السيد محمد الشيرازي.. قراءة في خصائص التجربة

محمد محفوظ

كثيرون من نلتقي بهم في الحياة، نجالسهم ويجالسوننا، نتحدث إليهم ويتحدثون إلينا، ولكن القليل من هؤلاء من يترك بصمة خضراء لا تنسى في مسيرة حياتنا..

وذلك لامتلاكهم صفات أخلاقية وشخصية متميزة، وقدرات علمية وإنسانية رائعة..

لهذا فإنهم يؤثرون بعمق في محيطهم الاجتماعي، وينقلونه من طور إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى، ومن اهتمامات شكلية، قشرية، إلى اهتمامات نوعية وحيوية ومفيدة لراهن الإنسان ومستقبله.. ومن هذه الشخصيات الرائدة، والتي تركت تأثيرات عميقة في مسيرتنا وتجربتنا الأخلاقية والدينية والثقافية سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي رضوان الله تعالى عليه.. فهو من القلائل الذي غير حياة أفراد وجماعات ومجتمعات، ونقلهم بعلمه وثقافته ووعيه وأخلاقه إلى مرحلة الحضور والشهود على الحياة العامة.. ولعل هذه التجربة تثبت لنا وتعلمنا أن من يدمن طرق الباب يلج، مهما كانت الصعوبات والعقبات..

لهذا نجد في تجربة الراحل الكبير، أنها انفتحت على كل حقول الحياة، وعملت على مشاركة جميع الفئات والشرائح في مشروع الإصلاح والتغيير.. وأكد في كل دروسه وأبحاثه ولقاءاته، على أن الإنسان المختلف ليس موضوعا للعداوة والخصومة والبغضاء، وإنما هو فضاء مفتوح للتعارف والألفة والمحبة..

فهو من العلماء والفقهاء الذين عملوا، وأسسوا المؤسسات والمراكز، وربوا الدعاة والعلماء والعاملين منذ انطلاقته في كربلاء المقدسة.. وانطلاقا من هذه المرحلة عمل وجاهد في اتجاهين أساسين وهما: صياغة رؤية إسلامية متكاملة في حقول الحياة المختلفة، يستند إليها الإنسان الفرد والجماعة من أجل الالتزام بقيم الإسلام في الحياة الخاصة والعامة.. فالإسلام وفق رؤية السيد الشيرازي الإصلاحية، ليس طقوسا شكلية، وإنما هو مشروع متكامل قابل للحياة، وهو جسر عبور المسلمين إذا أرادوا السعادة والتقدم في الدنيا والفلاح في الآخرة..

وفي هذا السياق أبدع السيد الشيرازي مجموعة من النظريات الإسلامية، التي أخرجت وأبرزت المضمون الحضاري والإنساني للإسلام..

والاتجاه الثاني هو بناء الجماعات المؤمنة التي تأخذ على عاتقها العمل للإسلام والدفاع عن مقدساته وثوابته، وتفكيك ثقافة التخلف والانحطاط التي تلف مجتمعات المسلمين بأسرها.. فالجماعة المؤمنة المتسلحة برؤية حضارية للإسلام، هي القادرة على إعادة المسلمين إلى إسلامهم وردم الهوة التي تفصلهم عن قيمه الحضارية والسياسية والمجتمعية..

فالسيد الشيرازي في تجربته الإصلاحية في كل أطوارها ومراحلها عمل على أعادة الإسلام إلى الحياة، وذلك عبر بناء رؤية حضارية متكاملة للإسلام، مع نقد عميق لكل المقولات والنزعات التي تتعامل مع الإسلام بطقوسية شكلية، أو تعتني بالقشور دون الالتفات إلى جوهر الإسلام ومضمونه الحضاري..

وأعاد الإنسان المسلم فردا وجماعة إلى إسلامهم ودينهم، بعد حقب زمنية مديدة، ابتعد الناس فيه بمستويات متفاوتة عن الفهم السليم للإسلام، فتعاملوا مع إسلامهم في حدود أحوالهم الشخصية، وغيبوا قيم الإسلام في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. فتجد الإنسان المسلم يصلي ويصوم، ولكنه يغش في تجارته، أو يقبل الخنوع إلى المستبد ويمارس الشرك السياسي بكل تجلياته وتمظهراته المختلفة..

