يكثر اللغط الآن وعلى هامش الدستور (الوهابي) الذي يجري طبخه في
الخفاء حول تعريف الحريات العامة ومن ضمنها بالقطع حرية الاعتقاد التي
يرغب (وكلاء الله الوهابيون الأمويون) مصادرتها لصالح فهمهم الضيق
والغبي للإسلام.
ولأن كلمة (حرية) لم ترد في القرآن الكريم فإن هؤلاء الأغبياء
يعتقدون أن حرية الاعتقاد هي منحة تمنح أولا تمنح للناس وليست حقا
أصيلا من حقوقهم لا يمكن لكائن من كان أن يصادرها أو يتغول عليها أو
يضع لها سقفا، فما بالك إن كان هذا السقف قفصا من تلك الأقفاص التي لا
تختلف شيئا عن تلك التي في حديقة الحيوانات.
إنها حقوق أصيلة تترجم إلى حريات.
إن مفهوم (الحريات) هو مفهوم متحرك يتعلق بالفضاء الخارجي للإنسان
وهو بذلك يختلف عن مفهوم الحقوق الذي ينطلق من داخل الإنسان ويحيط به
ومن ثم فهو ليس منحة تمنح يمكن تقييدها وفقا للمزاج السياسي والاجتماعي
ناهيك عن المزاج النفسي الذي تشكله وسائل الإعلام الأموية المرتزقة.
لذا فنحن نعتقد أنه من المتعين علينا أن نستخدم مصطلح الحقوق
المتبادلة كما أكدها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وليس
مصطلح الحريات الفضفاض.
يقول الإمام علي بن أبي طالب (أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ
لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ
الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأشياء
فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَ يَجْرِي لأحَد
إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ،
وَلَوكَانَ لأحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ
ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى
عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ
قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ،
وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلاً
مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُومِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ.
ثُمَّ جَعَلَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا
لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْض، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي
وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا
إِلاَّ بِبَعْض.
وَأَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ ـ سُبْحَانَهُ ـ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ
حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ، وَحَقُّ الرَّعِيَّةِ، عَلَى
الْوَالِي، فَرِيضةً فَرَضَهَا اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ لِكُلّ عَلَى
كُلّ، فَجَعَلَهَا نِظَاماً لألْفَتِهِمْ، وَعِزّاً لِدِينِهِمْ،
فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ، وَلاَ
تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ.
فَإِذا أَدَّتِ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي حَقَّهُ، وَأَدَّى
الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا، عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ
مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ
عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ
فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأعداء.
وَإِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا، أَو أَجْحَفَ الْوَالِي
بِرَعِيَّتِهِ، اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ
مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الاِْدْغَالُ فِي الدِّينِ، وَتُرِكَتْ
مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الأحكام،
وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ
عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الإبرار،
وَتَعِزُّ الأشرار، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ الْعِبَادِ.
فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذلِكَ، وَحُسْنِ التَّعَاوُنِ
عَلَيْهِ، فَلَيْسَ أَحَدٌ ـ وَإنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَى اللهِ
حِرْصُهُ، وَطَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ ـ بِبَالِغ حَقِيقَةَ
مَا اللهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ، وَلكِنْ مِنْ
وَاجِبِ حُقُوقِ اللهِ عَلى العِبَادِ النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ
جُهْدِهِمْ، وَالتَّعَاوُنُ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ.
وَلَيْسَ امْرُؤٌ ـ وَإنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ،
وَتَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ ـ بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى
مَا حَمَّلَهُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ. وَلاَ امْرُؤٌ ـ وَإِنْ صَغَّرَتْهُ
النُّفُوسُ، وَاقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ ـ بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلى
ذلِكَ أَو يُعَانَ عَلَيْهِ.
فأجابه (عليه السلام) رجل من أصحابه بكلام طويل، يكثر فيه الثناء
عليه، ويذكر سمعه وطاعته له.
فقال(عليه السلام): إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلاَلُ اللهِ فِي
نَفْسِهِ، وَجَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ، أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ ـ
لِعِظَمِ ذلِكَ ـ كُلُّ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ
كَذلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَطُفَ
إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَى
أَحَد إِلاَّ ازْدَادَ حَقُّ اللهِ عَلَيْهِ عِظَماً، وَإِنَّ مِنْ
أَسْخَفِ حَالاَتِ الْوُلاَةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ، أَنْ يُظَنَّ
بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ، وَيُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ. وَقَدْ
كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الإطراء،
وَاسْتَِماعَ الثَّنَاءِ، وَلَسْتُ ـ بِحَمْدِ اللهِ ـ كَذلِكَ، وَلَو
كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذلِكَ لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لله
سُبْحَانَهُ عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُو أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ
وَالْكِبْرِيَاءِ. وَرُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ
الْبَلاَءِ، فَلاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاء، لإخراجي نَفْسِي
إِلَى اللهِ وإِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ
مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ
تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ
تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ
الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا
بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام
لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَو
الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ
عَلَيْهِ.
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَو مَشُورَة بِعَدْل،
فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أخطئ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ
مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُو
أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ
لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ
أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا
عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا
الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى).
ومن المعروف أن الامام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الاشتر قد
طلب إليه أن يوفر للناس اكبر قدر ممكن من حرية البيان، وذلك في قوله:
(واجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك حتى يكلمك متكلمهم
غير متعتع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في غير موطن:
لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع.. ثم احتمل
الخرق منهم والعي، ونحّ عنهم الضيق والأنف).
ما هي الديمقراطية؟؟
يقول الدكتور (حسن الزين) في كتابه (الإسلام والفكر السياسي المعاصر)
تحت عنوان (الخلاف حول ماهية الديمقراطية وأهدافها) أن هناك مدرستان
مختلفتان تتواجهان على جبهة تحديد ماهية الديمقراطية الأولى تفسر
الديمقراطية على أنها محض آلية للحكم عارية من كل منظور اجتماعي أو قصد
تاريخي أما الثانية فترى فيها مشروعا مجتمعيا يرمي إلى تأمين الارتقاء
الشخصي والجماعي للمواطنين كافة. ومن هذا المنطلق ميز فرناندوهنريك
كردوزو بين الديمقراطية كقيمة وميز فدريكومايور بين الديمقراطية
كممارسة انتخابية وشكل للحكم وبين الديمقراطية كنمط للحياة وميز كلاوس
أوفي بين الديمقراطية كعتلة للتقدم والنموذج الليبرالي للديمقراطية
كديمقراطية إجرائية فالديمقراطية الإجرائية تتحدد بأنها قاعدة للعبة
السياسية أو بأنها منظومة من المؤسسات وهدفها محدد وهي أن تقي الأفراد
والمجتمع أخطار الديكتاتورية والاستبداد على أن ضمانة حقوق كل فرد تنبع
من احترام القواعد والإجراءات القانونية التي تمنع كل عسف وسوء استخدام
للسلطة من جانب الدولة نفسها) ص 60-61 (الكتاب السابق).
