شبكة النبأ: الاتقان بالمفهوم العام،
تعني انجاز الهدف المطلوب بصورة جيدة، تدل على الاخلاص والجدية
التلقائية التي تنطوي عليها شخصية الصانع، بمعنى ان الانسان لا يحتاج
الى دوافع اضافية تجعله طامعا في اتقان صنعته او هدفه ايا كان نوعه،
إنما سمة الاتقان نفسها مغروسة في شخصيته، فيأتي انجازه مكللا بهذه
السمة.
يقول البروفسور طارق حجي في كتابه عن قيم التقدم: لقد تحولت فكرةُ
الإتقانِ إلى علمٍ قائمٍ بذاته هو (علم إدارة الجودة) والذي إنضم خلال
العقودِ الأربعةِ الأخيرةِ لمنظومةِ العلومِ الإجتماعيةِ بل وأصبحت
هناك معاهدٌ لا تقوم بتدريس إلاَّ علم الجودة (Quality Management/
QM). ورغم أن هناك أدبيات كثيرة في علم الجودة أشهرها كتابات
البروفيسور Deming الذي جرى العرف على إعتباره أب أو أحد آباء "علم
إدارة الجودة" إلاَّ أنني لا أُريدُ في مقالٍ عامٍ كهذا أن أدخل في
تفصيلاتِ وتفريعاتِ علمِ إدارةِ الجودةِ والمواضيع الأساسية لهذا العلم
وهي الجودة أو الإتقان في مرحلة التخطيط ثم الجودة أو الإتقان في مرحلة
التنفيذ ثم المراجعة بعين تنظر للجودة والإتقان، ولكنني أُريد أن أقول
أن تواجدَ وتطبيقاتِ علومِ إدارةِ الجودةِ وتفشي ثقافة الإتقان ما هي
إلاَّ إنعكاس لحقيقة أكبر وهي وجود حراك إجتماعي فعّال في المجتمع.
فالإتقانُ ملمحٌ من ملامحِ المتميزين...والمتميزون هم الذين يفرزون
مكوناتِ ثقافةِ الإتقانِ ومفرداتِ علومِ إدارةِ الجودةِ ...وإذا لم يكن
المجتمعُ يسمح بحراكٍ إجتماعي يبرز المتميزين من أبناءِ وبناتِ المجتمع
فإن ثقافةَ الإتقانِ لا توجد وتحل محلها ثقافةُ العشوائيةِ وتعم في
المجتمع كلُ بدا ئلِ صور ومشاهد الإتقان.
وهكذا تبدو الحاجة الى بيئة اجتماعية حرة، أمرا لا مفر منه، كي تتيح
المجال كاملا لابراز المواهب والقدرات والكفاءات كافة، اما الانكفاء
واهمال المواهب او قمعها (كما حدث مثلا في قضية اعتقال الشاب الذي اقدم
على صنع طائرة صغيرة وحلق بها في اجواء السماوة)، فإن هذا التصرف
الرسمي دليل على جهل بقيمة المواهب وقدرتها الكبيرة على الانتقال
بالمجتمع من حال الى حال.
إذن فالامر يتطلب حرية في الحراك الاجتماعي، كما نقرأ في قول
البرفسور حجي، بكتابه المذكور آنفا: إن المجتمعاتِ التي لا تسمح
تركيبتُها بالحراكِ الإجتماعي الحر تفتح المجال على مصراعِيه أمام غير
المتميزين وغير الموهوبين وأصحاب القاماتِ المتوسطة لكي يحتلوا مواقعاً
عديدة على رؤوس الكثير من المؤسساتِ والتنظيماتِ والهيئاتِ في المجتمع
وهو ما يوجه ضربةً قاضيةً لثقافةِ الإتقانِ ويشيع مناخاً ثقافياً
مختلفاً تماماً أُسميه بثقافةِ القاماتِ المتوسطةِ وفيه يختفي الإتقانُ
وتشن الحروب بلا هوادةٍ على المتميزين والمتميزات من أبناء وبنات
المجتمع لأن أصحابَ القاماتِ المتوسطة هم المصدر الأول لهذا المناخ
العام : فبدونه تتبدل قواعدُ اللعبة ويهبطون من مواقعِهم العالية إلى
مواقعٍ أدنى تتناسب مع قدراتهم ومحدوديةِ مواهبهم.
وهكذا تؤكد جميع الوقائع العملية اننا بحاجة الى بث حالة الاتقان
وزرعها في شخصية الفرد ثم المجتمع بأكمله، لتصبح سلوك تلقائي تجده
وتلمسه لدى الجميع، وأولهم القادة الاداريين، الذين يمسكون بحلقات
الادارة الرئيسية للنشاط المجتمعي، وعدم تخوف هؤلاء القادة الاداريين
من الطاقات والمواهب الجديدة، بل لابد لهم من أن يعملوا بصورة جدية،
على رعايتها من اجل أن تكون حالة الاتقان، أمرا راسخا في الحراك
المجتمعي، بمعنى لا يكون هناك تصادم بين القادة وبين الشرائح الادنى،
لذلك يقول البرفسور طارق حجي في هذا المجال:
إن كل محاولات تطوير بيئة العمل لدينا في إتجاه العمل الجماعي وروح
الفريق سوف تفشل لأن الذين على رؤوس التنظيمات الإدارية لا يريدون لها
إلاِّ أن تفشل لتبقى الحبال (كل الحبال) في أيديهم ويكونوا هم فقط
(آباء النجاح) أما الباقون فمجرد تروسٍ صغيرةٍ معاونةٍ. وكما أن القدوة
عن طريق كادرٍ بشريٍّ متميّزٍ من المديرين التنفيذيين العصريين هو أمرٌ
لازمٌ فإن ثورة تعليمية تبثُ في الأجيال الجديدة تقديس العمل الجماعي
وتؤسس المسألة التعليمية برمتها على أسلوب فرق العمل هو الأمر اللازم
الثاني لإنتقالنا من ثقافة العمل الفرعوني الفردي إلى دنيا العملِ
الحديثةِ القائمةِ على عملِ الفريق وتعظيمِ الفوائدِ من تفاعلِ العقولِ
والخبراتِ والقدراتِ. |