ولكن الرؤية الإصلاحية التي حمل مشعلها السيد الشيرازي كما حملها غيره من العلماء والفقهاء والمصلحين، أعادت للإنسان المسلم روحه الإسلامية الأصيلة، فحولته من إنسان لا أبالي، لا يثق بقدراته وإمكاناته الذاتية، إلى إنسان يمتلك حيوية وفعالية، ويكافح ويجاهد من أجل حياة كريمة في مختلف مجالات الحياة..

فالسيد الشيرازي لم يكتف بلعن الظلام، وإنما عمل على تبديده، وإنهاء موجباته وأسبابه من حياة المسلمين..

فهو لم يقبل لنفسه أن يبقى متفرجا على أحوال المسلمين وأوضاعهم، وإنما عقد العزم على المشاركة الفعالة في بناء مشروع إسلامي معاصر، يساهم في إخراج المجتمعات الإسلامية من وهدة الجمود والتخلف إلى رحاب العمل والتقدم..

وكلنا يدرك أن هذه المهام، ليست سهلة المنال، وإنما هي بحاجة إلى تظافر جميع الجهود والطاقات من أجل تحويلها إلى واقع معاش..

ونحن في ذكرى رحيل السيد الشيرازي، نستذكر همته العالية، وعمله المتواصل، وعلمه الواسع وإرادته التي لا تلين، لأنه استطاع أن يبني واقعا إسلاميا جديدا في أكثر من بلد عربي وإسلامي..

وفي ذكرى الرحيل نستذكر أخلاقه النبوية، التي بهرت الجميع، وأذابت الكثير من الخصومات والعداوات، وكان رحمه الله تعالى نموذج حي للآية القرآنية (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) (فصلت 34)..

وحينما تلجأ إليه للاستزادة العلمية، يزيدك علما ووعيا، ويحملك مسؤولية العمل في سبيل عزة الإسلام ورفعة المؤمنين..

وخلال سنوات معرفتنا به واللقاء به، لم نسمع منه كلمة نابية بحق أحد.. وكان يوجهنا دائما بعدم الانشغال بالتوافه من الأمور، وبعدم الانخراط في القيل والقال.. فالغاية نبيلة وعالية، وتحتاج إلى كل جهدكم وطاقتكم، فلا تصرفوها في أشياء لا مصلحة منها أو فيها..

فكان رحمه الله نموذج للعالم الرباني الذي ملء حياته كلها بالعلم والعمل.. وبقيت الأمة بكل شؤونها وآلامها وآمالها، هي محط اهتمامه الدائم..

فالسيد الشيرازي ومن خلال دوره وآثاره العلمية والمؤسسية والثقافية، هو أحد صناع النهضة الإسلامية المعاصرة، وأنه ترك بصمات نوعية في مسيرتها وتطورها الاجتماعي والسياسي والتاريخي..

ولا ريب أن العطاءات العلمية والثقافية للسيد الشيرازي، فتحت مديات فقهية ومعرفية جديدة.. ففي الوقت الذي كان غائبا أو شبه غائب الاهتمام بالنظرية السياسية الإسلامية، ألف مجموعة من الكتب التي صاغ من خلالها رؤيته السياسية، مما ساهم في تظهير النظرية السياسية الإسلامية..

وفي الوقت الذي كان الجدل الفكري والمعرفي محتدما، حول طبيعة العلاقة بين الدين والحرية بكل آفاقها وآليات عملها، لم ينزو عن ساحة الجدل الفكري والمعرفي، وإنما شارك فيها وصاغ رؤيته الفكرية الذي انتصر فيها للحرية، واعتبرها من قيم الإسلام الأساسية.. فالسيد في كل أطوار حياته وتجربته الدينية والإصلاحية، مارس الحضور بكل آفاقه وتطلعاته، ونبذ النكوص والانكفاء والجمود.. فمهما كانت الصعوبات والمشاكل، فلا خيار أمام المصلحين إلا مواجهة هذه المشاكل وتذليل العقبات، واجتراح وسائل الحضور بما ينسجم وطبيعة الساحة وتحدياتها المختلفة..