إذا فالديمقراطية من وجهة نظرنا هي أكثر من كونها أداة لتداول
السلطة وهي في حد ذاتها تشكل جزءا هاما ورئيسا من منظومة القيم
والأخلاقيات التي ينبغي للمسلمين أن يتمسكوا بها في وجه كل الترهات
والخرافات التي أطلقها وروج لها وعاظ السلاطين وفقهاء الطابور الخامس
قديما وحديثا.
إنها من الوجهة السياسية والأخلاقية نظام يقوم على نظرية الحقوق
المتبادلة التي قدمها الإمام علي لهذه الأمة بل وللعالم أجمع بصورة
متوازنة تكفل حفظ حقوق الأطراف المشاركة في هذا العقد الاجتماعي
السياسي وتكفل قيام كل طرف من أطراف اللعبة السياسية بواجبه على النحو
الأكمل تلك الحقوق التي عبر عنها الإمام بقوله (ثُمَّ جَعَلَ ـ
سُبْحَانَهُ ـ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ
عَلَى بَعْض، فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ
بَعْضُهَا بَعْضاً، وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض).
إنها ليست مجرد نظام سياسي منفصل عن النظام الأخلاقي كما أننا لا
نعتقد بأن النظام الأخلاقي ينبغي أن يبقى محصورا في السلوك الإنساني
الفردي أو حتى الاجتماعي.
وهي أي الديمقراطية جزء متمم ومتداخل مع النظام الأخلاقي السائد
نظرا لأنها تتأثر بالأعراف والتقاليد الاجتماعية والقبلية الحاكمة في
أي مجتمع من المجتمعات.
والديمقراطية لها طرفان أساسيان هما الحاكم والمحكوم وهناك أطراف
أخرى مؤثرة في اللعبة السياسية مثل الإعلام والقضاء والجيش إلا أنه وفي
النهاية يبقى أن الوظيفة الأساسية لأي من هؤلاء تصب في خانة أحد
الطرفين أوكليهما. فالإعلام في الدول الديمقراطية يصب لصالح المحكومين
أما في الدول المتخلفة فالأعلام مهمته تزييف وعي الجماهير لصالح بقاء
واستمرار الحاكم في موقعه ويمكن لنا وصفه ببساطة شديدة (الإعلام
المعاصر أفيون الشعوب) أما في الدول المتحضرة فالإعلام مهمته كشف
الحقائق والدفاع عن مصالح الناس أو حتى جماعات المصالح التي تعلن عن
نفسها وليس بالضرورة مصالح الحكم وجماعات المصالح غير المعلنة على عكس
الجيش والشرطة اللذان هما عادة من أدوات السلطة بينما يفترض في القضاء
أن يقف في المنطقة الوسطى بين الحاكم والمحكوم إلا أنه لدى الحكومات
المنحطة يبقى مجرد أداة من أدوات السياسة الحكومية ووسيلة من وسائل
التنكيل بخصومها أو تحجيمهم باسم القضاء العادل والنزيه.
إن هذه العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم من وجهة نظر الإسلام هي
علاقة بين بشر وليست بحال من الأحوال بين بشر عاديين هم الرعية وأنصاف
آلهة هم الحكام المقدسون فالعلاقة بين البشر قائمة على قانون يقول (أن
الحق لاَ يَجْرِي لأحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ
إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوكَانَ لأحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ
عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ،
لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ
عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِه) إذا فليس هناك حكام آلهة ولا نصف آلهة بل
هم بشر عليهم أن يقروا ويقبلوا بمبدأ المحاسبة قبل أن يتطلعوا لشغل هذه
المناصب لأن الله وحده هو الذي لا يسأل عما يفعل وكل الخلائق يسألون
إما من البشر أشباههم في الدنيا أومن الخالق عز وجل يوم العرض الأكبر
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولكن الله
سبحانه تقدست أسماؤه وعلا مكانه مع كل هذا (جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى
الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ
الثَّوَابِ تَفَضُّلاً مِنْهُ، وَتَوَسُّعاً بِمَا هُومِنَ الْمَزِيدِ
أَهْلُهُ) أي أنه سبحانه وضع الموازين القسط لئلا تظلم نفس شيئا (ونضع
الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من
خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) الأنبياء 47.
نظرية الحقوق المتبادلة في مواجهة فقه الخنوع
والإذعان:
يحق لنا أن نفخر بأن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد قال هذا
الكلام ووضع هذه القواعد بعد عقود قليلة من وفاة الرسول الأكرم صلى
الله عليه وآله وسلم ووفي وقت كانت الحاجة ماسة لمن يطيعه ويلتف حوله
في مواجهة تلك الحروب المنهكة التي واجهها ولكنه وكما نوقن ونعتقد كان
يؤسس لحاضر الأمة ومستقبلها بينما لم يبدأ الغرب في الاهتمام بقاعدة
الحق الطبيعي ولا عن الحقوق المتبادلة إلا في العصور الوسطى وكما يقول
الدكتور مصطفى صفوان في ترجمته وتعليقه على كتاب (العبودية المختارة) "أول
نص تشريعي صاغ فكرة القانون أو الحق الطبيعي هو موسوعة القانون
الروماني التي قام بجمعها وتبويبها وتعريف تصوراتها الأساسية والإشراف
على تحريرها بأمر من الأمبراطور جوستنيان إمام رجال القانون في عصره
تريبونيان حيث يبدأ النص بهذا التعريف قانون الطبيعة هو القانون الذي
غرسته الطبيعة في جميع المخلوقات". ولا شك أن الخلاف الجوهري بيننا
وبينهم يتركز على اعتقادنا بأن هذا القانون أوالحق الطبيعي الحقيقي
ينبع من القانون الإلهي الكوني الذي يدير به الله عز وجل الأكوان ويسير
به الأفلاك والذي يختلف عن القانون التشريعي في أن الأول يحكم علاقة
الأشياء بمن فيهم البشر وفقا لقانون الأسباب والنتائج والثاني يخاطب
إرادة المكلف سواء كان فردا أو جماعة من البشر.
