اصدارات جديدة: الاعلام بين الدولة والمؤسسة والفرد

 

 

 

 

الكتاب: السياسات الاعلامية الدولة المؤسسة الفرد

الكاتب: دكتور خالد عزب

الناشر: دار أطلس القاهرة

 

 

 

 

 

 

شبكة النبأ: تمثل إدارة السياسات الإعلامية تحديا جديدا أمام دول العالم فدول المستقبل لن يكون لها وجود حقيقي دون أن تكون لها سياسات إعلامية، قرأت كثيراً في هذا الاتجاه باللغة الإنجليزية، أما باللغة العربية فلا يوجد مؤلف محدد في هذا الاتجاه، فقط مؤلفات في الإعلان وأسسه، في الاتصال الجماهيري، الإعلام ومعالجة الأزمات إلى غير ذلك، من تجىء أهمية كتاب االسياسات الاعلامية الدولة المؤسسة الفرد الصادر عن دار أطلس للنشر في القاهرة والذي يستعرض فيه الدكتور خالد عزب الخبرات متراكمة لجهود العديد من المؤسسات في هذا المجل وكان أكثر تحديدا لمسألة إدارة السياسات الإعلامية، إن هذه الإدارة هي فن من فنون الدبلوماسية شديدة التعقيد والتركيب، إذ هي تجمع بين توازنات داخل المؤسسة قد تتطلب في وقت ما كبح جماح التوجه نحو الإعلام بسرعة غير مطلوبة من بعض إدارات المؤسسة، وفي وقت آخر حث وإقناع بعض الإدارات على التوجه نحو الإعلام وتلبية متطلباته، كما أن هذه الدبلوماسية قد تمارس داخل الدولة وخارجها، إذ من المطلوب تكثيف المادة الإعلامية التي قد يجري بثها للوسائط الإعلامية المختلفة، أو التقليل من حجم هذه المادة، لكن متى يتم هذا ومتى يتم ذاك، لا شك أن ذلك يتطلب قراءة جيدة يومية من شخص ما للحياة السياسية والثقافية والأحداث الجارية، حتى يتم يتسنى لهذا الشخص اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.

ثم يلي هذا نوع المادة التي ستقدم للجمهور من خلال العديد من الوسائط الإعلامية التي أصبحت من الكثرة بحيث قد تربك الشخص المسئول، لكن هنا يبقى الفيصل هل حدد هدفه؟ هل حدد نوعية المادة؟ هل حدد وسيلة الاتصال المناسبة؟ هل يستخدم كل الوسائط أم بعضها؟ المهارة التامة تكمن في استخدام كل الوسائط لكن الاكتفاء بوسيط دون الآخر قد يضعف أداء الإدارة، فالاتصال المباشر وهو أقدم الوسائط التي عرفها الإنسان مازال أكثر الوسائط فاعلية وأكثرها صعوبة، لأن فيه إما أن يفقد المتصل به إلى الأبد، أو يكسبه إلى الأبد؟!