ومن خلال التفاعل الخلاق مع الواقع بكل إكراهاته وصعوباته وتطلعاته، تولدت أفكار معرفية عديدة، ساهمت في إنضاج التجربة الإسلامية المعاصرة..

وتثبت العديد من التجارب التاريخية والمعاصرة، على أن قوة الدول والمجتمعات، ليس في منعها الناس من ممارسة حرياتهم الدينية والسياسية أو تقييد وتكبيل قدرتهم عن التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومعتقداتهم الدينية.. وإنما في السماح لجميع المواطنين للتعبير عن ذواتهم الدينية والثقافية والسياسية.. فالمنع والتقييد لا يبني قوة، ولا يحافظ على الأمن والاستقرار.. بل قد يوفر الظروف والمناخات المعاكسة لذلك.. من هنا فإننا نعتقد ونطالب بالمزيد من فتح الفرص لجميع أبناء الوطن من أقصاه إلى أقصاه للتعبير عن ذواتهم وحريتهم في مجالات الحياة المختلفة..

فالحياة دائما لكل أمة ومجتمع يدار بالحرية، وينبذ الإكراه بكل صنوفه وأشكاله ومستوياته..

والحرية بكل مستوياتها هي حق طبيعي من حقوق الإنسان، ولا يمكن لأي جهة أن تحجر على حرية الإنسان أو تحول دون ممارسة الإنسان لحرياته..

فهي من الحقوق الأصيلة المرتبطة بإنسانية الإنسان.. بمعنى أن قوام إنسانية الإنسان هي الحرية، وأي انتهاك لهذه الحرية، بقدر هذا الانتهاك، تنتهك إنسانية الإنسان..

خصائص التجربة:

كما يقرر الباحثون في التجارب الإصلاحية الدينية والسياسية: إن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الدينية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف..

لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي وبيان أنه (الإسلام) صالح لكل زمان ومكان، وضرورة خلق الفاعلية الحضارية للمسلمين عن طريق تفسير نهضوي لقيم الإسلام ومبادئه.. إن هذه العملية هي مرتكز مشروع الإصلاح، وهي الإطار النظري له.. وحين التأمل في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، نجد أن هذا الواقع يعاني من تاءات أربع (التخلف – التجزئة – الاستعمار بمرحلتيه المباشر وغير المباشر – الاستبداد) والعلاقة بين هذه الوقائع متداخلة وعميقة.. فلولا التخلف لما كانت هناك تجزئة واستعمار وديكتاتورية.. ولكي يديم الاستعمار هيمنته، هو بحاجة لإدامة التخلف والتجزئة والاستبداد..

فكل حقيقة تتغذى من الأخرى، ولكن جذر المشكلة هو التخلف.. وقد عمل السيد الشيرازي ومشروعه في الأمة لمحاربته (التخلف) من خلال التقاط التالية:

1- صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف وإحياء قيم الإسلام في نفوس وعقول المسلمين..

2- العمل على بناء نخبة دينية واعية، تأخذ على عاتقها صناعة الوعي والحقائق المضادة للتخلف في المجتمع..

3- المساهمة في بناء الحركات الاجتماعية والسياسية، التي تتبنى مشروع الإسلام وتعمل من أجل تمكينه في الأرض..

ولقد تميزت تجربة السيد الشيرازي بمجموعة من الميزات والخصائص أهمها الآتي:

1- الإصلاح والتغيير: إن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري في أي تجربة إنسانية، هي عبارة عن عملية تفاعل وجدل بين العناصر الثلاثة (النص والفكرة – الواقع بكل مستوياته – الإنسان الذي يقوم بعملية الربط والتفاعل والاستنباط)..

