اليونان هي الدولة الأقل حظا في النمو الاقتصادي بين شقيقاتها
الأوربيات تجسد نموذجا حقيقيا لاقتصاد أنهكه التقشف، حيث يجري افقار
شعبها بأشد أدوات السياسة المالية قسوة واذلالا. وفي الوقت الذي كان
يجب التركيز على كيفية معالجة الانكماش الاقتصادي (تراوح بين – 3،0%
و-6% منذ عام 2000 ويبلغ العام الحالي -4 %)، وبحث السبل الكفيلة
بتحسين الأداء الاقتصادي، يضغط صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي
على اليونان لتنفيذ اجراءات مالية بالغة الشدة لخفض حاد في النفقات
لمعالجة عجز الميزانية وخفض دينها العام الذي شكل 159% ناتجها القومي
الاجمالي لعام 2011 البالغ 270 بليون يورو.
لكن معالجة عجز الميزانية وخفض الدين العام لا يمكن معالجتهما
بمزيد من الديون، بل بزيادة معدل التراكم الرأسمالي عبر الاستثمارات
الجديدة في الموارد الاقتصادية وزيادة الصادرات، وان تستخدم القروض
لتمويل تلك الاستثمارات بالدرجة الأولى التي ستتيح فرص العمل للعاطلين
فتتحسن قوتهم الشرائية ما يحفز استثمارات جديدة. وبفضل ذلك فقط تتمكن
اليونان من تحسين حياة شعبها وتنفيذ التزاماتها المالية تجاه الدائنين
الدوليين. فمشكلة العجز المالي والديون هما النتيجة المباشرة لضعف
الأداء الاقتصادي وانعدام التراكم الرأسمالي لا العكس، وهذا ما يتم
تجاهله من قبل حكومة اليونان ومن صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوربي.
ما سمي بخطة الاصلاح الاقتصادي الأوربية التي ألزمت اليونان
بتنفيذها من قبل الاتحاد الأوربي تضمنت أكثر من 70 أمرا، بينها اجراءات
لتخفيض النفقات العامة وزيادة الضرائب على الطبقة العاملة والمتوسطة
وخصخصة القطاع العام. البرنامج دفع بالاقتصاد اليوناني الى مزيد من
المصاعب الاقتصادية والاجتماعية التي يدفع ثمنها ذوي الدخل المحدود
والعاطلين عن العمل، وحول اليونان الى رهينة في أيدي المضاربين
الماليين الدوليين. فالقروض التي استلمتها اليونان من الاتحاد الأوربي
البالغة 329 بليون يورو ليست هي كل الدين العام الذي يتوجب اعادة دفعه،
بل هناك الفائدة السنوية على القروض التي سترفع مبلغ الدين العام الى
رقم أسطوري لن تتمكن اليونان باقتصادها الراهن الواهن أن تعيده الى
دائنيها في الأمد المنظور أبدا. وفي حالة تخلفها عن دفع أقساط الدين في
مواعيده فستفرض عليها فوائد اضافية. ومع كل هذه التكلفة العالية للقروض
يعتبر الأوربيون ذلك دعما ماليا، فكيف يكون شكل الاستغلال اذا؟
المتتبع لعملية الاقراض والاقتراض بين اليونان وصندوق النقد الدولي
والاتحاد الأوربي يلاحظ انها ليست أكثر أو أقل من مبادلة دائن بدائن
آخر، اضافة الى أن الحكومة اليونانية لم تستخدم القروض السابقة من
الاتحاد الأوربي لأغراض التنمية الاقتصادية، بل لتسديد قيمة سندات
الخزينة المستحقة الدفع. وهي تتفاوض حاليا من أجل منحها مهلة زمنية
حدها الأقصى سنتان لاستكمال تنفيذ برنامج الاتحاد الأوربي المشار اليه
وقرضا ماليا آخر بحدود32 بليون يورو لمواجهة سندات خزينة مستحقة الدفع
في فترة قريبة قادمة. وفي تصريح لفيليب روزلر نائب المستشارة ميركل في
