الفساد ظاهرة قديمة، لكن الجديد فيها هو أن حجم الظاهرة آخذ في
التفاقم إلى درجة أصبحت تهدد مجتمعات كثيرة بالانحلال الاجتماعي
والركود الاقتصادي، وقد ارتبط وجود الفساد بوجود النظم السياسية والدول
لذلك فهو لا يختص بشعب معين ولا بدولة معينة أو ثقافة دون غيرها من
الثقافات فالفساد قضية عالمية لكن بدرجات متفاوتة، هو موجود في جميع
أنحاء العالم ولكن الاختلاف في حجمه وأشكاله ودرجة انتشاره في الزمان
والمكان، وأنه في الدول النامية أشد ضرراً وهذا ما تم تأييده من قبل
الخبراء الدوليين على أن الفساد أكثر انتشاراً وضرراً في الدول النامية
لأسباب متعددة منها ضعف أجهزة الإدارة العامة، أو ضعف الأخلاقيات
الوظيفية، غياب الرقابة الفعالة في هذه الدول.
ولعل الإعلام اليوم وبعد التطور الهائل، أصبح له دور أساسي في نهوض
الأمم وتقدُّم الشعوب نحو تحقيق أهدافها، من خلال تشخيص نقاط الخلل حتى
ان وصل الأمر بالإعلام الحديث إلى مستوى أصبح هو الفاعل والمؤثر الأقوى
في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية على وجه العموم، وأوجد
معياراً أخلاقياً عالي المستوى، يدخل بشكل مباشر في المبادئ الإنسانية
ويشِّكل سلطة معرفية وأخلاقية في المجتمعات المتقدمة الحديثة.
اذا باتت وسائل الإعلام اليوم أهم وسائل الرقابة الشعبية على السلطة
السياسية وجهازها الإداري، وسلاحاً هاماً من أسلحة مكافحة الفساد على
وجه الخصوص وسلاحا بوجه مشاكل المجتمع الاخرى بصورة عامة، ويعد من أهم
وسائل التعبير عن آراء المواطنين في النظم الديمقراطية، وقد أصبح "الإعلام"،
بلا منازع، أداة الرأي العام الأولى في التعبير عن اتجاهاته واحتياجاته
ورغباته، فمن خلاله يستطيع المجتمع ممارسة مهامه في نقد الأخطاء
والعيوب التي تطبع عمل الجهاز الحكومي ويكشف عن المعوقات ويحدد مصادر
الخلل.
وعلى الجانب الأخر نجد أن الدول العربية تقوم بجهود حثيثة لمكافحة
الفساد على كافة المستويات لمواجهة تمويل عجز الموازنة العامة الناتج
عن انخفاض الإيرادات وزيادة النفقات عن طريق تحديث التشريعات المتعلقة
بالجرائم الاقتصادية، وتطوير سياسات التصحيح/الإصلاح الاقتصادي وقد كان
موضوع مكافحة الفساد من أهم التكليفات للحكومات نظراً لتأثيره على
السياسات المتعلقة بالأجور والأسعار، وعلى تطوير قطاعات التعليم والصحة
والعدالة وغيرها، كما عقد ونظم العديد من المؤتمرات والندوات، ولكنها
تركزت حول التشريعات والآثار القانونية والاقتصادية والاجتماعية
المتعلقة بالفساد.
وأهمية وسائل الإعلام ازدادت في تناول قضايا المجتمع، حيث تعد من
وسائط وأدوات التعبير والتوجيه والضبط الاجتماعي، حيث أن التوسع في
مزيد من حرية الإعلام إلى أن أصبح النشر أكثر تأثيراً في تكوين الرأي
العام وتحديد اتجاهاته، الأمر الذي يؤكد على ضرورة التزام أجهزة
الإعلام بالمسئولية الاجتماعية والأخلاقية في عرض الموضوعات المختلفة
تجاه الفرد والمجتمع، بحيث تلتزم التغطية الإعلامية بالتأكيد على صورة
الحدث والتوضيح والتنظيم الدقيق للتفاصيل المعروضة لضمان مراعاة الدقة
وعدم التحيز، والبعد عن الآثار وكل ما ينافي قيم المجتمع،وهذا تم
اقراره من قبل المنظمات الدولية ووسائل الاعلام.
