الدولة المدنية ومعضلة الطغيان الفردي والجماعي

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: ركائز بناء الدولة المدنية التي تحكمها المؤسسات الدستورية، واضحة ومعروفة جدا، لكن الصعوبة تكمن في كيفية الاخذ بها والعمل على تحقيقها من لدن المجتمع والجهات المعنية اولا بالبناء المؤسساتي للدولة، بطبيعة الحال هذا البناء لا يتم بين ليلة وضحاها!

فلقد قدمت الامم والشعوب والدول المدنية ما يكفي من الجهد والتضحيات والزمن لكي تبني نفسها دستوريا ومدنيا، حتى تحول السلوك والتفكير المدني لديها الى منهج وثقافة وعمل معتاد عليه الفرد والجماعة من دون قسر او إجبار.

لذا علينا أن نصل الى المدنية بالتضحيات الجسام والجهد العملي الفكري المطلوب، وعلينا بالصبر والسير في هذا الطريق الطويل والشاق حتى يتحقق هدفنا في بناء الدولة المدنية التي تعيقها عوائق كثيرة، منها الطغيان والميل الى الاستبداد، واللامبالاة، وعدم احترام الانسان كقيمة عالية وحرمة لا يجاوز التطاول عليها.

من أسباب الضعف

الارادة هي التي تصنع الاهداف، مبدأ يتفق عليه الجميع، وإرادتنا حتى الآن على تحقيق الدولة المدنية تبدو ضعيفة وقاصرة، وهناك اسباب تقف وراء ذلك، منها تواجد الطغيان بأشكاله المتعددة في حياتنا، الطغيان الفردي والجماعي، طغيان الحاكم، والمسؤول والمدير وما شابه، طغيان الفرد، هي اشكال متعددة تقارع بقوة بناء المؤسسات الدستورية التي تضبط حركة الدولة في جميع الاتجاهات.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، بكتابه القيّم (من أسباب ضعف المسلمين) في هذا المجال: (إن ما نشاهده اليوم من حالة ضعف المسلمين هو نتيجة أمور عديدة، من أهمها ما سببه الحكام الطغاة، غير الشرعيين، على مر التاريخ من الأوائل والأواسط والأواخر، فإنهم من وراء حالة ضعف المسلمين التي نشاهده ونلمس آثاره حتى اليوم، فان الضعف السابق والوسط واللاحق يسبب ضعف المستقبل أيضاً كما هو في صحة الإنسان فان الإنسان الذي لا يراعي صحته في صغره لابد وأن يكون في كبره معرضاً للآفات والأسقام وما أشبه وهناك العديد من القصص التاريخية التي تدل على ما ذكر).

إن سلسلة الضعف المترابطة هي السبب وراء الضعف الذي يعصف بحياتنا اليوم، ولو أننا قومنا أنفسنا، وأعمالنا كما يجب، لاختلف امرنا كثيرا، ولأصبحنا في عداد المجتمعات المتطورة حتما، ولو أننا التزمنا بالقوانين والمبادئ التي جاء بها الاسلام، وطبقناها بصورتها وصيغتها الصحيحة، لكنا اليوم من الامم المتقدمة التي تقود العالم، وهذا ما فعله الغرب الذي يتبجح اليوم بقيادته للعالم أجمع/ لذا يقول الامام الشيرازي في حول هذا الجانب: لقد (تقدم الغرب علينا عندما أخذوا بالعمل ببعض قوانين الإسلام، مثل حق الانتخاب والتصويت، وخلع الحكام الطغاة المستبدين، ومطالبة الحقوق والحريات، ومثل النظم في الأمور، والاتقان في العمل، وما أشبه ذلك).