القانون الكوني يقول (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) (إن الله لا
يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (فلولا كان من القرون من قبلكم
أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع
الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين* وما كان ربك ليهلك القرى
بظلم وأهلها مصلحون) هود 116- 117 أما القانون التشريعي فيقول (الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) والواقع أن مخالفة أي من
القانونين الكوني أو التشريعي يصبان في اتجاه واحد هو استحقاق الغضب
الإلهي واستحقاق العقاب الذي يبدأ عادة في ساحة الاختبار الدنيوي
المتمثل في الهزات الاجتماعية والزلازل السياسية التي تلحق بهذه الأمة
أو تلك والتي حذر منها الإمام عليه السلام بقوله هنالك (اخْتَلَفَتْ
هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ، وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ
الاِْدْغَالُ فِي الدِّينِ) ناهيك عن طمع الأعداء في الهيمنة على رقاب
المسلمين والقضاء على دينهم.
ومن المهم هنا أن نذكر أن هذه القواعد التي وضعها الإمام ونبه إلى
أهميتها تخالف المألوف والسائد في مدرسة الفكر العربي السياسي المنسوبة
إلى الإسلام والتي تجعل من الخنوع للطغاة والجبابرة والحياة في ظل
الاستبداد والتماهي معه ومع ما يفرضه على مجموع الأمة من ظلم وقهر وسلب
ونهب (إلا أن تروا كفرا بواحا ليس لكم من الله فيه سلطان) عملا صائبا
تحتمه ضرورة الحفاظ على حرية الأمة واستقلالها في مواجهة أعداء الإسلام
والدين ومن المخجل أن أحدا ممن يطلقون على أنفسهم بالمفكرين الإسلاميين
المستنيرين لم يحاول أن يعالج هذه القضية معالجة علمية أو فكرية أو
أخلاقية حتى بعد سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية تحت الاحتلال
الأمريكي الغربي الصليبي هذا العام 2003 حتى بعد أن جاء هذا الاحتلال
رافعا شعار مطالبة العرب بإقامة الديمقراطية وكأنه يخرج لسانه للعرب
قائلا (قمنا باحتلالكم لأنكم لا تستحقون شرف الاستقلال ولأنكم ارتكبتم
الأخطاء التالية) بقيت تحليلات هؤلاء السادة تراوح مكانها ولا تريد
مغادرة مدرسة الغوغائية السياسية وطرح المسألة كلها في إطار الصراع
الأزلي بين الإسلام والكفر وكفى وأننا نحن المسلمين لم نرتكب أي أخطاء
توجب نزول هذه الكوارث بنا رافعين شعار (لا للإصلاح لا للتصحيح نعم
للعصبية المذهبية نعم للعصبية القبلية نعم لحروب الإبادة والقبور
الجماعية وأخيرا كذاب ربيعة خير من صادق مضر والاحتلال على يد عدلي خير
من الاستقلال على يد سعد!!!).
لماذا لم يحاول هؤلاء السادة الاستفادة من تجارب وأخطاء الماضي
القريب أو البعيد؟؟.
إنهم يعبدون الطغاة ويعتبرون المساس بهم كفرا وخروجا عن الدين
والملة ويزداد ولوغهم في عبادة الفرد الطاغية وتولههم به إذا كان من
رافعي شعار (أهل السنة والجماعة) فهذا الطاغية المسمى صلاح الدين
الأيوبي (يوسف بن أيوب) قد جرى رفعه فوق عنان السماء لأنه تمكن من
إخراج الصليبيين من القدس عام 584 للهجرة والأهم من هذا أنه قضى على
الدولة الفاطمية ونكل بالمذهب الشيعي في كل مكان طالته يده ثم انتهت به
الأمور إلى أن عاد الصليبيون إلى القدس في اتفاقية استسلام وقعها
أبناؤه عام 626 للهجرة مع الملك لانبروز وهذه المرة من دون أن تراق
قطرة دم دفاعا عن القدس مما يعني أن الأمم المقهورة والمستعبدة لا يمكن
لها بل ولا تقدر على الدفاع عن استقلالها وها هو الحاكم الفرد (جمال
عبد الناصر) الذي جاء إلى الحكم عام 1952 في انقلاب عسكري أسهمت في
صنعه جماعة الإخوان المسلمون وعاشت البلاد في ظله تحت حكم فردي
استبدادي لا مكان فيه للرأي الآخر ولو حتى من رفقاء السلاح الذين حملوه
إلى الكرسي أو رفقاء الجماعة الذين أقسم على السمع والطاعة لهم يقود
العالم العربي والإسلامي إلى تلك الهزيمة الفاجعة المسماة بنكسة 1967
التي تسببت في احتلال أجزاء واسعة من العالم العربي واحتلال القدس من
قبل الصهاينة والسبب دائما هو ذلك النظام الذي يرى نفسه في معركة طاحنة
مع أبناء شعبه ويرى فيهم أعداء قائمين أو محتملين فلا يقرب إلا الفاجر
حيث تَذِلُّ الإبرار، وَتَعِزُّ الأشرار، ولا يرقى أو يرتقي إلا
البارعون في فن النفاق أو التزلف أو أساتذة الانحناء الخضوع أو
الماهرون في جلب البغايا وبائعات الهوى وتقديم المتعة الرخيصة (لقادة
الأمة) وعندها يقع المحظور الذي حذر منه الإمام (وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ
السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ الأحكام، وَكَثُرَتْ
عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ
لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ) وأخيرا فهناك فاجعة العراق التي لم تحرك
ساكنا لدى أولئك المتمرسين على فنون الرشوة والنفاق.