هنا يبرز الإقناع ولغة الحديث ولغة الخطاب كوسيلة من وسائل الإعلام، في عصر السماوات المفتوحة والإنترنت، قد يبدو مستغربا أن العديد من المؤسسات بل حتى الحكومات تلجأ إلى الاتصال المباشر بالجماهير، لأن العلاقة المباشرة تحمل حميمية التواصل الإنساني، حتى الولايات المتحدة الأمريكية واليابان تلجأن إلى مثل هذا النوع من الدعاية، فالولايات المتحدة لديها برنامج الزائر، حيث تستضيف من خلاله أحد الأشخاص المرشحين في بلد ما للصعود السياسي أو الثقافي أو الإجتماعي لزيارة الولايات المتحدة لمدة شهر، ليبهر ببلد العام سام، تم من خلال هذا البرنامج استضافة شخصيات تبوأت مناصب عليا فيما بعد في بلادها سواء من أوروبا أو إفريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية، الملفت للنظر عند حديثي مع العديد من الأشخاص سواء من مصر أو من دول أخرى ممن استفادوا من هذا البرنامج، أن كل فرد منهم أعد ملف مسبقا عنه، حدد من خلاله ميول وأهواء هذا الشخص وما يحبه وما يكره، بحيث تخطط الزيارة وفق هذه الدراسة التي هي في جانب منها لها بعد نفسي وآخر انثروبولوجي، ولكي أوضح الجانب الأخير، فلابد وأن أنبه له، فلا يستحسن أن تدعو شخصا من بلد مسلم لديسكو، في حين من المحبب أن تجعل زائر أوروبا ينبهر بالحداثة في مجال التكنولوجيا، على حين يجب أن ترى صينياً ذا تراث عريق متحف المتروبوليتان، في جانب آخر تقدم الولايات المتحدة نفسها على أنها أرض للتعايش الحضاري بين ثقافات متعددة، ولا مانع هنا من زيارة ناسا أو مفاعل نووي أو مشاهدة مترو لوس أنجلوس أو وادي التكنولوجيا في كاليفورنيا أو مصانع بيونج للطائرات مع العروج على البيت الأبيض ومكتبة الكونجرس، المهم في نهاية الأمر أن يتم غرس نوع من الحب والانبهار، وتركك وقد إقتنعت بعظمة أمريكا أم الدنيا المعاصرة.

الملفت للنظر في مثل ترتيب هذه الزيارات أن المرافق للزائر، يحمل بتعليمات تتوافق مع طبيعة الزائر، بل قد تكون تركيبته الشخصية أو كيمياءه النفسية تتكامل معه، لكي يتحول الاثنان إلى أصدقاء، هكذا تنشأ الدول العظمى لها أصدقاء في مختلف أنحاء العالم.

في عصر الرئيس جمال عبد الناصر، كان طلبة المدارس والعامة من الشعب لديهم حالة إبهار بكاريزما الزعيم، لذا كان يرسلون له طالبين صورة شخصية منه، سرعان ما يقوم مكتبة بإرسالها ممهورة بتوقيعة، تخيل طفل في نجع في صعيد مصر في منطقة منسية مهملة، تصله فجأة أمام أهل قريته رسالة من رئيس الجمهورية، فيها صورة عليها توقيعه، كيف سيكون رد فعلها لدى أهل القرية، لاشك أنه سيكون كبيرا، بل ها هو تأثيرها لدى الطفل سيدافع عن عبد الناصر مدى الحياة، لذا لم أكن مستغربا أن أرى صورة جمال عبد الناصر معلقة في بعض المحال أو المنازل، لأن من أعدوا له صورته لدى الشعب أحسنوا وأدركوا أهمية الإقتراب من رجل الشارع.

هنا يجب أن ألفت الانتباه إلى الحضور الإعلامي، فهناك أشخاص ليس لديهم حضور إعلامي وآخرين تجذبهم الكاميرا، بل وآخرين يخطفون الكاميرا الفرق بينهم شاسع، لذا فمن المهم دراسة سيكولوجية الأداء الإعلامي.

وتجنب السلبيات الخاصة بضعف شخصية أمام وسائل الإعلام، فعلى الرغم من جاذبية جورج الابن احتاج لمعالجات عديدة وتدريبات حتى يصبح لديه قابلية جماهيرية.

إن تفهم طبيعة الجمهور المخاطب وسيلة أساسية من وسائل النجاح الإعلامي، بل نجد كثير من الساسة لجاؤوا إلى حيل عديدة لكسب الجمهور، فها هو نابليون عند غزوه لمصر يشهر إسلامه ويتبنى منشورات تدعو المسلمين في مصر لمساندته ضد الظلمة المماليك، ويحضر الموالد الإسلامية، بل نرى الرئيس السادات يبرع في هذا حين يرتدي أحدث الأزياء في القاهرة وعند سفره خارج مصر، ويلبس الجلباب والعباءة في ميت أبو الكوم، فالأولى لديه طبقة وجمهور معين يتناسب معه البذلة ورابطة العنق المتناسقة معها وطريقة الإيليت في التعامل، والثانية كان لدى السادات فيها جمهور آخر يخاطبه هو جمهور الفلاحين والعمال وأهل المدن الصغيرة، الذي كان يهدف إلى إقناعهم بأنه واحد منهم يأكل البط والأوز في المولد النبوي على الطبلية، بل نشأ مثلهم، وأن لديه قيم الريف الأصيلة.

