترتب عنه من ثواب الإطالة في العمر. لكن الذي لم يكن يعلم
هو العبد والملك. والبداء عقيدة أكثر المؤمنين بها أولئك الذين ينكرون
عليها. فكيف يسأل المسلمون الله أن يطيل عمر المدعو له في قولهم: "أطال
الله عمر فلان" إذا كانوا لا يعتقدون بالبداء! إذا كان العمر محدد لا
أمل في إطالته فلما الدعاء بالمستحيل! ثم ماذا نقول عن الأحاديث السنية
المستفيضة التي تقول أن صلة الرحم تطيل العمر ! أليس هذا بدليل على أن
جمعة أجنبي حتى عن الإسلام وتقاليد الأمة !
ومما برر به فضيلة الشيخ جمعة تحذيره من الشيعة كذلك أشياء أخرى
كلها ضرب منه بأخماس لأسداس وحشو وتدليس على الناس، نتطرق لما تيسر
منها بإختصار. فلما يثير قول أن الشيعة يقولون بتحريف القرآن لأن الشيخ
النوري الشيعي الف كتاب "فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب"، ليثبت
فيه تحريف القرآن الكريم على حد زعمه، فإنه على فرض تأليف شيخ شيعي في
الماضي مثل هذا الكتاب، فيبقى الشيعة أبعد من القول بتحريف القرآن من
السنة. فإذا كان في تاريخ الشيعة شيخ قال بالتحريف فإن أهل السنة رووا
في صحاحهم مثل البخاري ومسلم روايات تثبت وقوع التحريف في القرآن.
ومنها ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "إن الله بعث محمداً بالحق،
وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها
ووعيناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن
يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة
أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال
والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل والاعتراف. ثم إنا كنا نقرأ من
كتاب الله: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم
أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم" (صحيح البخاري - كتاب الحدود: ج8
ص 28). ولعل أطرف ما رووه أن دجاجة عائشة أكلت بعض آيات القرآن تحت
سريرها فأذهبتها في حديثها المشهور:
"لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت
سريري، فلما مات رسول الله وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكله"! (مسند
أحمد ج6 ص 269). فهل فضيلة الشيخ نسي أن القول بالتحريف من صحاح طائفته
خرج؟
ومن لغو فضيلة الشيخ اتهامه للشيعة بإخفاء مذهبهم فيما يعرف بالتقية
وادعاؤه أن أهل السنة لا يقولون غير الحق، والحق أن التقية درسناها في
مقررات التربية الإسلامية ضمن مقرر صادر عن مؤسسات سنية مالكية رسمية
في المغرب حيث كان يدرس لنا أن الكذب يجوز للإصلاح بين الناس. فكيف لا
يجوز للشيعي الذي إذا أفصح عن مذهبه قتل! فضيلة الشيخ بكلامه هذا يرسم
صورة واضحة عن اعتقاده بسمو العلاقة على الحياة وهذا في أصله يرجع إلى
العقلية القبلية الأعرابية التي تسمو فيها القبيلة على كل إعتبار، بحيث
يصبح الحق في الحياة رهيناً لمنظومة الروابط القبلية. أكذب من أجل
القبيلة ولا تكذب من أجل الإفلات من الهلاك.. هذا ملخص ما لغى به شيخنا
في هذا الباب.
ليس لدي شك أن ورقة التوت قد سقطت عن شيوخ التطرف الأنيق والظلامية
الرسمية في مصر. فذو الحياتين من شيوخ سدة الحكم باعوا الصكوك لحسني
مبارك وآله، ولما رأوا نزاعاً غلبت فيه طائفة من الجيش على آل مبارك،
هرولوا للتأقلم مع الواقع الجديد وإعادة بيع الصكوك وتداول الأسهم
الدينية في بورصة التحالف السياسي بين الإخونج والعسكر. والتفاؤل لا
يزال قائماً في أن تهيء تكنولوجيا التواصل الحديثة أجيالاً من عوام
أفقه وأعلم من المتفيقهين الكسالى. فلتكن الحرافيش على يقين بأن كلامهم
اليوم لا يصل الى الناس دون أن يجرح أو يعدل.
.................................
1. مرفت الشيخ، أخبار الوادي، الثلاثاء 9 اكتوبر
2012.
2. قناة المصرية، شريط مسترجع من فضاء اليوتوب
10/11/2012. |