ولك أن تلاحظ دقة الصياغة في كلمات الإمام علي عليه السلام لنظرية
الحقوق الإلهية المتكافئة والمتبادلة (ثُمَّ جَعَلَ ـ سُبْحَانَهُ ـ
مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْض،
فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا، وَيُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً،
وَلاَ يُسْتَوْجَبُ بعْضُهَا إِلاَّ بِبَعْض) فهذه الحقوق متكافئة في
وجوهها وعلى سبيل المثال فحق النظام في قبض الخراج أو الضرائب يقابله
حق الناس في ضمان حقوقهم واحتياجاتهم الأساسية من العلاج والتعليم
والأجر العادل وواجب النظام في حفظ الأمن وحقه في تعاون الناس معه حفظا
لها الأمن يقابله حق الناس في معاملة قانونية لائقة وكريمة وفقا لقانون
عادل ومنصف وليس وفقا لقانون الغاب المسمى بالأحكام العرفية الذي يبيح
لهذا النظام أو ذاك اعتقال الناس وسجنهم بلا محاكمة وقتلهم إذا رغب في
ذلك وحق النظام أو الوالي في طلب الدعم والمساندة من الناس لا بد أن
يقابله إقراره بحق الناس قي المشاركة واحترامه لقيمة صوتهم الانتخابي
وإلا ترك النظام لينزع شوكه بنفسه واكتفى الناس بالتفرج والمشاهدة على
ما يجري من حولهم.
إن تغافل النظم الحاكمة وخاصة تلك التي جاءت إلى السلطة على أسنة
الرماح و بالقيم الأخلاقية وعدم اكتراثها بها وبعامة الناس واكتفائها
بالأداة الباطشة وجوقة المنتفعين المحيطة والأجهزة الأمنية الباطشة
والأجهزة الإعلامية التي لا هم لها إلا تحسين الصورة صورة الحكام وصورة
الأزلام وصورة الإسلام تسلب المجتمع من تلك القوة المعنوية الهائلة
التي يمكن للمجتمع أن يكتسبها والتي ذكرها الإمام (عَزَّ الْحَقُّ
بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ
الْعَدْلِ، وَجَرَتْ عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ
الزَّمَانُ، وَطُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ
الأعداء). وكما يقول الشهيد السعيد آية الله محمد باقر الصدر (كلما
جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة والابتعاد عن أي لون من
ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان كلما وقع ذلك ازدهرت
علاقات الإنسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من
ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء. إن
علاقة الإنسان مع الطبيعة تتناسب تناسبا طرديا مع ازدهار العدالة في
علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان. فكلما ازدهرت العدالة في علاقات
الإنسان مع أخيه الإنسان ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة وكلما
انحسرت العدالة مع الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني وهذه
العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط ولكنها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم
القرآن الكريم لأن مجتمع الظلم مجتمع ممزق مشتت الفرعونية على مدى
التاريخ تستهدف تمزيق طاقات المجتمع وتشتيت فئاته وبعثرة إمكاناته
بينما يعمل المثل الأعلى على توحيد البشرية). 227-228 التفسير الموضوعي
للقرآن
موقع الإمامة من نظرية الحقوق:
يقول الإمام محرضا المسلمين على حرية الكلمة (فَلاَ تُكَلِّمُونِي
بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ) من النفاق أو تلك الصيغ
المستخدمة في تقديم الخطاب مع الجبارين والمستكبرين ثم ينبههم إلى أن
الخوف لا يكون إلا من الله وحده لا من أولئك الذين اعتادوا على التنكيل
بالأحرار ومن يجهر بالحق (وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ
بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ)
والأهم من هذا أن كلمة الحق لا بد أن تجد الاستجابة اللازمة والاهتمام
الكافي من ولاة أمر المسلمين وإلا تصبح هذه الحرية نوعا من الصراخ في
الفضاء (وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ
الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ
أَنْ يُقَالَ لَهُ أَو الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ
الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ) لأن الواجب يحتم على النظم
الحاكمة الاستجابة لما يعرض عليها من المشورة الصائبة (فَلاَ تَكُفُّوا
عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَو مَشُورَة بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي
نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أخطئ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ
أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُو أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي،
فَإنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ
غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أنفسنا)، وهنا سيطرح
ذلك السؤال عن عصمة الإمام أين هي من هذا الكلام (لست في نفسي بفوق أن
أخطئ) ولماذا لم يقل الإمام أنا معصوم ولا أنطق إلا بحق ولا أقول إلا
الصدق والواقع أن هذا الخطاب صدر من الإمام وهو في موقع الحاكم والحاكم
عليه أن يستخدم آليات الحكم وعندما وقف الإمام في موقع المقاتل استخدم
السيف والإمام متأس بالرسول الذي استخدم الآليات البشرية التي يستخدمها
البشر المكلفون في حياتهم العادية في مواجهة كل ما واجههم من صعوبات
وتحديات وهو يخاطب الناس بلغتهم لغة الحياة وليس لغة الغيب والتكليف
الإلهي كما أن الإنسان لا يعاب إذا نزل عن موضعه الذي يستحق الارتفاع
إليه من أجل أن يعلم الناس حقوقهم وواجباتهم وما لهم وما عليهم وإنما
يعاب من أنزل نفسه منزلا ليس له فالذي يتحدث هنا هو الإمام عندما وقف
موقف الحاكم وإذا كان الإمام الحاكم قال هذا وفعله ومارسه فما بال من
هم أقل منهم شأنا يترفعون عن إعطاء الناس حقوقهم ويترفعون إلى منزلة لا
تحق لهم بل ويحاولون مساماة الله في عظمته وانظر إلى فرعون وكل
الفراعنة من بعده وهو يقول (يا هامان اجعل لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب
أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا)!!.
ويبقى أن كلمة الإمام (إني لست في نفسي بفوق أن أخطئ) لا تصدر إلا
من إمام من أئمة الحق فالذي يمكن له أن يقول مثل هذا الكلام واحد من
ثلاثة أصناف من البشر الأول هو ممن على شاكلتنا من عامة البشر الذين لا
يحتاج الناس أن يسمعوا منهم مثل هذا الكلام وإلا اعتبر نوعا من الكبر
والغرور والصنف الثاني هم الطغاة المستبدون الذين لا يمكن لهم أن
يقدموا على أي نوع من التواضع خوفا من اجتراء الناس عليهم والنوع
الثالث هم أئمة الحق الذين يريدون تدريب الناس على القول به والجهر
بالعدل والذين لا يضيرهم على الإطلاق هذه الحرية لأنها لن تكشف المستور
أو تبدي ما يتعين ستره وإخفائه من عيوبهم قدر ما تظهر حقيقة ما يجري في
دنيا الناس مما ينبغي أن يكون واضحا ومعلنا وهذا هو ديننا الذي لا نشك
فيه.