كان السادات رجل إعلام عشق الصحافة منذ صغره، لذا كان من المتوقع أن تستقل شخصيته عن محمد حسنين هيكل الإعلامي البارز الذي لعب دوراً كبيرا في صناعة صورة وشخصية عبد الناصر أمام الرأي العام المحلي والعربي الدولي. لعل هذا هو المنشأ الحقيقي للخلاف بينهما بعد العام 1973، على الرغم من كونهما صديقين، لكن السادات أراد أن يقدم نفسه برؤيته التي اكتسبها وبناها من عمله في الإعلام. لكن في عصر الإنترنت والفضائيات والصحف الإلكترونية والتلفاز والمذياع وغيرها من الوسائط الإعلامية، هل يصلح أن يعتمد شخص على ذاته في صناعة صورته، أو تعتمد مؤسسة على فرد في تقديم صورتها، أو شركة على وكالة إعلانات ذات إتجاه واحد في تقديم منتجها، أو دولة على سياسات ثابتة في تقديم إنجازاتها، لاشك أن هذا لم يعد يجدي في عصرنا؟!

من هنا جاء هذا الكتاب، لا أعرف هل ما أهدف إليه منه سيكون مؤثراً بصورة أو بأخرى، لكنها محاولة لعلها تكون مفيدة، ثم هل هناك أصلاً علم لإدارة السياسات الإعلامية، لعل هذا العلم موجود في الغرب [ii] وحوله دراسات وأبحاث، ولعلني هنا أحاول، وقد يكون هناك من حاول قبلي، لكنها كلها إسهامات أرجو أن تكون مفيدة.

لكن مثل هذا العلم لا يبنى على العشوائية بل يخضع لقواعد وخبرات متراكمة، لا تخرج في نهاية الأمر عن كونها تخضع للتخطيط Planning وتعني به توظيف الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة والتي يمكن أن تتاح خلال سنوات السعي من أجل تحقيق أهداف معينة مع الاستخدام الأمثل لهذه الإمكانيات، ويقوم على مجموعة عناصر: المدى الزمني، معرفة الواقع، تحديد الأهداف والوسائل، ويرتبط هذا المفهوم دائما بمفهوم السياسة، وإن كانت السياسة Policy أوسع من الخطط فهي تحدد الأسس العريضة التي يتم في إطارها أوجه النشاط المتصلة بالتخطيط فتنفيذ السياسات من مهام التخطيط.

لسنوات طويلة ظل المجتمع العربي تسيطر عليه فكرة الهيمنة الأمريكية على وسائل الإعلام وصناعته، وغاب عنه التحولات والتقلبات في الإعلام الأمريكي[iii] لكن هناك هيمنة الدولة الأمريكية على العالم من خلال الاقتصاد والقوة المسلحة والأدوات الإعلامية التي تسيطر على عقول البشر[iv] بحيث يصبح البشر أسرى هذه الأدوات ومنها الأفلام السينمائية التي تبث السطوة الأمريكية بطريقة ناعمة لدى المشاهد ومثلها المسلسلات الأمريكية، وهي قضية مثارة حتى في أوروبا، وبصورة خاصة في فرنسا التي لديها تخوفات حادة من الهيمنة الأمريكية، حتى في مجال محركات البحث على شبكة الإنترنت إذ أن سيطرة Google على محركات البحث تجعل دائماً المواقع الإلكترونية الأمريكية في المقدمة أمام الباحث عن أية معلومة على الشبكة الدولية للمعلومات[v] إن هذا النوع من الهيمنة يفرض علينا ضرورة البحث عن تفعيل محركات بحث عربية.