ولا يمكن أن تتم عملية التجديد والإصلاح بدون العلاقة العضوية بين هذه العناصر.. ولكي لا نقع في اللبس وسوء الفهم، في تقديرنا أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري تعني:

1- تجديد الفهم والمعرفة للنصوص الشرعية والواقع..

2- إنهاء المفارقة التاريخية بين الإسلام والمسلمين، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين، بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي..

3- القدرة على استيعاب التفاصيل والجزيئات والمتغيرات في إطار الثوابت والكليات وذلك عبر عملية الاجتهاد..

4- تقديم تفسير جديد لمفاهيم الإسلام وقيمه..

كالعلاقة بين الإسلام والسياسة، والإسلام والحريات العامة ومفهوم الانتظار وما أشبه ذلك..

واليوم وفي ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجالين العربي والإسلامي، لا يمكن أن تسود قيم الإسلام الحياة العامة، وبدون التجديد الديني والإصلاح الثقافي والسياسي..

لأن هناك حواجز وعقبات كثيرة، تحول دون انطلاقة الإسلام في الحياة العامة.. لهذا فإن التجديد والإصلاح هو جسر العبور نحو هذه الغاية..

فالتجديد وفق الرؤية المذكورة أعلاه، هو ضرورة دينية وحاجة إسلامية معاصرة، وجسر عبور المسلمين لكي يعيشوا الإسلام والعصر معا..

والتجارب الإسلامية الناجحة والمعاصرة اليوم، هي التي توسلت بطريق التجديد والإصلاح الثقافي والسياسي، لأنه لا يمكن أن تقوم نهضة إسلامية حقيقية في ظل سيادة أنظمة الاستبداد السياسي وثقافة التبرير والتخلف وأنظمة اجتماعية وثقافية تلغي إنسانية الإنسان وتمتهن كرامته.. فحجر الزاوية في مشروع الإصلاح والتجديد هو بناء ثقافة المسلمين ووعيهم المعاصر لذواتهم ولمحيطهم وفضائهم الإنساني بعيدا عن نزعات الاستئصال والجمود وتكرار المقولات التي عمقت وعززت جذور التخلف بكل مستوياته في حياة المسلمين المعاصرة..

فالتجديد والإصلاح هو الذي يحررنا من ثقافة الاستبداد والتخلف.. لهذا لا يمكن أن تتأسس تجربة إصلاحية بعيدا عن هذه القيم ومتوالياتها العقلية والثقافية والاجتماعية والسياسية..

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن الالتزام بخيار التجديد الديني والإصلاح الثقافي والسياسي، هي من أهم عناصر القوة في تجربة السيد محمد الشيرازي رحمه الله، والتي وفرت له إمكانات وآفاق عديدة للعمل وخدمة الإسلام والمسلمين من خلالها.. صحيح إن تبني خيار الإصلاح والتجديد له كلفته الاجتماعية والسياسية، ولكن من ينشد إصلاح أوضاع الأمة، وإعادة مجدها التاريخي، لا يمكن أن ينجز ما يتطلع إليه بعيدا عن خيار التجديد والإصلاح..

بل إنني أعتقد أن الكثير من مساحات التأثير الاجتماعي والسياسي والثقافي لمدرسة السيد الشيرازي، هي نتاج التزام هذه المدرسة بالتصدي لشؤون الأمة المختلفة، وتبني خيار التجديد الديني والإصلاح الثقافي والسياسي..

هذا الخيار بمتوالياته المتعددة، هو الذي مكن هذه المدرسة الرائدة في بناء قوى اجتماعية ودينية وسياسية صاعدة أخذت على عاتقها تحمل مسؤولية التغيير في مجتمعاتها والدفاع عن حقوقه الدينية والمدنية..

2- إعطاء أهمية وأولوية للعمل الثقافي.. لعل من أهم الخصائص التي تميز تجربة السيد محمد الشيرازي ومدرسته الرسالية، هو الاهتمام بالثقافة.. في سياق قناعة أساسية وهي: أن التغيير الثقافي هو الذي يقود إلى تغييرات وتحولات كبرى في مسيرة المجتمعات.. وإنه لا يمكن للجماعات الدينية أن تترك بصمات نوعية في فضائها الاجتماعي، دون اهتمام بالعمل الثقافي بكل مستوياته ووسائطه..