إن هذه الكلمات العلوية المضيئة وتحديدها لطبيعة العلاقة بين طرفي
النظام السياسي (الحاكم والمحكوم) في إطار عقد متبادل بين الفريقين
يضمن لكل طرف حقه حتى يتمكن في النهاية من أداء مهمته وتحقيق بغيته
وحتى تبقى هذه العلاقة في إطار المشاركة المتوازنة بدلا من أن تنزلق
إما إلى نزاع مفتوح بين الفريقين أو إلى عقد إذعان من طرف لصالح طرف
آخر كما هو الحال في النظرية السياسية السائدة في عالمنا الإسلامي منذ
أن نجح التحالف القائم بين (جبابرة بني أمية وفقهاء الطابور الخامس) في
إزاحة أهل البيت عليهم السلام وما يمثلونه من قيم عن قيادة الأمة بصورة
يظنونها نهائية وقد تمثل هذا النظام السياسي الإذعاني في خطبة الافتتاح
التي ألقاها معاوية بن أبي سفيان عند استلامه السلطة وقد ذكرناها في
غير موضع (أتظنون أني قاتلتكم لتزكوا أو لتصوموا أو لتحجوا؟؟ إنكم
لتفعلون وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)
ثم تبلور هذا النهج بعد هذا في نصوص فقهية شكلت ما يمكن أن يسمي بالفقه
السياسي لأهل السنة والجماعة ذلك الفقه الذي تأسس في حقيقة الأمر من
أجل تحقيق هدف وحيد هو الحيلولة بين الناس وبين الاستلهام من تراث أهل
البيت أو الالتفاف حول قيادتهم حيث ينقل أحد فقهائهم المعاصرين هو
الدكتور صلاح الصاوي عن أحمد بن حنبل في اعتقاده (السمع والطاعة للأئمة
وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع عليه الناس ورضوا
به ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أميرا للمؤمنين والغزو ماض مع
الأمراء إلى يوم القيامة البر منهم والفاجر وقال أيضا ومن خرج على إمام
المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان
بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار
الواردة عن رسول الله ص فإن مات الخارج على هؤلاء الأئمة مات ميتة
جاهلية ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل
هذا فهو مبتدع على غير السنة والطريق) صلاح الصاوي الطريق إلى جماعة
المسلمين ص 40.
ويزيد الدكتور المذكور طينه بلة فينقل عن العز بن عبد السلام في
كتابه قواعد الأحكام (إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم
فسقا مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك
الأبضاع وفسق الآخر بالتضرع بالأموال قدمنا المتضرع للأموال على
المتضرع للدماء والأبضاع فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على من
يتضرع للدماء وكذلك بترتيب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر
والصغير منها على اختلاف رتبها فإن قيل أيجوز القتال مع أحدهم لإقامة
ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته قلنا نعم دفعا لما بين
مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد) ص 68 الكتاب المذكور.
إنه إذا فقه الخنوع والخضوع والإذعان لتلك القوة القاهرة المقدسة
التي يطلق عليها هؤلاء (الحاكم المسلم) حيث لا حقوق مضمونة للرعية ولا
حتى حقهم في الحفاظ على ممتلكاتهم أو أعراضهم أو دمائهم فما بالك بحق
الاختيار الذي جرى القفز عليه عندما جرى إقرار مبدأ شرعية سلطة المتغلب
وهي حالة لا نعتقد أن علاجها من مسئولية المفكرين أو خبراء القانون
والسياسة بل هي من مسئولية الأطباء النفسيين والغريب أن هؤلاء قد
أعرضوا عن هذه المبادئ الرائعة التي نتحدث الآن عنها سواء من الناحية
النظرية وأعرضوا عن ذكر تجربة الإمام علي عليه السلام وجهاده من أجل
تأسيس هذه المبادئ في أرض الواقع باعتبار أن الأمر كان فتنة طهر الله
ألسنتهم من الحديث عنها كما طهر عقولهم من كافة أنواع العلم والفكر
(!!) ولكنهم حتى لم يحاولوا الدفاع عن أعراض المسلمين عندما قبلوا
وشرعوا أن يحكمهم المتعرضون للأبضاع ومنتهكي الحرمات تحقيقا لما يسمونه
مصلحة الإسلام والمسلمين.
ويبقى أن هذه النقطة تحديدا وهي الإذعان المطلق للقداسة المطلقة
لذلك (القاتل الزاني اللص) الذي قدمه لنا العز بن عبد السلام وتلميذه
صلاح الصاوي في صورة الإمام الذي يتوجب له السمع والطاعة هي من بين
المطاعن التي يتلقفها الغربيون للجزم باستحالة الالتقاء بين الإسلام
والديمقراطية وكما يقول جون مونرو في تعليقه على ندوة عقدت في واشنطن
بحضور عدد من الخبراء الأمريكان (إنه وبالإشارة إلي كل تلك الملاحظات
السخية عن الإسلام وتاريخه المجيد من قبل الخبراء الثلاثة ـ الذين
أكدوا في معرض أحاديثهم احترامهم العميق للدين الإسلامي ـ إلا أن هناك
قضية تغاضوا عنها فيما عدا دانيل بابيبز (أحد كبار المسئولين في إدارة
جورج بوش الآن 2003) الذي طرق وبقوة نقطة مهمة وهي المتمثلة في أن من
المبادئ الأساسية في الدين الإسلامي الطاعة في جميع الأحوال، برغم
وجود أي دلائل متناقضة. وهذا الأمر يشترك فيه كل من المسلمين
المعتدلين والأصوليين إذا ما أرادوا أن يكونوا من المسلمين الصالحين.
إن الطاعة ليست من القيم التي يحبذها ويقدرها الغربيون أكثر من
غيرهم.. ولكن القيمة الأعلي في ميزان القيم الغربية هي الحرية..
الحرية لأن نفكر وأن نتصرف،وأن نؤمن بما نود أن نؤمن به، طبقا لما
يمليه عليه عقل وضمير الفرد.
إنه وبالطبع، فإن كل حرية كانت من مصادر سيئات الغرب، كما كانت
من مصادر سعادته وحسناته، ولكن ليست هذه هي القضية. إن الإسلام
والغرب قد يشتركان في نظام القيم نفسها في نقاط عديدة.
ولكن كل من الغرب والإسلام ينظران بطريقة مختلفة إلي الله وإلي
العالم الذي خلقه الله. وهذا، علي ما يبدو لي، هو السبب الرئيسي
لمصادر الاحتكاك والعزل فيما بينهما.
ومن هنا، فإن دانيل بايبس علي حق تماما، لأن هؤلاء الذين يصرون
علي النظر إلي العالم من خلال عيون الأنبياء بدلا من تبني نظرة
الواقعيين( البراجماتيين) سيتسببون في المتاعب، بغض النظر عن
ادعائهم بأنهم يمثلون إرادة الله)www.amcoptic.com.