الحقيقة التي يقررها الواقع العملي أكثر تعقيداً، لأن مراكز صنع القرار لا تمارس فعلها في المثالي المفترض، وإنما تمارسه تحت سطوة صراعات تاريخية كبرى ومصالح يتعارض بعضها مع بعض، والكثير منها غائر في زمانه، أو جامح في مقاصده، أو عنيف في ممارسته، وفي ظل هذه الأحوال فإن القرار السياسي تحكمه بالقطع عوامل غير مثالية!

إن هناك شىء يتقاطع بين المثالي المفترض والواقع الذي يعبر عن المصالح أيا كانت هذه المصالح هل هي مصالح دولة أم مجتمع أم شركة أم فرد، لذا فدور السياسات الإعلامية عادة هو صناعة صورة مضيئة للمؤسسة أيا كانت، وتبرير أفعالها أو إنقاذ القرارات المتضاربة لها أو الضعيفة، باتت السياسات الإعلامية في طور التحول إلى علم له تشابكه مع علوم مختلفة، فهي ليست قائمة على الخبر أو وسائط الإعلام، بل تستخدم علوم الأنثربولوجي والإجتماع والتاريخ فضلا عن التقنيات الحديثة.

صناعة هذه السياسات إذا ليست بالسهولة التي قد يتخيلها البعض، فهي تحدد للمؤسسة أهدافها وطريقة الوصول لها، وفلسفتها، وعملية التغيير اللازمة في الوقت المناسب، فضلا عن كونها الوسيط الفعال بين المؤسسة والجمهور، لخلق حالة من التوافق بينهما، وتبادل التأثر لصالح الطرفين.

أظهرت إحدى الدراسات أنه يربط المؤسسة بجماهيرها علاقة ذات ثلاثة أبعاد هي: بعد مهني Professional وبعد شخصي Personal وبعد مجتمعي Community. ويقصد بالبعد المهني: العلاقات المهنية بين المنظمة وجماهيرها في ضوء طبيعة عمل المؤسسة سواء أكانت إنتاجية أم خدمية أم منظمة غير ربحية. فالجمهور يريد من المؤسسات أداءا مهنيا يتمشى مع احتياجاته ومصالحه. ويقصد بالعلاقات الشخصية: العلاقات التي تبنيها المؤسسة مع جمهورها على أساس شخصي، وليس باعتبارهم أفرادا مجهولين أو مجموعا من القطيع، أي أنه عليها أن تسعى لكسب احترامهم وثقتهم كأفراد. ويقصد بالبعد المجتمعي: إلتزام المؤسسة في علاقاتها بجماهيرها بإحتياجات وإهتمامات وقيم وأخلاقيات المجتمع الذي تعيش فيه.

إن أنجح السياسات هي التي تقوم على إقامة علاقة متوازنة بين الجمهور والمؤسسة Two – Way Symmetrical، إذ يجب ألا يتوقف دور المؤسسة على جعل الجماهير تتكيف معها، ولكن يجب أن تتكيف المؤسسة نفسها مع البيئة الخارجية، بما فيها الجماهير الفاعلة اتجاه هذه المؤسسة، فبناء علاقة إستراتيجية بين الطرفين تعتمد على الفهم المتبادل والاتصال الفعال في إتجاهين بدلا من الاعتماد على إستراتيجيات الإقناع في اتجاه واحد، وتتوقف قدرة القائمين على إدارة هذه العلاقة على عدة عوامل منها: الاستقلالية في اتخاذ القرار، والقوة والأهمية التي تتمتع بها جماهير المؤسسة، ومناخ تغطية وسائل الإعلام، وكذلك القيود القانونية والتنظيمية.