كرامة الانسان وحرمته

من الاسس الدقيقة لبناء الدولة المدنية حفظ قيمة الانسان وحماية كرامته وحرياته وحقوقه، مهما كانت معتقداته او أفكاره شريطة أن لا يضر بالآخر، هذا هو القانون الاسلامي الذي اعلنه القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وسيرة أهل البيت عليهم السلام، إذ تم التأكيد على كرامة الانسان وحمايتها، كما نلاحظ ذلك في الامر الذي اوعز به الامام علي عليه السلام باجراء راتب تقاعدي للرجل المسن اليهودي الذي إلتقاه الامام في قارعة الطريق وهو يتفحص حياة الناس البسطاء، ولكن هل بقيت حياة الانسان العربي والمسلم مصانة ؟!! حتى الآن، وهل هناك حرمة له في ظل الانظمة السياسية الراهنة؟ غننا لو قلنا ليست هناك حرمة له فاننا لا نخطئ.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: (نحن المسلمين ـ وكذلك حكامنا ـ قد تغيرنا بحيث لم نعر أية أهمية للإنسان الذي فضله الله وكرّمه، وحرم ماله وعرضه ودمه، ولذلك ترى الحكام الطغاة يقتلون الناس كما يقتلون البق).

إذن هناك أسباب واضحة وجلية لتخلف المجتمعات العربية، إنها تقع تحت رحمة انظمة سياسية جاهلة لا تؤمن ببناء الدولة المدنية ومؤسساتها، لأنها ستقوّض سلطاتها، لذا لا يمكن أن نتمكن من الشروع بتحقيق الهدف المطلوب، ما لم نعرف الاسباب ونعمل على معالجتها بجد وسعي وتخطيط مسبق وممنهج، وعندما تنتفي اسباب التخلف والتراجع، وتحضر اسباب التقدم والتمدّن، فإننا سننجح في مسعانا، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه نفسه: (من سنن الله في هذا الكون انه لا تتقدم أمة إلا بسبب، ولا تتأخر أمة إلا بسبب أيضاً، وهذا من الواضح والثابت بالتجربة والامتحان، لكن الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر ذكر في كتابه عن رجل مستشرق مسيحي اسمه – ريبور- انه قال: إني أتعجب من تقدم المسلمين الأوائل، فهل أن الكرة الأرضية صغرت حتى قبضها المسلمون الأولون، أو أن الكرة الأرضية صارت كورق فطووها طيا؟ كيف إنهم تقدموا في الحياة وسيطروا على الكون؟).

هذه بعض اسباب تخلف المسلمين والمجتمعات العربية عن اللحاق بالركب العالمي المتمدّن.

اسباب تولّد الطاغوت

وثمة اسباب اخرى يُسهم بها المجتمع نفسه في ولادة واستقواء الطاغوت، وذلك عندما يبقى المجتمع على جهله وخنوعه، يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص: (إن من أهم أسباب تولد الطاغوت هو: الجهل وعدم الوعي الكافي، فان من يعلم بأن الله خلق الإنسان حراً، ومنحه حرياته الأساسية، وجعله حاكماً على نفسه وماله، لا يرضخ للعبودية والظلم، ولا يعترف بالطغاة والظالمين). ويضيف سماحته قائلا: (كما ان من أسبابها أيضاً، فقدان ثقافة التعددية، وشيوع ظاهرة الاستبداد والأنانية، وفكرة الاستئثار والانحصارية، مع أن من ملك استأثر، كما قال تعالى: *إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى*).

إن الحاكم غير المؤمن سيخضع لرغباته الخاصة واهوائه، وسوف يضعف امام طلبات النفس اللامحدودة، وهكذا يقع الشعب ضحية تضخم ذات السلطان الذي سيجد نفسه حرا من مؤسسات الدولة المدنية التي تضبط اهوائه وميوله وتحد من صلاحياته، لذلك لابد من تقوية ركائز الدولة المؤسساتية من اجل الوصول الى بناء مدني سليم للدولة المرتقبة.

حيث يقول الامام الشيرازي بكتابه القيّم نفسه: إن (الإنسان بطبيعته كثيراً ما يميل إلى الطغيان والذي يردعه عن ذلك هو الإيمان بالله واليوم الآخر، مضافاً إلى نظام التعددية السياسية حيث تمنع الطاغوت عن طغيانه ولو نسبياً، وهذا ما نفقده في بلادنا).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 17/أيلول/2012 - 29/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م