قراءة في كتاب: استراتيجيات مكافحة الفقر

في منهج الإمام علي بن أبي طالب

 

 

 

 

الكتاب: استراتيجيات مكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب

الكاتب: آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي

الناشر: هيئة محمد الامين

عدد الصفحات: 176

قراءة: احمد الجنديل/شبكة النبأ

 

 

 

 

شبكة النبأ: هاجس خفي جذبني إلى هذا الكتاب، أغراني العنوان في البداية، رحتُ ألهثُ وراء كلماته، وأقفزُ بين سطوره في سياحة ممتعة على شواطئه، وهو يتحدثُ عن مفهوم الفقر بمعناه الواسع الشامل، هذه الظاهرة التي كانت المفتاح الذي يفضي إلى عالم متخم بالقهر والظلم والحرمان، والباب الواسع الذي يدفعكَ إلى فضاء الموبقات والمعاصي والآثام، والمفردة التي تقودكَ إلى أسئلة واستفسارات ربّما يضيع من خلالها مَنْ لا يعرف الإجابة عليها في متاهات التخبط ودياجير الظلام.

ما معنى أن تستأثر حفنة من البشر بالمال الحرام والجاه المزيّف وعلى حساب الملايين من الناس التي تسحقهم حوافر العوز والانكسار!؟. وما معنى أن تسرق فئة منحرفة رغيف الخبز من أفواه الأرامل والأيتام والمساكين!؟. وما معنى أن تحتكر شركات الثراء الفاحش المشاريع الكبرى، وتضع يدها على مصادر الطاقة، وتتلاعب بمصير ملايين البشر من أجل الكسب السريع لحساب هذه الشركات، وتبقى الجموع تعاني من ويلات الفقر والخيبة والإحباط!؟. وما معنى اعتماد طريق الربا المحرم في التعامل اقتصاديا مع الشعوب من اجل إذلالها ووضعها في مستنقع العوز والجوع!؟.

لماذا تُجّر الشعوب إلى حروب طاحنة تحرق الأخضر واليابس، وهي لا تملك فيها ناقة ولا جملاً، ولا تخرج منها إلا بالمزيد من الدم والدمار والخراب!؟.

ولماذا يرتكب الحكّام حماقة اندلاع الحروب إشباعاً لنزواتهم، ليخلفـّوا بعدها أجيالاً من المنكسرين نفسياً والمعطوبين أخلاقياً!؟

أسئلة تخرجُ من خاصرتها أسئلة متلاحقة، وجميعها تدور حول التداعيات الخطيرة التي يخلفها الفقر بمعناه العام الشامل.

الكتاب الذي بين يديّ يتحدث عن الفقر، ويصفه بالتحدي الأعظم الذي يواجه البشرية جمعاء، ويلقي بظـّله الأسود على حياة الشعوب، لهذا أطلق جناب المؤلف الكريم على هذا البحث الرائع عنواناً: (استراتيجيات مكافحة الفقر في منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وحسب المفهوم الشامل لمصطلح الاستراتيجية، وصل إلينا البحث منسجما في إطاره ومضمونه، متوحدا في مبناه ومعناه، فشكـّل بذلك مدخلاً جميلاً للبحث.

وإذا كان موضوع البحث مغرياً، فأن الجانب الأكثر إغراء وإشراقا فيه، هو منهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مكافحة الفقر والتصدي له، وهذا البريق المتألق من الإغراء يأتي من الأبواب المتعددة، والتي يمكن الطواف حولها: إن الإمام علي (عليه السلام) خير مَنْ جسّد تعاليم السماء في حياته اليومية، فألغى بذلك حالة الانفصام بين القول والعمل، وعكس صورة ناصعة البياض للسلوك المستقيم الذي لا يعرف الخداع والمماطلة، ولا يقترب من الغش والازدواجية، ولا يعرف غير الطهارة والعفـّة في جميع المفاصل الدقيقة لحياته، وهذا التعاطي مع الحياة أذهل الجميع وعلى مرّ العصور والأزمنة.

ولأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان الأكثر إيمانا وشجاعة وفصاحة ومعرفة كونه ترعرع في بين النبوّة، ونهل العلم منه، ولا أظنّ أحداً يختلف في هذا الأمر.

ولأنه (عليه السلام) عانى من حياة الفقر وذاق مرارته، فاكتسبَ بذلك تجربة مكنته من وضع يده على الأسباب والنتائج وطرق الوقاية من ظاهرة الفقر، وعندما عاش مرحلة ما بعد الفقر، نراه (عليه السلام) لم يبتئسْ من المرحلة الأولى، ولم تأخذه الثانية بمغرياتها، وعند توليه الحكم كان الرائد والمهندس في تجسيده لنظرية اقتصادية متكاملة شعّت بسناها على الجميع، متوجّة بمقولته الخالدة: (لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته).

إنّ كتاب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الأشتر النخعي عندما ولاّه على مصر وأعمالها خير شاهد على ما نذهب إليه، فهذا الكتاب يعتبر بمثابة دستور عجز أصحاب الاختصاص على كتابة دستور مثله، أو الاقتراب منه، وظلّ على تعاقب العصور سارية ترفع على رأسها الكشف المنير، والتشخيص الدقيق، والعلاج الناجع لجميع المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية وغيرها من المشاكل التي تعاني منها البشرية في وقتنا الحاضر.

كما أنّ قراءة أولية لكتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، يجعلنا نحلّق في عالم نتفاخر به، لأنه أعطى منهجاً للعلاقة بين الحاكم والشعب، عجزت دول العالم القديمة والحديثة عن الإتيان بمثله، أو الوصول إليه.

بدأ الكتاب بإعطاء صورة الحاكم أولاً، باعتباره الجالس في أعلى قمّة هرم المسؤولية، فقد أمره: (بتقوى الله، وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به في كتابه) وورد: (وأنّ الناس ينظرون من أموركَ في مثل ما كنتَ تنظر فيه من أمور الولاة قبلك)، هذه الكلمات كانت بمثابة مصابيح تنير طريق الحق والعدل للحاكم، فما أحوجنا إليها اليوم.

كان كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) دستوراً في الأخلاق قبل كلّ شيء، وكان دستوراً تناول جوانب الحياة المختلفة، وأعطى أروع الأمثلة في إدارة الدولة: (فاملكْ هواك، وشّح بنفسكَ، فانّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت). هذا النموذج الذي يرسمه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لشخصية الحاكم، هو الذي يقود إلى خلق مجتمع قائم على أسس المحبة والسلام والعدل: (واشعر قلبكَ الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونّنَ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمّا أخ لكَ في الدين أو نظير لكَ في الخلق).

هذا السمّو المذهل، وهذا الغنى الكبير، لابدّ وأن يغلق كلّ أبواب الفقر ما دام الحاكم بهذه الصفات الإنسانية النبيلة.

الإغراء الثالث في هذا الكتاب، هو انه جاء بقلم آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي على شكل بحث ألقاه سماحته في مؤتمر الإمام علي (عليه السلام) السنوي السادس المقام في لندن، ومع قراءة الكتاب، تشعر أنكَ أمام قلم ممتلئ بالعافية، استطاع أن يسدّد فيصيب، هذا القلم الممطر بالخير المعرفي والعطاء الفكري، والقادر على الإبحار نحو كنوز اللغة، حمل معه الحجّة الواضحة، والبرهان الساطع، والدليل القاطع، وهي عدّة المقتدر ليمنحنا بحثاً مثقلاً بالعطاء والتشويق والفائدة، ومؤطراً بالبلاغة والفصاحة والاقتدار.

ما كتبته، هو سياحة على شواطئ هذا الكتاب القيّم الرائع، دون التوغل إلى الأعماق، أتمنى أن أرجع إليه ثانية، وما توفيقي إلا من عند الله... إلى اللقاء.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/أيلول/2012 - 13/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م