إن المسئولين عن إدارة هذه العلاقة عليهم تصميم رسائل تخاطب الحاجات الشخصية للأفراد، وإحدى هذه الحاجات هي أن يشعر بأنه مهم للمؤسسة، وعدم القيام بذلك يعرض المؤسسة للعزلة من قبل هذه الجماهير[vii].

منذ منتصف القرن العشرين عرف العالم ثورة الإعلام والاتصال، التي أصبحت تنعت اليوم بالقنبلة المعلوماتية، لقد تحول إنسان السنوات الأخيرة إلى كائن اتصالي من دون أن يكون بالضرورة كائنا تواصلياً، فإذا كانت الصحف كمنتج إعلامي ليست ملكا مشاعا بحكم استمرارية الأمية إلى الآن، وإذا كان الإنترنت مخترعا لا ينعم به إلا الأجيال الجديدة، فإن الراديو قد أمسى ملكا مشاعا يتسلل إلى كل بيت بالمدينة كما بالقرية وفي السيارات على الطرق السريعة بين المدن، وفي الطرق الداخلية للمدن، كما أمسى التليفزيون ضيفا تحول إلى المقيم الدائم حتى في مناطق بعيدة، لا يمكن إغفال دور الهاتف في تسهيل عملية نقل الأخبار والاتصال الاجتماعي، كما لا يمكن إغفال ما حققته السينما من وظائف ثقافية، جمالية وترفيهية متنوعة[viii].

هذا النمو الكاسح لوسائل الاتصال ومولدها من رحم بعضها البعض يشكل توجيه هذه الوسائل نحو هدف معين أمر بالغ الأهمية، بالنسبة لأي دولة أو مؤسسة أو شركة أو فرد، من هنا تكمن أهمية تحديد ماهية وأدوات السياسات الإعلامية.

إن هناك تحولات جذرية في القرن الحالي، حيث أن تدفق المعلومات عبر الوسائط الإعلامية المختلفة وتشابك الإنترنت مع التليفزيون بواسطة التليفزيون التفاعلي، يخلق واقعا جديدا يجب الإنتباه إلى خصائصه التي تشكل ماهية وأدوات أي سياسات إعلامية، وهذه الخصائص هي:-

- سرعة الإنجاز التقني للفعل الاتصالي.

- سرعة تتابع مراحل الاتصال.

- التركيز على الصورة في المجال الاتصالي.

- إدماج عناصر الترفية والفرجة والتشويق.

- الانتقال من موضوع واقعي إلى موضوع إفتراضي وخيالي.

- إختزال الاتصال عن بعد [ المكان ] في الاتصال الوجيز [ الزمن ] [ix].

ولعل قراءة سريعة لهذه المزايا تكشف عن وجود حقيقتين اثنتين:

أولاهما تخص السرعة والثانية تخص التقنية، فتقييم الفعل الاتصالي ينزع دائما إلى البحث عن أقصر مدة زمنية لتحقيق الاتصال وأنجح وسيلة تقنية لبلوغ الغاية نفسها، وهذا يجعل أحد المهتمين بتكنولوجيا الاتصال من منظور فلسفي يستنتج أن المكان– العالم يترك المجال للزمن– العالم، حيث حل المكان الافتراضي ليعوض المكان الواقعي[x].

إن خطر هذا يكمن في السيطرة على الرأي العام في أي دولة أو مجتمع [xi] حيث أنه ثمة تضخم خطابي في تقييم سلطة الرأي العام والإعلان عن علو سلطة، خاصة في الأحداث السياسية والوقائع الفضائية، حيث يكون الاحتكام للرأي العام إقتراعا أو إستطلاعا للبث في ولاية تشريعية أو رئاسية، أو للإفتاء في نازلة تعد إستثناء في قاعدة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، والحال أن الرأي العام غير متجانس، غير جاهز وغير مطلق، فهو متبعثر، مكتسب ونسبي فما السبب؟