إنه لمما يؤسف له أن تكون هذه هي الصورة المنقولة إلى الغربيين عن
الإسلام والمسلمين الذين يحبذون الطاعة تحت كل الظروف والوضاع وبرغم
الأدلة المتناقضة في كثير من الأحوال والواقع أننا لا نعتقد بضرورة أن
يعتنق العالم كله الإسلام ولكننا نعتقد بواجبنا في تقديم صورة حقيقية
عن هذا الدين وما قدمه أئمة الحق والعدل من كنوز فكرية وأخلاقية للعالم
أجمع إن لم يكن حتى بعنوان (الإمامة كما نرى نحن) فليس أقل من أن ما
قدموه يمثل تراثا ثريا في مجال الفكر والأخلاق اتخذناه وراءنا ظهريا.
كيف تأسس فقه الخنوع والإذعان والتغلب:
ليس سرا تلك الطريقة التي جرى بها تداول السلطة بعد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ولا الطريقة التي جرى بها استخلاف أبي بكر بعد
رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذه الدنيا فقد انعقدت خلافته
بخمسة أشخاص هم كل من حضروا اجتماع سقيفة بني ساعدة حيث يقول الماوردي
في كتاب "الأحكام السلطانية" (تنعقد الإمامة من وجهين أحدهما باختيار
أهل الحل والعقد والثاني بعهد الإمام من قبل وقد اختلف العلماء في عدد
من تنعقد بهم الإمامة على مذاهب شتى فقالت طائفة لا تنعقد إلا بجمهور
أهل الحل والعقد في كل بلد ليكون التسليم به عاما وهذا مذهب مدفوع
ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها وقالت طائفة أخرى أقل من
تنعقد بهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها واستدلوا على ذلك ببيعة أبي
بكر التي انعقدت بخمسة اجتمعوا عليه ثم تابعهم الناس وقال غيرهم بل ستة
أشخاص لأن عمر جعل الشورى في ستة) ص 7.
والواقع أن الإمام علي عليه السلام علق على تلك البيعة بقوله:
إذا كنت بالشورى ملكت أمورهم....فكيف بهذا والمشيرون غيب
وإن كنت بالقربى حججت خصومهم....فغيرك أولى بالنبي وأقرب
أي أن النصاب القانوني لمثل هذا الاجتماع لم يكتمل لعدم حضور من
يتعين دعوته لاتخاذ هكذا قرار وبالتالي فهو فاقد للأهلية القانونية
التي تمكنه من البت في مصير الأمة فضلا عن السؤال الجوهري عمن عين
هؤلاء في وظيفة أهل العقد والحل ومنحهم حق تقرير مصير الأمة والمشيرون
غيب ويكفي أن نعلم أن عليا والعباس لم يحضرا لنعلم أي منقلب انقلب
هؤلاء القوم. ثم حدث ما هو معلوم من تسليم السلطة من أبي بكر إلى عمر
بعهد منه وربما قائل أن هذا العهد جرى تتويجه برضا الأمة ولكن الشورى
الحقيقية تقضي أن تكون المداولات قبل اتخاذ القرار ثم ازداد الموقف
تدهورا عندما تمت البيعة للإمام علي عليه السلام واجتمع معسكر المبغضين
للإمام يشككون في شرعية خلافته بعنوان طلب الثأر لمقتل عثمان وقد امتد
هذا التشكيك ليشمل مواقف الإمام علي من المتمردين عليه ووصف الأمر كله
بأنه فتنة لا يعلم فيها وجه الصواب من الخطأ واتجه فريق المشككين هذا
إلى تحريم قتال المسلمين مهما كانت الأسباب ومهما ارتكبوا من جرائم ثم
انتهى بهم الأمر ليصبح مجرد الانتماء للإسلام موجبا لطاعة هؤلاء الملوك
مهما ارتكبوا من جرائم تنقض انتماءهم للإسلام من جذوره ومحرما على
الناس التمرد عليهم طالما حافظوا على انتمائهم الشكلي للإسلام والأهم
من هذا أنه منحهم سلطات مطلقة لارتكاب ما يحلو لهم من جرائم من أجل
تدعيم سلطتهم اللامشروعة ثم جرى انتقاء تلك النصوص الأموية المهلهلة
والمليئة بالثقوب ووضعها في تلك الكتب المسماة بالصحاح ومن هنا نشأت
أجيال وأجيال ترى ذلك الخضوع والخنوع هو الدين ثم ازداد الطين بلة
عندما ظهر خوارج العصر واستطاعوا اختراق هذه النصوص وتفسيرها لصالحهم
ولصالح مشروعهم الدموي والغريب أن أحدا لم ينتبه إلى حقيقة بالغة
الأهمية وهي أن منتجي هذه النصوص كانت لهم مواقفهم المؤيدة للنظام
الأموي الجائر أو الخاذلة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والتي
دفعتهم إلى صياغة فقه الخنوع أوما نسميه نحن بفقه الطابور الخامس.
نماذج من هذه النصوص
1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص (من بايع إماما فأعطاه صفقة يده
فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر فدنوت منه فقلت
له أنشدك الله أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
سمعته أذناي ووعاه قلبي فقلت له هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل
أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا والله يقول ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن
الله كان بكم رحيما قال فسكت ساعة ثم قال أطعه في طاعة الله واعصه في
معصية الله). مسلم 1016.
2- سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله فقال يا نبي الله أرأيت إن
قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه
ثم سأله فأعرض عنه ثم سأله في الثانية فجذبه الأشعث بن قيس وقال اسمعوا
وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. مسلم 1017.
3- عن عوف بن مالك: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون
عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم
ويلعنونكم قالوا قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك قال لا ما
أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله
فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يدا من طاعة. مسلم 1023
4- جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة
ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا
سمعته من رسول الله ص قال من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا
حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.
5- عبد الله بن عمر يبايع لبني أمية بالرغم من رفضه البيعة لعلي
عليه السلام (عن عبد الله بن دينار قال شهدت ابن عمر لما بايع الناس
عبد الملك بن مروان فكتب إليه إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد
الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت وإن بني قد
أقروا بذلك) ج4 ص 245.