وبالتركيز على معالجة الإعلام لقضايا الفساد، فأن الفساد في
المجتمعات الحديثة يصطدم الفساد بمؤسستين شديدتين القوة، هما مؤسستا
القضاء المستقل والإعلام الحر، أما في مجتمعاتنا، فان القضاء يؤدي دوره
في ظروف صعبة، أما وسائل الإعلام فمازالت غير قادرة على تشكيل رأي عام
حقيقي وقوي يواجه الفساد ولاسباب عديدة أهمها المصالح الشخصية،
الانتماءات الحزبية والتهديدات الامنية في احيان اخرى، وهذه الاعتبارات
على محاسبة الشخص الفاسد، وإلى حد ما يمكن القول بأنها نجحت مساعيها في
الحد من الفساد , وقامت بعض الدول بتوقيع اتفاقيات دولية من أجل عمل
تشريعات قانونية وقواعد أخلاقية تهتم بدور وسائل الإعلام في مكافحة
الفساد "ومنها العراق وان كان لايزال معلقا"، كما أهتمت كلا من منظمة
الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة، والمجلس الاقتصادي الاجتماعي
التابع للأمم المتحدة بدور وسائل الإعلام في حل المشاكل الاجتماعية
والاقتصادية، والعمل على دعم حقوق الإنسان , وهذا ما اخذت به اتفاقية
الامم المتحدة لمكافحة الفساد، اذ دعت الدول الى اعتماد تدابير وقائية
في الفصل الثاني منها تضمنت وضع وتنفيذ سياسات فعالة منسقة تعزز مشاركة
المجتمع المدني وتجسد مبادئ سيادة القانون وحسن ادارة الشؤون
والممتلكات العمومية والنزاهة والشفافية والمساءلة.
ويعد الكشف عن موضوعات متعلقة بالفضائح من المواد الهامة التي يقوم
الإعلام بدور رئيسي في عرض أو اعادة عرض الأصوات المختلفة ذات العلاقة
بموضوع الفضيحة وباستخدام تقنيات تحريرية مختلفة يتم اضفاء طابع درامي
مثير ومشوق للموضوع بحيث يتصدر العناوين الرئيسية للوسائل الاعلام
المختلفة.
ولهذا فأن المراقبين والباحثين لدور وسائل الإعلام يرون أنها اليوم
من أهم المؤسسات الهامة في القضاء على الفساد في كثير من الدول التي
قطعت شوطاً كبير في ممارسة الديمقراطية، بالإضافة إلى أنها تمثل جهاز
رصد وإنذار مبكر لأي خلل في المجتمع، وتعمق الوعي لدى المواطنين بشأن
اتخاذ القرارات من أجل مكافحة هذه الظاهرة بوجه الخصوص.
والمهم هنا ان اردنا تفعيل دور الإعلام في فضح الفساد، ونشر
الشفافية، وتقييم عمل المؤسسات العامة، يتوجب استعماله بطريق مناسبة لا
تأتي بنتائج عكسية مدمرة، بما يجعل الناس يفقدون ثقتهم بالقطاع العام
وموظفيه.
وعلى هذا فأن الوظيفة الأساسية للإعلام "في الدول الطامحة للتنمية"
هي حراسة مصالح المجتمع وهو ما جعل الغرب يطلق عليها اسم «كلب الحراسة»
Watch dog وتتمثل هذه الوظيفة في حماية المجتمع من الانحرافات والفساد
وتحاول تقديم حلول لمشكلات المجتمع، ولأهمية هذه الوظيفة ظهر نوع من
الصحافة يسمي الصحافة الاستقصائية.
وقد ساهمت وسائل الإعلام من خلال الصحافة الاستقصائية في الكشف عن
عديد من حالات الفساد ومن ابرز هذه الحالات :
كشفت الصحف الأمريكية الممارسات الفاسدة , فقد نجحت صحيفة الواشنطن
بوست الأمريكية في كشف فضيحة ووتر جيت وتورط الرئيس الأمريكي السابق
نيكسون في التجسس على المقر الانتخابي للحزب الديمقراطي وهو الحزب
المنافس للحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه، وانتهت الحملة الصحفية
باستقالة الرئيس الأمريكي من الرئاسة عام 1974، كما كشفت الصحف
الأمريكية فضيحة صفقة الأسلحة الأمريكية لإيران، وتحويل أرباحها إلى
متمردي "الكونترا" في نيكاراجوا دون معرفة الكونجرس بها، وكذلك إجراء
تحقيق مع وزير العدل "أدوين ميس" المنوط في أعمال الرشوة في عهد الرئيس
ريجان. ونجحت الصحف الأمريكية أيضاً عن تهرب "سبيرو أجينيو" نائب
الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون من دفع الضرائب وحصوله على رشاوي من بعض
كبار رجال المال لتسهيل صفقاتهم مع الحكومة بالإضافة إلى توجيه تهم
أخرى، وانتهى الأمر بإجباره على تقديم استقالته، والكشف ان أيضاً في عن
تهرب "سبيرو أجينيو" نائب الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون من دفع
الضرائب وحصوله على رشاوى من بعض كبار رجال المال لتسهيل صفقاتهم مع
الحكومة بالإضافة إلى توجيه تهم أخرى، وانتهى الأمر بإجباره على تقديم
استقالته.