يكمن السبب في صناعة وسائل الإعلام للرأي العام وتوجيهها لبوصلته الأيدلوجية والسياسية، حيث تجري صناعة الرأي العام وفق مقاسات الهدف السياسي المحدد من قبل الطبقة السياسية، إن الرأي العام للشعوب من دون ذاكرة لأنه غير تحليلي ولا نقدي، هذا ما جعل بيير بورديو ينفي وجود رأي عام واحد ليؤكد وجود آراء عامة متمحورة حول مصالح فئوية وطبقية محددة[xii]. الرأي العام وفقا لما سبق إشهاري أو هو مجموعة أحكام وتقييمات وقع إشهارها، وخلف التماسك الظاهر لمقولة الرأي العام لمصلحة الآنية.

من هنا فإن أي دولة قوية متماسكة لابد أن تسعى لبناء نظام لاحتكار المعرفة Monopoly Of Knowledge والمحافظة عليه لخدمة أهدافها ومصالحها الإستراتيجية في البيئة الدولية، وذلك من خلال تزويد وسائل الاتصال بمضامين ومعايير للضبط الاجتماعي Social Control. وتزداد قوة هذا الضبط الاجتماعي كلما أقتربنا من مراكز الدولة – ويمارس الضبط الاجتماعي في إطارين، أحدهما وطني داخلي، والآخر عالمي. فعلى المستوى الوطني، تسعى الصفوة السياسية أو الاقتصادية، أو الدولة ذاتها إلى تحقيق سيطرتها على سكان الدولة، وتتولى تحديد أهداف المجتمع وأولوياتها وتشكيل أجندة اهتماماته، وأنماط السلوك، بل وتفرضها. وتستخدم الدول لهذا الغرض عدة أساليب منها حرمان الأفراد من الوصول إلى المعلومات، سوى تلك التي ترى الدولة أنها تشكل أهمية بالنسبة لها[xiii].

إن أداة تنفيذ السياسات الإعلامية التي يضعها صناع هذه السياسة هي المجتمع الاتصالي، الذي يتواكب تصاعد دوره مع عالم يشهد العديد من المتغيرات المستمرة التي تدعو إلى التساؤل حول الوجهة التي ستصب فيها أخيراً، المجتمع الاتصالي أو الإعلامي أو مجتمع المعرفة له تاريخ طويل، فإذا كانت أثينا الإغريقية مجتمع الاتصال الشفوي (وجها لوجه) والديمقراطية المباشرة، أي بغياب الوسائل الإعلامية الحديثة، فإن التفكير الليبرالي منذ نهاية القرن الثامن عشر بدأ يهتم بمسألة الاتصال والبدء بصياغة نظرية للرهانات السياسة حول التعبير الحر في مجال عمومي لكافة المواطنين، باعتبار أن "إيصال الأفكار والآراء هو واحد من الحقوق الأكثر أهمية للإنسان".

والحقيقة أنه إنطلاقا من فلسفة عصر الثورة الفرنسية وصولا إلى النصوص الأمريكية والفرنسية، حول حقوق الإنسان، فإن حرية التعبير والرأي قد أكتسبت مكانا مركزيا في الحياة العامة، مثاليات طردت من قبل البعض، هكذا نجد الأمريكي توماس جيفرسون يؤكد "إذا ما تركت لي حرية الإختيار بين وجود حكومة دونما صحف، وبين صحف دون حكومة، فإنني لا أتردد في إختيار صحف بلا حكومة " هل لأن توماس جيفرسون كان مدركا مدى سيطرة الدول على كافة الوسائط الإعلامية، وإن كان ذلك بدأ يهتز مع المدونات وأخواتها على شبكة الإنترنت، فالحقيقة إن سيطرة المجتمع الاتصالي على المجتمع نتيجة إلى عدم شفافية المعلومات المنتشرة أو حجزها أو عدم معالجتها والتعامل معها أو تشوهها بفعل الإيدولوجيات المنتشرة.

