حلب، ومنها النبأ الأخير

عريب الرنتاوي

ثمة من يُقدر أعداد "المسلحين" في حلب بحوالى 20 ألف مقاتل، ربعهم (5000) مقاتل عربي ومسلم من "القاعدة" ومختلف مدارس "السلفية الجهادية"، يتوزعون على 17 حي من أحياء المدينة، يغلب عليها طابع "العشوئيات" المكتظة بالسكان، وتشكل ما بين ربع إلى ثلث مساحة المدينة البالغة مع ضواحيها حوالي الـ800 كليومتر مربع، أسلحتهم تراوح ما بين الخفيف والمتوسط، أما مصادرها فمتعددة، لكن السعودية وقطر، هما المانحتان الكبريان للمال والسلاح للمعارضة السورية المسلحة.

بعد أزيد من شهرين على إندلاع "أم المعارك"، يجد النظام صعوبة في "الحسم" واستئصال شأفة معارضيه، وبرغم الحشود العسكرية المتتالية، وما يُشاع عن انخراط مباشر لإيران وحزب الله في معركة حلب، وما قيل ويقال عن قيام الأسد بالإشراف شخصياً على هذه المعركة، إلا إن النظام يواجه مقاومة شديدة وتبدو مهمته في استرجاع حلب "شبه مستحيلة"...كل ما حصل حتى الآن، أن النظام حقق "تقدماً" لكنه لم يسجل اختراقاً على جبهات القتال ومحاورها.

في المقابل، تجابه المعارضة المسلحة وداعموها العرب والأتراك والدوليين، استعصاءً جدياً في "الحسم"، وإذ تراجعت الرهانات بقرب إسقاط النظام في دمشق، فإن الرهان على إسقاط حلب أو "تحريرها" لا يبدو أكثر واقعية من الرهان الأول، برغم جميع "الوعود الجازمة" و"التهديدات العنترية"...سيما بعد أن ثبت للمعارضة أن "المجتمع الدولي" ليس في وارد التدخل، وأنه لا يجب عليها أن تأخذ الوعود والتعهدات التركية على محمل الجد، فأنقرة تتحدث بأكثر مما تفعل، وهذا ما تكشفت عنه الأزمة السورية على أية حال.

مثل هذا التوازن الدقيق في القوى، الذي يحكم مسارات الحرب في سوريا ويقرر إيقاعها، يفتح الباب أمام "التسويات" و"الصفقات"... لكن من السابق الجزم بأنها باتت حتمية، فالمعركة مفتوحة على شتى الإحتمالات، وسياسة "حافة الهاوية" التي تنتهجها أنقرة ضد سوريا على سبيل المثال، قد تفلت عن السيطرة، وقد يجد البلدان والجيشان، نفسيهما في "قعر الهاوية" بالضد من رغبتهما في البقاء على "حافتها"، وعندها ستدخل الأزمة طوراً نوعياً جديداً.

وإذا كانت "التسويات" و"الصفقات" تنتظر تصاعد الدخان الأبيض من "مدخنة" الإنتخابات الأمريكية مطلع الشهر المقبل، فإن مضمون هذه "التسويات" وميزان الربح والخسارة فيها، سوف تقرره "أم المعارك" الدائرة في حلب...فإن نجحت المعارضة في انتزاع المدينة من أيدي القوات النظامية، دانت لها مناطق الشمال والشمال الغربي السوري، وصارت "المنطقة العازلة" و"الملاذ الآمن" أمراً واقعاً، بل وقد يمهد ذلك لسقوط سريع للنظام في قلب دمشق، وفي أسوأ السيناريوهات من منظور المعارضة، سيكون في حكم المؤكد أن الأسد لن يبقى في سوريا أبدا.

وإن قُدر للنظام أن يستعيد ثاني أكبر المدن السورية، وعاصمة البلاد الثقافية والتجارية والمالية، أمكن له مواصلة "حرب التطهير والتطويق" التي يشنها ضد خصومه على امتداد الخريطة السورية، وسترتفع قدرته التفاوضية بشكل غير مسبوق، وسيترفع معه رهانه على البقاء، نظاماً ورئيسا.

عند هذه النقطة "الحرجة" بالذات، يأتي التدخل التركي، سياسياً وميدانياً، في محاولة محمومة لاختزال الزمن واستباق التطورات وتحديد وجهة سيرها.... ميدانياً يتوالى قرع طبول الحرب في أنقرة يوماً إثر آخر، وباتت الشكوك تساور المراقبين عن "مصدر" قنابل "المورتر" التي تسقط على تركيا والأهداف الكامنة وراء إطلاقها والجهة التي تنفخ في جمر التصعيد بين البلدين، حتى أن مراقبين لا يستبعدون أن تكون من عمل الإستخبارات التركية أو بعلمها، ودائما بهدف حشد الرأي العام، وتبرير الخطوات اللاحقة التي قد تجد أنقرة نفسها عازمة على اتخاذها.

تركيا تستعجل سقوط حلب في أيدي المعارضة، إن تحقق لها ذلك، فلن تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن الدولي، ولن تنتظر ضوءاً أخضر من "الناتو" للدخول في عمق الأراضي السورية...المسألة ستصبح من باب تحصيل الحاصل... وسيكون لتركيا ما أرادت منذ اندلاع هذه الأزمة، وستتخلص حكومة العدالة والتنمية من جملة من الأخطار والتهديدات والأعباء المباشرة، من "اللاجئين" مروراً بتهريب السلاح والمسلحين وانتهاء بالقلق الوجودي من صعود "الكيانية الكردية" في شمال شرق سوريا.

لكن تركيا، غير الراغبة في حرب شاملة مع سوريا، وغير القادرة على شنها إن رغبت، بفعل جملة من الأسباب الداخلية والإقليمية والدولية التي لا مجال لذكرها هنا، ليست متأكدة بعد من فرص نجاح "سيناريو" كهذا، سيما بعد أن "طاشت" رهاناتها" و"حساباتها" بالجملة طوال الأشهر الفائتة...من انتظار الإنهيار السريع لنظام الأسد، إلى التدخل الدولي الآتي على الطريقة الليبية.

لهذا، وجدنا أنقرة تفتتح مساراً سياسياً موازياً لمسار التصعيد  العسكري وقرع طبول الحرب... فالإعلان التركي بأن السيد فاروق الشرع، بـ"عقلانيته" و"نظافة يديه" من دماء السوريين، يبدو مؤهلاً تماماً لقيادة مرحلة الإنتقال السياسي في سوريا... هنا نلحظ تواضع المطالب والأهداف التركية وتراجعها... من إسقاط النظام إلى "تعديله"... من البحث عن نظام جديد يلعب "إخوان سوريا" و"المجلس الوطني" و"الجيش الحر"، دوراً مقرراً وحاكما فيه، إلى إبقاء النظام والإكتفاء باستبدال رأسه، برأس جديد - قديم، ظل طوال أربعين عاماً، ركناً ركيناً لنظام الأسد و"الأسدية" و"حزب البعث".

أنقرة تعاني فعلاً من "تخبط" و"ارتباك" كما قال وزير الإعلام السوري....ولكنها ليست الوحيدة التي تعاني من ذلك...جميع أطراف الأزمة السورية وحلفاؤهم الإقليميون والدوليون، متورطون في "التخبط" و"الإرتباك" كذلك، وسيظل الحال على هذا المنوال، أقله حتى نهاية العام الجاري، إلى أن تضع المعركة على حلب والمعركة على البيت الأبيض في واشنطن، أوزارهما.

www.alqudscenter.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 11/تشرين الأول/2012 - 24/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م