شبكة النبأ: قبل ما يقرب الخمسين عاما،
كانت ظاهرة القراءة تفرض نفسها على المشهد العراقي اليومي، وكانت
العلاقة بين القارئ العراقي والكتاب جيدة، إذ يمكن ملاحظتها في الحدائق
العامة وفي المقاهي وحافلات النقل وسواها، وحين كنا صغارا، كنا نندهش
من كثرة قراء الصحف وكتب الجيب، وكان ركاب سيارات النقل يتبادلون الصحف
او الكتب، فضلا عن الحوارات المفتوحة، لكن مع مرور السنين كانت ظاهرة
القراءة في العراق تنحسر على نحو تصاعدي (عكس ما يجري في العالم
المتطور)، حتى وصلت الى قطيعة شبه تامة، إذ لم يعد يهتم بالقراءة إلا
الوسط المستفيد منها، أو الذي يعمل في الوسط الثقافي، مع قلة من القراء
لا تشكل نسبة مهمة من المجتمع، وهو أمر يدل بصورة قاطعة الى تدني هيبة
الكتاب، وضعف الاقبال على القراءة كفعل فكري يومي يشكل غذاءً للروح،
إلا أن الذي كان يحدث، يعطي تصورا حقيقيا مخيّبا، فقد تحولت القراءة
الى ترف بالنسبة للعراقيين الذين انشغلوا بكسب قوتهم اليومي، وصار
اقتناء الكتب حاجة كمالية، بل اقدم كثير من الادباء والمثقفين وحتى
عامة القراء على بيع كتبهم في شارع المتنبي وغيره (لاسيما في عقد
الحصار التسعيني)، لكي يشتروا بأثمانها رغيف الخبز!.
هكذا تضاءلت العلاقة بين القارئ والكتاب شيئا فشيئا، لتستمر على نحو
أعمق حتى بعد نيسان 2003، إذ انشغل الناس مرة اخرى بتعويض الجانب
المادي المفتقَد، فانهمكوا بشراء أجهزة التلفاز والستلايت والموبايل،
ثم اجهزة الكومبيوتر، والانترنيت، ثم الاجهزة المنزلية عموما، وبقي
الكتاب في اسفل قائمة الاحتياجات، وبقيت القراءة حاجة غير مرغوب بها،
ولا يهتم بها إلا من يعمل في الصحافة او الادب.
حتى وصلت العلاقة بين القارئ والكتاب درجة الصفر، واصبح فعل القراءة
شبه منسي، بل ربما يستغرب احدنا حين ينظر الى شخص ما وهو يقتعد مقعدا
في حديقة عامة ويقوم بالقراءة!!، وفي الحديث عن الاسباب، لابد أن نضع
الحكومة والجهات المعنية بالثقافة في صدارة المسؤولية عن هذه النتائج
الخطيرة، لأننا نتفق على أن الشعب الذي لا يقرأ سيعيش مع الثالوث
القاتل (الجهل/ المرض/التخلف) فترة طويلة، وهو ما حدث للعراقيين فعلا.
أما المشاريع التي قامت بها الجهات الرسمية او المنظمات الثقافية
لتفعيل المشهد الثقافي الشعبي وسواه، فهي في الغالب مشاريع شكلية، لا
روح فيها، فكيف تمنح الروح الى غيرها!؟، وقد ابدى القائمون على الثقافة
(حكوميون أو أهليون)، من خلال بعض المشاريع الثقافية، رغبة بإعادة هيبة
الكتاب والقراءة، ولكن غالبا ما كانت ترافق هذه التوجهات عمليات فساد
وتجاوز على المال العام، تفضح تلك المشاريع والقائمين عليها، ولدينا ما
يدل على هذا الرأي، كما حدث في مشروع (النجف عاصمة الثقافة الاسلامية)،
الذي فشل وتم إلغائه او تأجيله بسبب الفساد.
مع كل هذا حاول مجموعة من الشباب العراقيين المستقلين، لا تدعمهم
جهة خارجية او داخلية، ولا جهة حكومية، أن يعيدوا للقراءة حضورها
وللكتاب هيبته، وقاموا عبر - عمل طوعي جماعي- استمر شهورا عدة، بجمع
آلاف الكتب عن طريق التبرع، وتم نشرها في مساحات واسعة من حدائق أبي
نؤاس، وقد روّجوا لمشروعهم هذا عبر وسائل الاعلام المتعددة ومها وربما
أهمها مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك)، وعند الافتتاح تدفقت
مجاميع كبيرة من القراء، من مختلف الاعمار ومن كلا الجنسين، وأخذوا
يطالعون الكتب بإمعان وتلهّف ورغبة كبيرة، الشيخ يقرأ، المرأة العجوز
تقرأ، الكهل يقرأ، الشاب يقرأ، المراهق يقرأ، الاطفال لهم حصتهم من
الحضور، والكل تفاعل مع شعار هذا المشروع الثقافي الطوعي العفوي الاهلي
(أنا عراقي أنا أقرأ)، وما يبعث على الفرح أن القائمين على المشروع على
الرغم من الجهد الكبير الذي بذلوه والذي استمر طيلة شهور، إلا أن احدهم
لم يستأثر بالنتيجة المفرحة للمشروع، ولم يرغب احدهم ان يكون بالواجهة،
إلا من اجل التنظيم وابداء المساعدة، على خلاف قادة الثقافة الرسمية او
المؤسسة الثقافية، فهم غالبا ما يتصدرون المشهد، فيجلسون في الصفوف
الاولى ويتصدرون الندوات والجلسات وما شابه، ولكن ما أن ينتهي مشروعهم
الثقافي حتى تجد ان لا اثر لهم ولا لمشاريعهم!.
المطلوب الآن من الجميع ان يقولوا كلمة حق وثناء للشباب القائمين
على مشروع (أنا عراقي أنا أقرأ)، وان نأخذ من هذه التجربة العفوية
الناجحة عبرة للنجاح في مشاريعنا الثقافية، وأن يكون المواطن القارئ هو
المستهدف من اي نشاط ثقافي، كما حدث في هذا المشروع، وأن تكون النزاهة
والشفافية، عنوانا بارزا لمشاريعنا الثقافية الحكومية والاهلية، وأن
يتحلى قادة العمل الثقافي الحكومي والاهلي، باخلاق وصفات وإيثار كادر
مشروع (أنا عراقي أنا أقرأ) الشبابي المثير للغبطة والأمل. |