تموز الماضي تعليقا على ما تردد بان اليونان في طريقها لترك منطقة
اليورو قال فيه: " إن القول بترك اليونان لمنطقة اليورو قد فقد وقعه
المخيف، وانه ليس هناك على جدول الأعمال أي قرض جديد قبل أن تنفذ
اليونان التزامات برنامج الاصلاح الذي وضعه الاتحاد الأوربي".(5)
أما هل تستطيع اليونان تسديد ما بذمتها من أموال لدائنيها الجدد
فأمر لا يستطيع أحد التنبؤ به. لكن هناك احتمالان ستتصرف اليونان
وفقهما تجاه بلايين الدولارات التي بذمتها، فاما اعلان افلاسها عالميا
لعدم قدرتها على الدفع، وعودتها الى عملتها المحلية الدراهما وعندها قد
تعفى من بعض التزاماتها المالية. لكنها لن تكون قادرة مستقبلا على
الاستدانة من السوق العالمية لفقدان الثقة بقدرتها على الدفع. علما أن
العودة للدراهما ستقود الى ارتفاع لولبي في نسب التضخم سيستمر لمدة
طويلة، مما سيخلق مصاعب جديدة للمستثمرين اليونانيين والأجانب ولذوي
الدخل المحدود من اليونانيين.
أما الاحتمال الثاني فهو الاستمرار في تجويع شعبها حتى تتمكن بما
توفره من قوت الفقراء للايفاء بديونها وهذا ما تسير عليه اليونان حتى
الآن، لكن طريقا كهذا سيكون قصير النظر وقد يحكم على الاتحاد الأوربي
بالموت قبل الأوان، فشد الحبل على البطون لا يمكن أن يستمر الى أجل غير
مسمى.
فالجماهير التي يسحقها الفقر وتفقد الأمل في تحسين حياتها المعيشية
أمام انعدام فرص العمل لن تخسر شيئا بالثورة على نظام الأقلية
الارستقراطية الفاسدة المعزولة عن هموم شعبها وفرض رؤيتها للمستقبل بما
فيه تأميم المصالح البرجوازية لتمويل عملية بناء اليونان الجديد. وما
سيشجع اليونانيين الغاضبين على الثورة هو التمييز الطبقي الذي تتبعه
الحكومة البرجوازية الحالية، فهذه الحكومة والتي قبلها قد حملتا الطبقة
العاملة ومحدودي الدخل والعاطلين عن العمل أعباء عجز الميزانية
والديون، بينما تركت أصحاب البلايين من محتكري الثروة والدخل بعيدا عن
متناول ادارة الضرائب.
انتفاضة جماهيرية في اليونان أو في غيرها من الدول الأوربية سيفتح
أبواب التاريخ لعصر جديد للثورات الشعبية الأوربية. ففي الأسبوع الأخير
من سبتمبر الماضي تظاهر في وسط أثينا عشرات الآلاف من اعضاء الاتحادات
العمالية التي تضم حوالي أربعة ملايين عضو، تظاهروا ضد سياسة الحكومة
اليونانية والاتحاد الأوربي باعتبارهما مخططي سياسة التقشف التي الحقت
الأذى بهم وباطفالهم.
وكانت مظاهرات مشابهة قد قامت في ايطاليا واسبانيا والبرتغال
وأيرلندا عبرت بوضوح عن مشاعر السخط على حكوماتها، وطالبت باجراء
استفتاء شعبي على سياسة التقشف المفقرة التي تطبقها. واذا ما حصل
الاستفتاء بالفعل فان الحكومات الحالية سيطاح بها بالتأكيد، وسيسمح هذا
بتغيرات مهمة اقتصادية وسياسية لصالح الجماهير الشعبية، بتوزيع أكثر
عدالة للدخل والثروة الوطنيين وأكثر مساواة في توزيع أعباء تسيير
الدولة من ضرائب ورسوم، وتنهي القاعد السائدة الآن في الدول الصناعية
المتقدمة التي تتحمل وفقها الجماهير الأعباء، بينما يتمتع الأثرياء
بالامتيازات.