لذلك تمكنت هذه المدرسة من بناء مكتبة إسلامية في أغلب التخصصات والمعارف، كما أنها قدمت للمجتمع نخبة ثقافية وفكرية متميزة قادرة على العطاء الثقافي والفكري والإعلامي، كما أنها ساهمت بشكل فعال في تعزيز ظاهرة المنتديات الثقافية في محيطها الاجتماعي..

ومن جراء هذا العطاء الفكري والثقافي المتواصل، تمكنت هذه التجربة والمدرسة من تصدر المشهد الثقافي في أكثر من منطقة، وذلك بسبب وجود أنشطة ثقافية واعلامية متميزة، ولوجود شخصيات ثقافية وفكرية استطاعت أن تحجز لها موقعا متقدما في المشهد الثقافي والفكري..

ونحن إذ نعبر عن هذه الخاصية المهمة في هذه التجربة الدينية والثقافية الهامة، ندرك أهمية أن يتواصل هذا الاهتمام، وتتراكم هذه التجربة على هذا الصعيد، ونتمكن من بناء نخبة ثقافية جديدة، تواصل العطاء والإبداع، وتحمل مسؤولية تطوير الحياة الثقافية والفكرية في مجتمعنا..

3- الجماهيرية.. بعيدا عن المضاربات الأيدلوجية، نعرف البعد الجماهيري في هذه التجربة الرسالية في أن نشاطها وحراكها الرسالي ليس محصورا في نخبة ضيقة، وإنما هي تقوم ببناء مؤسسات وتأسيس أعمال وأنشطة تستوعب شرائح اجتماعية عديدة من المجتمع.. فهذه التجربة بكل مراحلها وفي كل أطوارها لم تستنكف من ممارسة العمل السياسي بوصفه أحد وسائل التمكن الاجتماعي ومعالجة مشاكل المجتمع، كما أنها واصلت العمل الديني والتبليغي والدعوي من خلال بناء الحوزات والمعاهد الشرعية وبناء المساجد والحسينيات وتأسيس المؤسسات الإعلامية التي تأخذ على عاتقها إيصال صوت الناس والمجتمع إلى العالم، وقدمت هذه التجربة لمجتمعنا عشرات العلماء والخطباء والكتاب.. لهذه الأعمال المتنوعة، هذه التجربة تحتضن أجيال اجتماعية متعددة، فهي مشروع إسلامي متكامل، قدم الإسلام بوصفه مشروع حياة، وقادر على معالجة مشكلات الإنسان والمجتمع..

ومع اعتزازها بكفاءاتها النوعية على أكثر من صعيد، إلا أنها لم تنحبس في أقنية وأطر ضيقة، وإنما عملت من أجل المجتمع كله بكل فئاته وشرائحه..

فهذه التجربة رائدة في إعادة الحياة والحيوية إلى مساجدنا وحسينياتنا، كما أنها ساهمت في تطوير الخطاب الديني والثقافي لمجتمعنا وهكذا حافظت هذه التجربة على هذه الخاصية وأصبحت وفية لها من خلال الالتزام بخيار توسيع دائرة مشاركة الناس في أعمالها ومشاريعها..

4- رسالية الخدمة.. فهي تولي أهمية للأنشطة الخدمية الاجتماعية، وعملت على بناء مؤسسات وأطر خدمية (الأيتام – الزواج الجماعي – مساعدة المحتاجين – تيسير الزواج)..

فالجماعات الدينية لا يمكن أن تتمكن في مجتمعها فقط عن طريق الأعمال الثقافية أو السياسية، وإنما هي بحاجة باستمرار إلى تقديم خدمات إلى مجتمعها، وبناء شبكة حماية له، تمكنه من معالجة بعض مشاكله وأزماته.. ضمن رؤية فكرية ومعرفية هي: أن المجتمع القادر على تسيير شؤونه بنفسه، هو مجتمع قادر على نيل حقوقه والوصول إلى أهدافه الدينية والمدنية..

