الشيخ محمد جواد مغنية... رحلة العلم والالم

 

شبكة النبأ: محمد جواد مغنية ..اسم لامع وعلم خافق في سماء العلم والفكر تبوَأ مكانة كبيرة بين العلماء والمفكرين الكبار الذين افنوا حياتهم في خدمة الاسلام والمسلمين.

لم تكن رحلة العلم سهلة عند شيخنا فقد امتزجت رحلته هذه بالدموع والالام والجوع والحرمان والقهر والعذاب حتى استطاع ان ينقش اسمه في سجل الخالدين فصارع الحياة وحارب العقبات واستطاع ان يصنع ذاته بذاته ويكون مجده بيده عاش حياة قاسية امتزجت فيها الكدح والكفاح والمعاناة والبؤس الا انها خلت من الياس فامتلات فصول حياته بالحركة والمتابعة والدراسة والعلم والعمل حتى اصبح من علماء الاسلام الكبار ونجد في انطباع الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية حول شخصية محمد جواد مغنية نافذة لتسليط الضوء اكثر على شخصية مغنية العلمية والفكرية والاجتماعية يقول الشيخ حسن خالد: (ولقد كان الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) فضلاً عن مكانته الاجتماعية عالماً فاضلاً واسع العلم غزير المعرفة في ما انتجه وينتجه كبار العلماء وجهابذة الفكر والادب والفن متابعاً لهم سواء اكانوا من المسلمين ام من غير المسلمين يراقب عطاؤهم ويكسب منه الكثير مع شدة محاكمته لهم ولقد كان كاتباً طيَع القلم سهل العبارة غزير المادة عميق الغور دقيق النظرة وكان من العلماء القلائل الذين برزوا في هذه

الحقبة من الدهر واعطوا الفكر الاسلامي فيضهم الفكري والروحي واثروا مكتبة بل ودرسوا واقع امنهم وما اصابهم من ظلم وتخلف وعدوان وناقشوا اسباب ذلك ورسموا له بالتالي بفكرهم الرشيد ونظرهم البعيد معالم الطريق).

قد نجد في هذا القول المقتضب صورة قريبة لهذا العالم الجليل ولكنها بدون مؤثرات ونرجو ان نوقف في اعطاء صورة اقرب الى الاذهان عن رحلته الشاقة مع الحياة وسلوكه الجانب العلمي من خلال هذا الموضوع.

ولد الشيخ محمد جواد مغنية وهو اسم مركب بن الشيخ محمود محمد مغنية عام 1904م في جبل عامل بلبنان في قرية تسمى(طير دبا) ونشا في ظل اسرة علمية عريقة في القدم يعود تاريخها الى اكثر من ثمانمائة عام تقريبا وقد اشتهرت هذه الاسرة الكريمة بالوجاهة العلمية والاجتماعية فالشيخ محمد مغنية جد محمد جواد مغنية عالم كبير ومعروف وله مكانته العلمية وحضوره الديني ويعد من الوجوه المعروفة في الاوساط الدينية والسياسية توفي كما يذكر السيد محسن الامين العاملي في اعيان الشيعة سنة 1253 للهجرة في قرية(طير دبا) بعد ان كان قد ارسل ولده محمود والد شيخنا محمد جواد الى النجف الاشرف لطلب العلم جريا على عادة قديمة تعود الى ثمانمائة عام او يزيد اما الشيخ محمود فألى جانب كونه يعد من العلماء الاعلام فقد عرف ايضا بين اوساط الادباء اديبا كبيرا وشاعرا مجيدا يقول عنه السيد حسن الصدر في كتابه(تتمة أمل الآمل) ص396 ما نصه: (الشيخ محمود مغنية من اهل الغور والتحقيق في

المطالب العلمية والحقائق الواقعية, قل في معاصريه من العرب من وصل الى مقامه في نيل المطالب ).

اما السيد محسن الامين العاملي فقال عنه في اعيان الشيعة/المجلد العاشر ص110 ما نصه: (كان الشيخ محمود مغنية عالما فاضلا اديبا كريم الاخلاق حسن السجايا) وفي ميدانه الادبي يسجل لنا الاستاذ علي الخاقاني هذه الكلمات في شعراء الغري ج11 ص192_193 يبين لنا مدى قوة تاثير شعره واجادته في هذا الميدان فيقول: (ان السيخ محمود مغنية يسمعنا بشعره صوتا من عالم اسمى ويعيد برائع بلاغته وعذوبته وتبيانه عصر ابي تمام والبحتري تتسلق عن وصفها الافكار وقد ذكر السيد محسن الامين بعضا من شعره في موسوعته(اعيان الشيعة) عند الحديث عن ترجمته.