"كل إنسان قادر على التواصل الكلامي يجب الاعتراف به كذات إنسانية" فاعلة، أي خليقة بالنقاش واعتماد الحجة والإقناع وبالتالي التوافق والدخول في فعل مشترك مع الآخرين، وهذا يعني وجود فضاء للنقاش والآراء يستطيع فيه المواطنون ممارسة حقوقهم والتداول في الشأن العام، هذا كان هدف يورجين هابرماس العالم الألماني الذي قاد ما يعرف بمدرسة فرانكفورت الثانية في مجال المجتمع الاتصالي، لكن هذه المثالية البعيدة عن الواقع يتقاطع معها حقيقة أن الوفرة الاتصالية التي هي أشبه بـ" مغارة علي بابا " على المستوى الثقافي والإعلامي، لها جانب معتم، فهي حكر لمجموعات دون غيرها، هذا ما نجده فعلا في أجهزة الحاسب المحمول في فرنسا عام 1999 م حيث تبين أن عدد 44 % من الشبان لديهم حاسب محمول 68 % منهم من الطبقات العليا.

حقيقة الأمر أن الديموقراطية الجديدة المستمرة فإنها وإن كانت قد توسعت فإنها لم تلغ تحول السياسة إلى "مشهد إعلامي" تستخدم فيه كافة التقنيات الاتصالية ومستشاريها للتأثير على الرأي العام أثناء الاقتراعات العامة وفي الفترات التي تفصل بينها، في حين أن سادة هذه التقنيات يعملون على خلق مستهلكين طبقا لمصالحهم الاقتصادية والتجارية.

إن الحقيقة المرة هي أن الكثيرين يعيشون وهم الحرية الشخصية التي باتت مهددة بفعل الوسائل الاتصالية الجديدة بما دعا إلى تشكيل" لجنة قومية للمعلومات والحريات"في فرنسا للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم لتخزين المعلومات عنهم في حين أن نظام ايشلون الأمريكي يستطيع التقاط المكالمات والبريد الالكتروني على صعيد العالم أي فرض نظام من التجسس السياسي والاقتصادي، والشفافية التي يقول بها الخطاب الاتصالي تصبح كسيحة عندما تؤكد الأحداث إمكانية إختلاق الوقائع وخداع الرأي العام كما حدث مثلا بالنسبة لاصطناع ما سمي بمجزرة " تيمبوسوارا " في رومانيا أو بالنسبة لاحتلال العراق بحيث أن المجتمع الاتصالي يشكل حاضنا للاحتيال والعدوان [xiv].

كذلك فإن مسألة العولمة يجب قراءتها بشكل آخر، فقمة تونس للمعلوماتية التي انعقدت عام 2005، بينت سيطرة الولايات المتحدة على سوق المعلومات خاصة أن 55 % من الأمريكيين يحظون بالإنترنت مقابل 32 % من سكان الاتحاد الأوروبي، و8 % من قاطني أمريكا الجنوبية و6 % من شعوب آسيا.

أضف إلى ذلك أن 75 % من المؤسسات المسيطرة على بنوك المعلومات موجودة في الولايات المتحدة مقابل 12 % في أوروبا، في هذه الوضعية تعني الوفرة الاتصالية انتقال البرامج والأفلام الأمريكية إلى العالم كله بما يهدد الثقافات الأخرى ويفرض الهيمنة الأمريكية.

إذا المشهد الإعلامي المسيطر على الرأي العام له أداة ينفذ من خلالها، هي " المجتمع الاتصالي " الذي يشمل كل الوسائط الإعلامية بدء من الخطابة أولى هذه الوسائط وصولا للإنترنت أحدثها، أما من يقومون بصناعة إستراتيجية هذا المشهد فهم من يديرون السياسات الإعلامية ويضعون خططها المحكمة بصورة مستمرة، هنا أستطيع أن أقف أمام صناعة السياسات الإعلامية التي تشكل المشهد الإعلامي الذي يسيطر على الجمهور غير الناقد واللاوعي للسيل الذي يتعرض له؟!!.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 5/أيلول/2012 - 17/شوال/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م