ونتيجة الزيادة العظيمة في انتاجية العمل التي أتى بها التقدم
التكنولوجي أتيح لأرباب رأس المال الحصول على ثراء مادي لم يكن له مثيل
في العصور السابقة. وأن هذا الثراء الفاحش لم يتوزع بعدالة، بل تعاظم
تركيزه بأيدي ضئيلة داخل كل دولة من الدول الصناعية، مما أوجد حالة من
التفاوت الصارخ بين الأثرياء والفقراء في الدول الغنية، وبين هذه
والدول الفقيرة في العالم. وفي تقرير نشرته الحكومة الألمانية تحت
عنوان " تقرير حول الفقر والثراء " ورد فيه: (6)
أن الخمس الثري من العائلات الألمانية كان يستحوذ على 63،4% من
مجموع صافي الثروة المتاحة للقطاع العائلي، أما الخمس الفقير فانه يئن
تحت وطأة الديون المتراكمة في ذمته، فحصته من الثروة قيمة سالبة تبلغ
0،3% (أي ان صافي الديون المترتبة على كل اسرة قد بلغ في المتوسط حوالي
4000 يورو). إلا أن تركز الثروة لا يجسد فحسب من خلال التفاوت القائم
بين من يمتلك الثروة ومن لا يمتلك منها أي شيئا، بل هناك تفاوتا كبيرا
داخل الفئة المالكة للثروة أيضا. فالملاحظ ان 34% من مجمل الثروة
المستثمرة في الاقتصاد الألماني (من دون أخذ الثروة المالية المجسدة في
ملكية اسهم الشركات في الحسبان) كان من نصيب 1،6% فقط من المواطنين
الألمان. الحقائق الواردة في التقرير هي النموذج السائد في كل الدول
الصناعية، فعند المقارنة بين توزيع الدخل في ألمانيا وفرنسا، وبين هذه
وبريطانيا والولايات المتحدة لن نجد اختلافا بينا، بل ربما أشد تفاوتا
بين الفقراء والأثرياء، وبين ثراء القلة في الدول الأوربية وثراء القلة
في الولايات المتحدة. أما الأكثر فقرا فهم الأكثر تماثلا في كافة تلك
البلدان، فغالبيتهم يعانون من الفقر المعيشي، والسكن غير الملائم،
والحرمان من السفر والسياحة والدخل الذي يحفظ الكرامة، والتعليم
الجامعي والرعاية الصحية الملائمة.
مروجو الرأسمالية وأداتهم الليبرالية المحدثة وبرغم الكوارث
الاقتصادية التي تسببت بها سياساتهم ما يزالون يزعمون بان قوى خفية
كفيلة بتحقيق مصلحة المجتمع والتوازن الاقتصادي المنشودين بعفوية. وها
هم يجلسون في مكاتبهم ينتظرون للعام الخامس على التوالي دون أن يلحظوا
أثرا لتلك اليد الخفية في حين تتطلب الحاجة للكثير من الجهود للعمل
لتعديل مسار الاقتصاد بهدف تحقيق الانتعاش اليوم قبل الغد. ان هذه
العقيدة المتحجرة لن تصغي ابدا الى نداء المنطق العقلاني السليم، ومن
ثم لا عجب ان تحارب بضراوة فكرة قيام تدخل حكومي بتوجيه الاقتصاد بنحو
واع وتخطيط عقلاني. وسواء تعلق الامر بالمشروع الواحد أو بالاقتصاد
الكلي فان النشاط المدروس البعيد النظر يقلل كثيرا من المخاطر ويتيح
الفرصة لصوغ تنبؤات يمكن الاعتماد عليها.(7)
وبالنسبة لبلد كاليونان يعاني من بطالة عامة شاملة ينبغي زيادة
استثمارات القطاع الحكومي لاستيعاب أكبر عدد من العاطلين عن العمل في
المشاريع الاستثمارية الجديدة. ولابد من التأكيد هنا على أهمية اعتماد
التكنولوجيا كثيفة العمل في استثمارات الدولة لتستقطب أكبر عدد من
العاطلين، وأن يقتصر استخدام التكنولوجيا المتقدمة في المشروعات التي
بطبيعتها تعتمد على عدد أقل من العمالة عالية التدريب.