ويبدو ان شيخنا حمد جواد مغنية قد تاثر في بداية حياته باتجاه والده الادبي فكان مكبا في بواكيره على الشعر وكتابته رغم انه لم يعش مع والده طويلا فبعد ان عاد الشيخ محمود الى لبنان من النجف الاشرف لم يطل به المقام في قريته اذ سرعان ما انتقل الى جوار ربه عام 1916 ولم يتجاوز عمره الرابعة والاربعين عاما اما ام الشيخ محمد جواد فيحدثنا هو عنها في تجاربه (ص22)فيقول: (امي من اسرة هاشمية من آل شرف الدين ماتت وانا في الثالثة او الرابعة من عمري ولا اتذكر شيئا من ملامحها وصفاتها ولا من علاقتي بها واهتمامها بي سوى صور غامضة مبهمة ).

بعد وفاة والدته بقليل هاجر والده الى النجف واصطحبه معه فبقي شيخنا في النجف الاشرف اربع سنوات وفي هذه الفترة تعلم القراءة والخط والحساب ومبادئ النحو كما درس اللغة الفارسية واتقنها وهو مايزال صغيرا وحين عاد الى موطنه في جبل عامل كان قد نساها تماما لانه لم ينطق بها ابدا وكان شيخنا سريع الحفظ فقد حفظ الكثير من القواعد ظنا منه (ان العلم هو حفظ الكلمات المطبوعة في الكتاب عن ظهر قلب وكفى).

كما يقول في حديثه عن بداية حياته العلمية وكان يسعد حينما كان والده يكافئه بقطعة من النقود على ما حفظ وعندما بلغ شيخنا التاسعة قفل راجعا برفقة والده الى لبنان وعندما وصل الى سن العاشرة مات ابوه الشيخ محمود وقد خلف الشيخ محمود ثلاث اولاد وبنتا واحدة اما بالنسبة للبنت فقد تزوجت في حياة ابيها من الشيخ محمد تقي الصادق وهو احد العلماء المجتهدين كما يقول شيخنا عنه. اما الذكور فهم الشيخ عبد الكريم وهو اكبر الابناء ثم ياتي شيخنا محمد جواد ومن ثم الاخ الاصغر ويسمى احمد.

لم يجد شيخنا امامه من ملجا يلجا اليه بعد وفاة ابيه سوى منزل اخيه الشيخ عبد الكريم فانظم مع اخيه الصغير احمد الى عائلة اخيهما ولم يبد الشيخ عبد الكريم اي تقصير تجاه اخويه فكان لهما بمنزلة الام والاب والاخ ولكن القدر يابى ان يستظل شيخنا بظل الراحة والاستقرار فبعد سنتين قرر الشيخ عبد الكريم ان يرحل الى النجف كعادة اسلافه من اجل طلب العلم فقد سافر اما زوجته فقد تركت البيت وذهبت الى بيت ابيها وهنا تبدا رحلة الشقاء والبؤس الذي رافق شيخنا لسنين طويلة اذ لم يبقى له معيل يفي بمتطلبات حياته حتى الطعام كان محروما منه ولا يحصل عليه الا بصعوبة بالغة ومعاناة شديدة فيمر عليه احيانا اكثر من يوم وهو لم يتناول اي شئ من الطعام ولندع شيخنا يصف هذه الفترة المريرة من حياته فيقول: (كنت اقضي الايام طاويا لا اذوق الطعام الا حبات من الحمص المقلي حتى هذه كان يحرمني منها صاحب الدكان لعجزي عن وفاء الدين القديم وما ذلت اذكر حتى الان اني امضيت ثلاثة ايام لم اذق فيها شيئا).

والى جانب مشكلته مع الطعام ومعاناته القاسية في سبيل الحصول عليه فقد كان يعاني من مشكلة اخرى لا تقل عن اختها قساوة ومرارة وهي مشكلة البرد القارس في الشتاء العنيف وخاصة في الليل فقد كتب عليه ان يصارع الحياة وقسوتها وهو لم يبلغ الثالثة عشر من عمره ويصف شيخنا حالته المؤلمة بكلام موجع فيقول: (كنت اخشى فصل الشتاء والبرد وخاصة اذا غابت الشمس واقبل الليل, كنت اقيم في بيت ابي القديم اجلس على الارض واثني ساقي واضعا صدري على فخذي وساعدي على راسي اغطي جسدي بعضه ببعض حتى اصبح كالصرة المربوطة عسى ان تخف وطأة البرد فأٌبت من جراء ذلك بمرض الروماتيزم ولازمني اكثر من 72 عاماً).