اما في المانيا فقد كشفت مجلة Der Spiege مع بداية الثمانينات فساد
مجموعة شركات" Flick " التي قامت من خلال رئيس مجلس إدارتها "ايبرهارد
فو " Eberhard von Brauchitsch بتيسير حصول جميع الأحزاب في بون على
مبالغ ضخمة قدمت تحت بند تبرعات خيرية، وذلك حتى تتهرب الشركات من دفع
مستحقاتها الضريبية، وقد أقر وزير الاقتصاد، وهو من الحزب الاشتراكي
الديمقراطي للصحافة حصول رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي ورئيس
الوزراء آنذاك فايلي براندت Willy Brandt على مليون مارك ألماني
كتسهيلات وتم اتهامه بالفساد. كما نجحت بعض الصحف الألمانية أن ترسل
أحد وزراء الدفاع السابقين إلى المحاكمة لتقاضيه رشاوى من بعض الشركات
التي تتعامل مع وزارة الدفاع، وفي يناير عام 1991، كشفت إحدى المجلات
الألمانية قيام رئيس الوزراء "لوثر سبايت" Lother Spaeth لمقاطعة "باد
"الألمانية وهو من الحزب الديمقراطي المسيحي مع أفراد أسرته برحلات
للخارج تحملت بعض الشركات الخاصة تكلفتها في مقابل حصولها على تسهيلات
مادية من الحكومة، وقدم استقالته بعد اكتشاف تقاضيه رشاوى، وكذلك قيام
وزير الاقتصاد "يورجن موليمار" Juergen Moellemar من حزب FDP باستغلال
منصبه لخدمة أحد أقاربه بفتح جريدة له، وقدم استقالته عام 1993.
كما تمكنت وسائل الإعلام إيطالية من كشف النقاب عن قصص الفساد التي
تتجاهلها الوكالات الرسمية المنوطة بالرقابة الاجتماعية، ففي عام 1992
لعبت الصحف الإيطالية عن كشف "فضيحة تانجينتوبولي"، وتم القبض على أحد
الموظفين المنتمين إلى الحزب الاشتراكي في قضية تتعلق بجمع أموال عن
طريق الابتزاز في إطار تعاقد على تولي نظافة أحد مراكز إيواء المحالين
للمعاش التابعة للبلدية، وكانت الرشوة 10 مليون ليرة، وأدى هذا إلى
تلويث سمعة الحزب الاشتراكي الذي تعرض بعض أعضائه الكبار للتحقيقات في
قضايا تتعلق بالفساد السياسي. ونجحت الصحف الإيطالية في الكشف عن فضيحة
مالية كبرى تورط فيها الرئيس الايطالي جيوفاني ليوني وقد انتهى الامر
باستقالته.
أما في انجلترا،، فقد شغلت قضية الفساد الحكومي الرأي العام والصحف
البريطانية منذ عام 1948 الأمر الذي أدى إلى توجه رئيس الوزراء "آتلي "
Attlee إلى مجلس العموم للتحقيق حول الادعاءات الموجهة إلى بعض الوزراء
في حكومته وبعض مساعديهم من الموظفين العموميين بالفساد.
وفي بريطانيا فقد كشفت صحيفة "الدايلي تلغراف" عن فضيحة مالية غير
مسبوقة أفضت إلى دفع المتحدث باسم غرفة العموم البريطانية إلى تقديم
استقالته من منصبه وقد استطاعت الصحيفة بفضل شرائها لقرص كمبيوتر أن
تكشف أدق التفاصيل عن التعويضات التي كان يحصل عليها نواب المجلس من
ميزانية الدولة عندما تمكنت من الحصول على جميع الكشوف المتعلقة بنفقات
النواب، حيث وفر ملايين الجنيهات الاسترلينية على دافع الضرائب
البريطاني.
لعبت الصحيفة في المجتمعات التي تعرف تجارب جديدة في مجال
الديمقراطية كما هو الحال في بلدان أوروبا الشرقية التي تخلصت من
الأنظمة الشيوعية الديكتاتورية دورا معتبرا في الكشف عن عديد قضايا
الفساد حيث كشفت الصحافة البولندية عن اكبر فضيحة رشوة في البلاد في
مرحلة ما بعد النظام الشيوعي والتي عرفت بفضيحة " Rywingate "وقد قام
"أدام ميشنيك " Adam Michnik رئيس تحرير اكبر صحيفة بولندية مؤثرة وهي
La Gazetta Wyborcza بنشر على الصفحة الأولى لصحيفته عرض رشوة ب
17,5مليون يورو تلقاها من قبل شخص يدعى Luis Rywin وهو منتج قدم نفسه
على انه يتصرف باسم جماعة نافذة في السلطة هي جماعة تحالف اليسار
الديمقراطي وهو حزب معارض، وقد أحدثت المعلومة المنشورة زلزالا سياسيا
كبيرا في البلاد أفضى إلى إنشاء لجنة تحقيق برلمانية حيث قام التلفزيون
البولندي ببث جلسات المحاكمة،على الهواء بعد ان اصبحت اهم قضية رأي عام
في البلاد.
* صحفي عراقي |