6- فقه الطابور الخامس يوجب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والقعود عن مواجهة الظالمين: عن أبي موسى (تكون فتنة النائم فيها خير
من المضجع والمضجع فيها خير من القاعد والقائم فيها خير من الماشي
والماشي فيها خير من الراكب والراكب فيها خير من الساعي قتلاها كلها في
النار قلت أيام الهرج حين لا يأمن الرجل جليسه قال فما تأمرني إن أدركت
ذلك قال اكفف نفسك وادخل دارك قال قلت يا رسول الله أرأيت إن دخل على
بيتي قال فادخل مسجدك واصنع هكذا وقبض بيمينه على الكوع وقل ربي حتى
تموت على ذلك. 69-70 الفتن والملاحم لابن كثير.
7- عن أبي موسى أيضا (إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم
يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا القاعد فيها خير من القائم والماشي فيها
خير من الساعي فكسروا سيوفكم وقطعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة
قال فما تأمرنا قال كونوا أحلاس بيوتكم. 72-73 المصدر السابق.
إذا فقد أسس لهؤلاء القوم لمدرسة فقهية وفكرية لا يمكن لها أن تنتج
إلا فريقا من الأحلاس الفاقدين لكل نخوة ومروءة العاجزين عن القيام بأي
تغيير أو النهوض لتغيير أي منكر أو نصرة أي مظلوم في انتظار أن يصدر
أحدهم فتوى بكفر هذا الحاكم أو ذاك لأن أبا هريرة روى أن (من جاءكم
ليفرق جمعكم وأنتم على قلب رجل واحد فاضربوه بالسيف كائنا من كان) ولا
شك أن معارضة أي نظام حاكم أو انتقاد سلوكياته وتصرفاته الجائرة مثل
تصرفات معاوية بن أبي سفيان ستعد تفريقا للشمل وتفريقا للصف تستوجب أشد
أنواع العقوبات صرامة وعندما حاول هؤلاء الرواة تبرئة ذمتهم قالوا أطعه
في طاعة الله واعصه في معصيته وكيف يمكن القيام بهذه المهمة المستحيلة
مع من استباحوا حرمات المسلمين يوم الحرة وغيرها ولماذا المعارضة وهم
يزعمون أن رسول الله ص أمر بطاعة هؤلاء طاعة مطلقة ما أقاموا الصلاة
وما أيسر هذه المهمة علي نظام جائر لا يهمه ولا يمانع أن يمضي الناس
وقتهم كله في الصلاة معطين ما لقيصر لقيصر وما لبني أمية بني أمية وما
لله لله.
ونواصل قراءة (الإمام) وهو يعرفنا بالمصلحة الحقيقية الممكن تحققها
من خلال الحفاظ على قيم العدل (عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ، وَقَامَتْ
مَنَاهِجُ الدِّينِ، وَاعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ، وَجَرَتْ
عَلَى أَذْلاَلِهَا السُّنَنُ، فَصَلَحَ بِذلِكَ الزَّمَانُ، وَطُمِعَ
فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ، وَيَئِسَتْ مَطَامِعُ الأعداء) فالعدل
والتوازن وحده هو الكفيل بالحفاظ على كيان الأمة في مقابل أعدائها وعلى
ثروتها ورخائها والأهم من هذا الحفاظ على تماسكها الخلقي ورفعتها
المعنوية هذه وحدها هي المصلحة وهي العكس المطلق لما فعله أزلام بني
أمية ثم يحدد الإمام الآثار الخطيرة الناتجة عن اختلال هذا التوازن
القائم بين الوالي والرعية عندما يتجاوز أي من الطرفين على حقوق الطرف
الآخر وهوما يسمى بالطغيان (اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ،
وَظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ، وَكَثُرَ الاْدْغَالُ فِي الدِّينِ،
وَتُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ، فَعُمِلَ بِالْهَوَى، وَعُطِّلَتِ
الأحكام، وَكَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ، فَلاَ يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ
حَقٍّ عُطِّلَ، وَلاَ لِعَظِيمِ بَاطِل فُعِلَ! فَهُنَالِكَ تَذِلُّ
الإبرار، وَتَعِزُّ الأشرار، وَتَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللهِ عِنْدَ
الْعِبَاد)ِ. عندها تنقلب الموازين الاجتماعية فتصبح طليعة المجتمع من
قياداته الفكرية والأخلاقية في المؤخرة ويتقدم المنافقون والأزلام
والإمعات وأشباه الرجال إلى المقدمة لا لكفائتهم بل لقدرتهم على ممارسة
التلون والتزلف والنفاق والخاسر هوالأمة جمعاء خسارة قيمية ومادية
واجتماعية.
إننا نسوق هذا الكلام لهؤلاء الغوغاء الذين أقاموا الدنيا ولم
قعدوها دفاعا عن طاغية العراق الذي أذاق شعبه المسكين شتى صنوف الذل
والهوان والإبادة الجماعية والفردية فكانت النتيجة أن اختلفت الكلمة
وظهرت معالم الجور وكثر الإدغال في الدين وطمع الأعداء ووجدوا الفرصة
سانحة لاحتلال العراق وهي النتيجة الكارثة القابلة للتكرار في كل بلد
يقع فريسة لهذا الظلم والطغيان ولا يجد من يرد هذا الظالم عن ظلمه.
إن هذه النظرية التي طرحها الإمام علي بن أبي طالب هي ما أخذت به
المجتمعات الديمقراطية حيث يقول الباحث الأمريكي ملفين يوروفسكي (لا بد
أن يكون لكل المجتمعات العصرية رئيس تنفيذي قادر على القيام بمسؤوليات
الحكم، بدءاً من الإدارة البسيطة لبرنامج ما، وحتى قيادة القوات
المسلحة للدفاع عن الوطن أيام الحرب. لكن يجب التنبه إلى وجوب إعطاء
مثل هذا المسؤول ما يكفي من الصلاحيات للقيام بمهامه، وفي الوقت نفسه،
الحد من سلطته كي لا يصبح دكتاتوراً. يرسم الدستور في الولايات المتحدة،
حدوداً واضحة لصلاحيات الرئيس. وفي حين يُشكّل منصبه أحد أقوى المناصب
في العالم، فإن قوته تنبع من رضى المحكومين ومن قدرة شاغل البيت الأبيض
على العمل بانسجام مع سلطتي الحكم الأخريين. الأمر المهم، هنا أيضاً،
ليس كيفية تنظيم عمل الرئاسة، ولكنه القيود المفروضة على ذلك المنصب
بموجب مبادئ متّبعة مثل مبدأ "الفصل بين السلطات". في الحكم الديمقراطي،
على الرئيس أن يحكم مُعتمداً على مهاراته السياسية، ليقيم إطار عمل
للتعاون مع السلطة التشريعية، ولكن في المقام الأول مع الشعب نفسه. في
نفس الوقت، يجب أن يشعر المواطنون بالثقة من أن القيود الدستورية تضمن
أن يكون الرئيس، أو رئيس الوزراء، خادماً للشعب لا سيّده).