نبوءة ادم سمث وديفيد ريكاردو لا يمكن تطبيقها على نظام اقتصادي لم
تعد فيه البضائع فقط هي المادة التي تجري المتاجرة بها بين البلدان، بل
صار يتصف بامكان تنقل رأس المال بين البلدان في ثواني معدودة وبلا أي
تكاليف تذكر، وأصبح الافراد فيها يتخذون بمطلق الحرية القرارات الخاصة
بتحديد المكان الذي يشيدون فيه مصانعهم ويستثمرون أو يدخرون فيه
أموالهم.(8).
وبحسب منهج ادم سمث، يمكن لميكانيكية قوى العرض والطلب أن تغير
اثمان السلع والأجور ونسب الأرباح بما يحقق مصلحة كل من المستهلك
والمنتج والمجتمع، وقد اشترط لتحقيق ذلك أن تسود المنافسة الكاملة في
سوق السلعة بين المنتجين والمستهلكين. لكن سوقا كهذه لم تعد قائمة، ففي
ظل المتغيرات على الساحة الدولية اليوم تعمل الشركات الكبرى المنتجة
للسلع خارج القانون. (9) شركات كهذه تحتكر وتهيمن على أسواق المال
والمواد الأولية وانتاج السلع والتكنولوجيا، وتتقاسم احتكار أسواق
توزيعها عبر العالم، وتحدد أسعارها التي تحقق لها أقصى الأرباح خلف
الكواليس. ولهذه الشركات نفوذها وطريقة عملها، وادارتها تختلف عن نمط
الادارة في البلد الذي تعمل فيه، فمدرائها غير مهتمين بنجاح أو فشل
البلد الذي يعملون فيه، وما يشغلهم هو فقط الربحية. ومعظم الشركات
الكبرى لا تدفع أية ضرائب على الدخل وإن دفعت فتدفع أقل ما يمكن، وإذا
ما فرضت عليها ضرائب جديدة من قبل الدول التي تعمل فيها تهدد بغلق
أعمالها وترك البلاد. وهذا يجري اليوم في كل الدول التي استقبلت رؤوس
الأموال الأجنبية، مثل الصين والهند وفييتنام وبنغلادش واندونيسيا
والفلبين ورومانيا وغيرها، حيث يعمل العمال فيها في ظروف عمل قاسية لا
تحتملها حتى البهائم مقابل أجور تقل عشرين ضعفا عن الأجور في بلد ارباب
رؤوس الأموال المستثمرة في تلك الدول. وحيث تشترط لنشاطها عدم خضوعها
لقوانين العمل والسلامة في مكان العمل، وعدم خضوعها لضرائب الدخل
والاستيراد والتصدير، والأهم من ذلك والأسوء عدم الخضوع لقوانين حقوق
الانسان.
.............................................
لمزيد من الاطلاع يراجع:
1- , 26/8/2011,Press Associated The
Economic Collapse , Herms Press, July 2008-2
-3- كارل غيورك تسين، الرخاء المفقر، ترجمة د. عدنان
عباس، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى
2006 ص83
4- نفس المصدر ص177، ص 270
5- نفس المصدر ص144،
6- Marrill Goozner , The War on Poverty , The
Fiscal Times.com
7- كارل غيورك تسين مصدر سابق ص 176
8– هورست افهيلد، اقتصاد يغدق فقرا، ترجمة د. عدنان
عباس، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2007، الطبعة
الأولى ص226
9- كارل غيورك تسين، مصدر سابق ص178 |