بعد معاناة طويلة مع الفقر والجوع والاحساس بالغر بة قرر شيخنا ان يترك القرية وينتقل الى العاصمة بيروت لعله يجد عملا يسد به رمقه بعد ان ضاق ذرعاً بحياة البؤس في قريته المعدمة لكنه لم يجد اي وسيلة تنقله الى بيروت لانه لا يمتلك شيئاً من المال فلم يجد امامه الا ان يذهب ماشيا رغم البعد الذي يفصل قريته عن بيروت وبعد يومين قضاها سيرا على قدميه وصل بيروت عند الغروب وسار في الاسواق واعجبه منظر(الترام) واستولت عليه الدهشة من منظر لكنه لم يعرف تماما الى اين يتجه فهو غريب عن هذه المدينة ضائع فيها واخيرا ابتسم له الحظ فالتقى باحد ابناء قريته الذي استضافه عنده في الغرفة التي تملكها عجوز ويسكن فيها اكثر من عشرين فرد من ظمنهم العجوز وابنها وتضع حاجزاً بينها وبينهم خلال اربع سنوات قضاها كدحا في العاصمة بيروت طرق شيخنا وهو في حداثة سنه كل الابواب للحصول على عمل يسد به رمقه فقد جرب بيع الكتب والقصص وبيع المرطبات والعمل في فرن لبيع الكعك ونجح في مهنة صناعة الحلوى بنفسه واخذ يبيعها وكانت هذه المهنة هي نهاية المطاف في بيروت.

ولم نشا من وراء وصف الجزئيات والحيثيات التي مر بها شيخنا في سني حياته الاولى سوى الاشارة الى ان مثل هذه النفوس الكبيرة لا تعرف الياس بل تواجه الحياة بكل ما اوتيت من عزيمة وارادة برغم كل ما مر به شيخنا من احداث ومصاعب لكنه لم يستسلم للفقر ولا لقساوة الحياة واستطاع ان يصنع ذاته بذاته ويكون شخصيته ويبني قاعدة علمية ينطلق منها شانه شان العظماء والخالدين فالمجد ليس هبة توهب لاحد بل هو غال ثمنه التضحية والعمل والمشقة.

فطوال السنوات الاربعة التي قضاها كادحا في بيروت كانت روحه تهفو الى مدينة العلم النجف الاشرف ونفسه تتوق الى مجالس العلم والفقه فيها لكي يلتحق بركب عائلته ويصبح من العلماء كما كان ابوه واحداده وقد عد سنوات البؤس التي قضاها في بيروت (نعمة من الله) حيث يقول: (من نعم الله علي اني نشات يتيم الابوين ولليتيم اكثر من صورة وكلها عواصف وقواصف لكن آثاره على الرغم من ذلك اضداد متنافرة فقد يؤدي اليتم الى التسول وارتكاب الجرائم وقد يجعل الله فيه خيرا فيضع اليتيم كيانه من آلامه ويحقق ذاته من اوصابه تماما كما تصنع الشعوب المغلوبة من اغلالها معولاً تحطم به السدود والقيود).

ولم تكن رحلته الى النجف بالهينة بل كانت تشوبها المصاعب والمخاطر خاصة انه لا يملك الاوراق الرسمية ولا المبلغ الكافي لكنه يمتلك بدلهما الارادة والعزم لتحقيق طموحه فالامل فطرة اودعها الله في عبه حتى لو تحطمت سفينة الانسان في بحر الياس والالم. فعقد شيخنا العزم على السفر الى النجف الاشرف سيرا على الاقدام ان اقتضى الامر ذلك وبعد رحلة محفوفة بالمخاطر وصل الى النجف الاشرف وذلك عام 1952 لتبدأ رحلة مهمة في حياته وهي رحلة العلم فما ان نزل في النجف وحل في بيت اخيه الشيح عبد الكريم حتى بدأ بدراسة المقدمات كالاجرومية وقطر الندى على يديه ثم انتقل الى الاصول والفقه واضاف الى اخيه الاكبر فقد تتلمذ على يد السيد محمد سعيد فضل الله وبعد ان انتقل من المقدمات الى السطوح والبحث الخارج درس شيخنا على يد السيد ابو القاسم الخوئي والشيخ محمد حسين الكربلائي والسيد الحمامي وكانت تربطه معهم علاقة وثيقة ورابطة قوية كما بدأ شيخنا يكتب المقالات وينشرها في مجلة (العرفان)، وتوالت كتاباته في النجف التي كانت منطلقاً لكتاباته وبعد عشرة اعوام في النجف عاد الى لبنان وقد كان لحبه للنجف وشغفه به اثراً في كتاباته فقد الف: (مع علماء النجف) وهو كتاب تحدث فيه عن علماء وشخصيات علمية كبيرة من هذه المدينة كما تناولت مقالاته تاريخ هذه المدينة منها: (العلم النجفي) و(مدينة النجف) و(النجف في ألف عام)

و(حول النجف الاشرف) و (النجف الاشرف في القرن العشرين) و(حديث النجف وذكرياته) وغيرها من المقالات.