الإمام يقرر حق المعارضة
ثم يقرر الإمام حق الشعب في المعرفة وواجبه في أن يقدم للحاكم أو
الرئيس المشورة الواعية العادلة التي لا يمكن تقديمها إلا من خلال
إتاحة الفرصة لأبناء الشعب وخبرائه ومثقفيه للحصول عليها فيقول (فَلاَ
تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ
تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ
الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا
بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام
لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَو
الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ
عَلَيْهِ.
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَو مَشُورَة بِعَدْل،
فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أخطئ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ
مِنْ فِعْلِي) وهو نفس ما يقرره هذا الباحث عن حق الشعب في أن يعرف
فيقول (قبل هذا القرن إذا أراد الناس أن يعرفوا كيف تعمل حكوماتهم
كانوا يتوجهون إلى مقر الاجتماعات للإصغاء إلى المناظرات والمناقشات.
أما اليوم، فهناك بيروقراطيات ضخمة معقّدة، وقوانين وأنظمة يقع بعضها
في مئات الصفحات، وعملية تشريعية، حتى ولو كانت خاضعة للمحاسبة من قبل
الشعب، قد تكون مبهمة لا يمكن لأكثر الناس فهمها. في النظام الديمقراطي،
على أعمال الحكم أن تكون شفافة قدر الإمكان، أي أن المداولات والقرارات
يجب أن تكون مُتاحة لتدقيق الناس. من الواضح أنه لا يجوز أن تكون كل
أعمال الحكومة علنية، ولكن للمواطنين الحق في معرفة كيف تُصرف أموال
الضرائب التي تجبى منهم، وما إذا كانت المحاكم تتمتع بالكفاءة
والفعالية، وما إذا كان المسؤولون المنتخبون يتصرفون بمسؤولية. إن
كيفية توفير مثل هذه المعلومات تختلف بين حكومة وأخرى، ولكن ما من حكم
ديمقراطي بوسعه العمل بسرية تامة).
ملفين يوروفسكي أوراق الديمقراطية وزارة الخارجية الأمريكية.
والأهم من هذا أن الإمام لا يجعل من المعارضة انتقاصا من قدر الرئيس
أو القائد أو الإمام وبالتالي فهولا يجعل من الإمام ذلك الإله الذي لا
(يسئل عما يفعل وهم يسئلون) فهذا لله وحده دون سواه.
وأخيرا يعطي الإمام القدوة من نفسه بقبوله واحتماله للنقد وأن هذا
النقد المستند لقاعدة الإخلاص للدولة الإسلامية يصب بكل تأكيد في خانة
تبصير النظام بالأخطاء تفاديا للوقوع فيها أو تصحيحا لها قبل أن تستفحل
وتأخذ شكل الكارثة التي لا يمكن تصحيحها فأين هذا من نظرية الحكم
المعتمدة لدى (أهل السنة) والتي يزعم بعضهم أن الممكن تحويلها بقرار
إلى نظرية ديمقراطية تماما مثلما يحلم البعض بتحويل رمال الصحراء إلى
ذهب لأنها تشبه الذهب في لونه بينما كان البعض الآخر أكثر صدقا وإفصاحا
عن نواياه التسلطية عندما أعلن استحالة حكم العرب والمسلمين ديمقراطيا
ولا شك أنه يعبر عن حاله ويصف نفسه ولا يصف الإسلام الحقيقي إسلام أهل
البيت عليهم السلام بأي حال.
ويبقى أن الإمام علي بن أبي طالب كان يؤسس تأسيسا نظريا مبدئيا بما
تحتمله أدوات ذلك العصر الأول التي لم تكن تعرف الآليات الديمقراطية
التي استحدثها العالم فيما بعد ولو أتيحت له الفرصة لوضع هذه المبادئ
والقواعد في أرض الواقع لما وصل حال المسلمين إلى ما هو عليه الآن من
تخبط وديكتاتورية جرى التأسيس لها باسم الإسلام والدين ويبقى أيضا أن
كل ما يقال عن غيره من احترام لحرية الرأي ومساواة بين الناس هي محض
مبالغات لا أساس لها ويكفي كل هؤلاء أن الذين دفعوا الخليفة الثالث
عثمان بن عفان لترأس الأمة الإسلامية كانوا عالمين بأنه سيحمل بني معيط
على رقاب الناس وبتحذيرات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتتالية
من بني أمية ورغبتهم العارمة في التحكم في الرقاب وفي الثروات (إذا بلغ
بنو العاص ثلاثون رجلا اتخذوا مال الله دولا وعباده خولا ودينه دخلا)
وهوما حدث بعد ذلك بالفعل (راجع كتابنا عن الجمل وفقه الطابور الخامس).
وأخيرا نرى الإمام في وصيته لمالك الأشتر لما ولاه أمر مصر يؤكد له
على أهمية التواصل المباشر مع الجماهير المستضعفة من أصحاب المظالم
والشكاوى ممن يلحق بهم الظلم أكثر من غيرهم لضعفهم واجتراء الأقوياء
عليهم وما يغلب على ظن هؤلاء المستكبرين من أن هؤلاء البسطاء غير
قادرين على إيصال صوتهم لصاحب السلطة على عكس المقربين من دوائر السلطة
من كبار القوم ومن هنا يصبح هذا الاتصال المباشر ضرورة من ضرورات تحقيق
العدل في أي نظام سياسي فيقول (واجْعلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ
قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً
عَامّاً، فَتَتَواضَعُ فِيهِ لله الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقعِدُ عَنْهُمْ
جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ حَتَّى
يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِع، فَإِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ(عليه وعلى آله الصلاة والسلام) يَقُولُ فِي غَيْرِ
مَوْطِن: "لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا
حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع". ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ
مِنْهُمْ وَالْعِيَّ وَنَحِّ(2) عَنْكَ الضِّيقَ والأنف، يَبْسُطِ
اللهُ عَلَيْكَ بَذلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ
طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً، وَامْنَعْ فِي إِجْمَال
وَإِعْذَار).
www.elnafis.net |