شبكة النبأ: الانظمة السياسية للدول
المتطورة تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، وتعتمد النظام المؤسساتي
لكبح القرارات الفردية الطائشة، حيث القانون والدستور له القول الفصل
في إدارة شؤون الدولة، وفي مثل هذه الانظمة الواعية هناك فصل أكيد بين
الثقافة والسلطة، وإعتاق مطلق للثقافة من سطوة السلطة السياسية
وهيمنتها.
في الدول المتأخرة سياسيا يحدث صراع بين السلطة السياسية وبين سلطة
الثقافة، لذا ينتقل الصراع ليصبح قائما على نحو دائم بين السياسي
والمثقف، السياسي في الدول المتأخرة جاهل في الغالب ولا يتمتع بالصفات
الاساسية التي يتطلبها العمل السياسي، وهو يعرف قدراته المحدودة
وانعدام الموهبة لدية، على العكس من المثقف الذي يكون اكثر وعيا وفهما
للامور استنادا الى عقل متنور وموهبة تتيح له تصدر المشهد المجتمعي،
لهذا يبقى السياسي يشعر بالنقص ازاء المثقف، فيلجأ الى أساليب كثيرة من
احتواء المثقفين وشرائهم بالمال والمنافع، وقد ينخرط مثقفون في هذا
المنزلق، فتتشكل منهم ثقافة السلطة، لكن سلطة الثقافة تبقى حاضرة،
ويبقى ضغطها على النظام السياسي الفاشل قائما.
الانظمة السياسة الواعية، تفصل الثقافة وتبعدها عن سيطرتها وتدعمها
في الوقت ذاته، لأنها تعرف أن الثقافة المستقلة مصدر قوة للدولة
والمجتمع، وبهذا يستفيد النظام السياسي نفسه من الثقافة المستقلة، لأنه
يفهم المعادلة التي تقول، كلما تقلصت المسافة بين الثقافة والسلطة
السياسية كلما تم توظيفها لخدمة النظام السياسي حصرا حتى لو كان فاشلا،
وكلما ازدادت المسافة الفاصلة بين الثقافة والسلطة، كلما أعطت الثقافة
ثمارها المبتغاة لبناء الدولة والمجتمع.
هذه المعادلة الدقيقة بين الثقافة والسلطة، لا تفهمها الانظمة
الفاشلة المستبدة، لذلك تقوم هذه الانظمة بصناعة ثقافة سلطوية تسايرها
وتسكت عن أخطائها وجهلها وتخلفها، فيما تغيَّب الثقافة المستقلة التي
تتشكل منها روح الامة، لأن الثقافة كما هو متفق تنعكس على المنظومات
الاخرى كافة، بمعنى اوضح اذا كانت الثقافة معافاة فإن الاقتصاد
والاجتماع وحقول الحياة الاخرى فضلا عن النشاط المجتمعي، كلها ستكون
معافاة ايضا تحت تأثير الثقافة فيها وعليها.
هذه النتائج التي تعكسها الثقافة المستقلة لا تروق للنظام السياسي
الجاهل، الذي يقوم على مبدأ حماية العرش بالقوة الغاشمة، واللجوء الى
القمع وتصفية المعارضين ونفيهم وتشريدهم، وبهذا سيحدث الانهيار المتوقع
للمجتمع، لأن الانهيار الثقافي سينعكس على الجميع، حتى على النظام
السياسي نفسه، في حين تقوم الانظمة الناجحة بدعم الثقافة وتأكيد
استقلاليتها، لأنها تعرف وتؤمن بأن هذا الدعم هو السبيل الذي يؤكد نجاح
النظام السياسي في ادارة البلاد، ويلغي كليا حالة الصراع بين المثقف/
السياسي، وهي ظاهرة يمكن ملاحظتها بوضوح في الدول التي تقودها أنظمة
ضعيفة، أو جاهلة، أو فاشلة.
لهذا يجب ان يتم فصل الثقافة عن السلطة السياسية، مع توافر الدعم
الحكومي لكل ما يتعلق بتنمية الثقافة، بل من مصلحة النظام السياسي أن
تُبنى ثقافة مستقلة، وأن تنمو سلطة الثقافة كبديل أساسي لثقافة السلطة،
وأن تتحرك سلطة الثقافة في معزل عن ثقافة السلطة، حيث تؤدي الثقافة
المستقلة دورها السليم في بث الوعي الجمعي وتشكيل منظومة سلوك وافكار
تدعم البناء المدني للدولة وللنظام السياسي نفسه.
ولا ينبغي أن تكون هناك خشية من الثقافة او المثقف، لأن النتيجة سوف
تصب في صالح البناء السليم للدولة، وهو أمر يُحسب لصالح النظام
السياسي، ولكن لن تتحقق هذه الافكار ولا تتحول الى نتائج عملية ما لم
تتكئ مسارات الدولة على مرتكز الفصل بين السلطات الثلاث أولا، وبصورة
عملية، ثم الفصل بين الثقافة وبين السلطة، مع حتمية تقديم الدعم التام
للمنظمات الثقافية، وصولا الى بناء ثقافة قوية حرة، قادرة على بناء بث
مستوى عال من الوعي في المجتمع، مع تأشير الاخطاء التي قد ينزلق فيها
النظام السياسي المؤسساتي، بقصد التصحيح وليس الانتقاص او التشهير. |