عاد شيخنا الى لبنان في عام 1936 عالماً دينياً في قرية (معركة) بقضاء صور وبدأ يمارس مهمته بنشر الوعي الاسلامي بألقاء دروس في تفسير القرآن الكريم وسيرة الرسو(ص) واهل بيته(ع) غير ان ايام الشقاء أبت ان تفارق شيخنا فعاش ايام (معركة) في ضيق شديد حيث يقول: (مر علية اسبوع او اكثر وان اقترض الخبز لي ولعائلتي).

ورغم هذه الحياة الصعبة الا ان الذي كان يعذب الشيخ اكثر هو انقطاعه عن الحياة العلمية والفكرية التي الفها في النجف الاشرف حيث يقرأ ويدرس ويناقش ويدرَس ويكتب ويؤلف وينمو شيئاً فشيئاً وفجأة يرى نفسه في قرية نائية معزولة لا توجد فيها مكتبة ولا كتاب.

بعد اربعة اعوام قاسية قضاها في قرية (معركة) غادرها الى قرية (طير حيفا) التي وجد فيها شيخنا ما عوضه عن اجواء مجالس النجف الاشرف حيث انهمك في قراءته بعد ان تحسنت احواله المادية فأنكب على كتب الفقه والاصول والادب والفلسفة والتاريخ اضافة الى متابعته لما تخرجه المطابع في مصر ولبنان والخليج من كتب في الدين والادب والثقافة المتنوعة فكان يقرأ كل ما تقع عليه عيناه من هذه الكتب وفي تلك القرية الف شيخنا رسالة في الضمان واخرى في الارث وهما بحثان فقهيان اضافة الى تاليف في الاصول منها رسالة بعنوان (في مجهول التاريخ) وبحثاً في (التضمين) وهو دراسة لغوية وألف كتاباً بعنوان (المرأة) وصنف كتاباً في (دعبل والكميت)، ثم وضع كتاب (المجالس الحسينية)، وكتاب (الوضع الحاضر في حبل عامل).

لقد كانت السنوات التي قضاها شيخنا في هذه القرية خصبة وكان فيها مثمراً ولكن طموحه كان اكبر من ذلك فغادرها الى بيروت عام 1948 ليكون قاضياً شرعياَ وفي عام 1949عين مستشاراَ في المحكمة الجعفرية العليا ثم اصبح سنة 1951 رئيساً للمحكمة حتى سنة 1956 ثم بقي مستشاراً الى ان تقاعد سنة 1968 ويعبر الدكتور بطرس ديب رئيس الجامعة اللبنانية عن شيخنا بأنه: (لم يكن يخش في الحق لومة لائم) وهذا ما ادى الى محاربته من قبل اصحاب الباطل بعد ان يئسوا من ترغيبه بالمغريات ومنن ثم اقصائه وقد سعد شيخنا بهذا القرار لان روحه الطاهرة التي تربت على تعاليم الاسلام واخلاق اهل البيت لا يمكن ان تعيش الا في عالم السمو والفضيلة.

ثم ان هناك امراً آخر سعد له وهو انصرافه الى التاليف بشكل كامل منذ عام 1957واستمر على ذلك حتى وافاه الاجل في 8/12/1979 ألف خلالها عشرات الكتب منها كتابه الخالد (فقه الامام الصادق عليه السلام الذي الفه عام 1966).

ومن اهم (تفسير الكاشف) وشرح (في ظلال نهج البلاغة) و(شرح الصحيفة السجادية) و(علي والفلسفة)، و(الحج على المذاهب الخمسة)، وغيرها اضافة الى محاضراته التي كان لها صدى واسعاً من قبل الناس توفي شيخنا الجليل عام 1979 وصلى على جثمانه الطاهر المرجع الديني الاعلى ابو القاسم الخوئي ودفن في الصحن الحيدري الشريف.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 1/تشرين الأول/2012 - 14/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م