ولقد تمكنت هذه التجربة في العديد من المناطق من القيام بأنشطة اجتماعية خدمية، ساهمت في سد ثغرة من ثغرات المجتمع، وتمكنت من إنهاء حالة ضعف كبرى ترهق المجتمع وتربكه على أكثر من صعيد..

لهذا فهذه التجربة تعتني بمشروع الخدمة ومد يد العون والمساعدة للمحتاجين من أبناء المجتمع، وتعتبر أن هذا البعد من خصائص تجربتها التي ينبغي أن تحافظ عليه وتعمل على تطويره وإتقان العمل فيه..

الخاتمة:

عمل السيد محمد الشيرازي عبر عطاءاته المتعددة وأنشطته المتنوعة إلى إزالة الركام التاريخي، الذي يحول دون تفاعل الإنسان المسلم فردا وجماعة مع الإسلام وقيمه الكبرى..

ولا ريب أن هذه الآلية هي أحد أهم آليات الممارسة الإصلاحية في كل التجارب الدينية.. إذ يدرك المصلح مبكرا حجم المفارقة التاريخية بين الإسلام والمسلمين، بين القيم والمبادئ والواقع المعاش، فيعمل بصياغة خطاب ديني وثقافي يستهدف ردم الهوة والمسافة بين الإسلام والمسلمين.. ولكون أن هذه العملية لا يستطيع الفرد أن يقوم بها مهما كانت إمكاناته، فيلجأ المصلح إلى بناء جماعة مؤمنة وطليعة رسالية تأخذ على عاتقها مشروع إحياء الإسلام بكل قيمه وتشريعاته في نفوس وعقول المسلمين..

ولقد أبلى الراحل الكبير السيد محمد الشيرازي في هذا السبيل بلاءا حسنا.. فمع كثرة الصعوبات والمعوقات والمثبطات، إلا أنه لم يتوقف عن العمل في سبيل عزة الإسلام والمسلمين.. بل نستطيع القول: إنه بوعيه الفذ وإرادته الصلبة، حول العقبات إلى عتبات للرقي بمشروعه وعطاءه العلمي والثقافي..

وحينما واجهته مشكلة الشك في إمكاناته العلمية لم يخضع لمقتضياتها من انهزام نفسي وما أشبه، وإنما واجه هذه المشكلة بالمزيد من العطاء العلمي المتميز على أكثر من صعيد علمي وفقهي..

وتعلمنا تجربة السيد محمد الشيرازي أن الإنسان الذي يؤمن بهدف كبير، ينبغي أن يعمل إليه مهما كانت الصعوبات والعقبات، وأن لا تشغله مقولات المثبطين أو مناكفات الخصوم والمنافسين عن هدفه الأساسي..

فالجهد كله ينبغي أن يتجه إلى الهدف، ولا مجال في هذا السياق إلى معارك جزئية، تعرقل المسيرة، وتضيع الغاية وتزيد من إرباك المجتمع بصراعات تافهة لا طائل من وراءها ولا رابح فيها..

وفي ذكرى رحيل هذا العملاق الكبير نستذكر كل قيم العطاء والفضيلة والصبر على الأذى والإصرار على العمل والكفاح المستميت من أجل إعادة المجد للمسلمين..

هذه هي قيم هذه التجربة، وحري بنا جميعا أن نعمل من أجل هذه الأهداف بدون كلل أو ملل أو تعب..

وفي ذكرى الراحل الكبير نجدد العهد بتلك القيم والمبادئ التي عمل من أجلها سماحة السيد رحمه الله، وسنبقى نعمل بكل إمكاناتنا من أجل وحدة الأمة وحريتها من كل الأغلال والإكراهات..

رحمك الله يا سماحة السيد وجزاك الله عنا وعن أمتك خير الجزاء وستبقى أفكارك ورؤاك منار هداية ومشعل نور لأجيال الأمة المتعاقبة..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 19/آب/2012 - 30/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م