عنترة بن شداد... الكلاب والشجاعة

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كنت مسافرا الى احدى المحافظات، في سيارة يطلق عليها العراقيون تسمية (الكوستر)، كانت هناك امراة واحدة تجلس في المقاعد الخلفية مع ابنها، كانت جميلة المحيا، اشاعت الكثير من التباهي بين الركاب والالتفات المستمر نحوها، وكانت عيونهم طوامح، رغم اننا في شهر رمضان المبارك، امامها جلس ما اسماه الركاب (اذاعة متنقلة) كثر الالتفات الى الخلف، وكثر الحديث وتشعب، وكان سيد المتحدثين من اطلقوا عليه ذلك اللقب، وكان مسرورا به، وقد برر كثرة كلامه بانه يستعيض عن التدخين بالكلام تسلية له حتى موعد الافطار.

لم يترك صاحبنا موضوعا الا وتحدث به، العدس التمويني، الكهرباء الوطنية، نوري المالكي، انواع السمك، قتيبة الارهابي، السرقات من الجنود الامريكيين، الكلاب البوليسية ورتبها العسكرية، حديثه مجموعة من الهلاوس، مجموعة من انصاف الحقائق، وكثير من الهذيان، وكان مما اتحفنا به من معلومات ان عنترة بن شداد، الفارس والشاعر العربي المشهور بشجاعته، كان يتعرض لمضايقات شباب الحارة وهو ياتي بالمؤن لاخيه شيبوب، وكان يفر من امام هؤلاء الشباب خوفا منه بعد ان يسلبوا منه تلك المؤن.

في يوم شاهد عنترة بن شداد كلبا يحري، وهو يمسك بقطعة عظم بين فكيه، وكانت الكلاب تطارده لانتزاع هذه القطعة، ثم اخذ بمقاتلتهم حتى تغلب عليهم، ومن هذا الموقف تعلم عنترة الشجاعة.

ولدى سؤال المتحدث عمن استقى المعلومة تلك اجاب من جدي رحمه الله... هل كان عنترة فعلا كذلك؟

يعود اشتقاق اسم عنترة الى ضرب من الذباب يقال له العنتر وإن كانت النون فيه زائدة فهو من العَتْرِ والعَتْرُ الذبح والعنترة أيضاً هو السلوك في الشدائد والشجاعة في الحرب. كان عنترة يلقب بالفلحاء ـ من الفلح ـ أي شق في شفته السفلى وكان يكنى بأبي الفوارس لفروسيته ويكنى بأبي المعايش وأبي أوفى وأبي المغلس لجرأته في الغلس أو لسواده الذي هو كالغلس، وقد ورث ذاك السواد من أمه زبيبة، إذ كانت أمه حبشية وبسبب هذا السواد عده القدماء من أغرب العرب.

ولد عنترة في الربع الأول من القرن السادس الميلادي، وبالاستناد إلى أخباره، واشتراكه في حرب داحس والغبراء فقد حدّد ميلاده في سنة 525م. يعزّز هذه الأرقام تواتر الأخبار المتعلّقة بمعاصرته لكل من عمرو بن معدي كرب والحطيئة وكلاهما أدرك الإسلام.

أمه كانت حبشية يقال لها زبيبة، وكان لعنترة اخوة من أمه عبيد هم جرير وشيبوب. وكان هو عبداً أيضاً لأن العرب كانت لا تعترف ببني الإماء إلا إذا امتازوا على أكفائهم ببطولة أو شاعرية أو سوى ذلك.

ذاق عنترة مرارة الحرمان وشظف العيش ومهانة الدار لأن أباه لم يلحقه بنسبه، فقد كان أبوه هو سيده، يعاقبه أشد العقاب على ما يقترفه من هنات، وكانت سمية زوجة أبيه تدس له عند أبيه وتحوك له المكائد.

اما كيف الحقه ابوه بنسبه قيل (إن أباه شدّاد نفاه مرّة ثم اعترف به فألحق بنسبه. قال أبو الفرج: كانت العرب تفعل ذلك، تستبعد بني الإماء، فإن أنجب اعترفت به وإلا بقي عبداً. أما كيف ادّعاه أبوه وألحقه بنسبه، فقد ذكره ابن الكلبي فقال: وكان سبب ادّعاء أبي عنترة إياه أنّ بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلاً، فتبعهم العبسيّون فلحقوهم فقاتلوهم عمّا معهم وعنترة يومئذ بينهم. فقال له أبوه: كرّ يا عنترة. فقال عنترة: العبد لا يحسن الكرّ، إنما يحسن الحلابَ والصرّ. فقال: كرّ وأنت حرّ فكرّ عنترة وهو يقول:

أنا الهجينُ عنتَرَه- كلُّ امرئ يحمي حِرَهْ

أسودَه وأحمرَهْ- والشّعَراتِ المشعَرَهْ

الواردات مشفَرَه

ففي ذلك اليوم أبلى عنترة بلاءً حسناً فادّعاه أبوه بعد ذلك والحق به نسبه. وروى غير ابن الكلبي سبباً آخر يقول: إن العبسيين أغاروا على طيء فأصابوا نَعَماً، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيباً مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال الخطب بينهم كرّت عليهم طيء فاعتزلهم عنترة وقال: دونكم القوم، فإنكم عددهم. واستنقذت طيء الإبل فقال له أبوه: كرّ يا عنترة. فقال: أو يحسن العبدُ الكرّ فقال له أبوه: العبد غيرك، فاعترف به، فكرّ واستنقذ النعم.

وهكذا استحق عنترة حرّيته بفروسيته وشجاعته وقوة ساعده، حتى غدا باعتراف المؤرخين حامي لواء بني عبس، على نحو ما ذكر أبو عمرو الشيباني حين قال: غَزَت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن زيهر، فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم فوقف لهم عنترة ولحقتهم كبكبة من الخيل فحامى عنترة عن الناس فلم يُصَب مدبرٌ. وكان قيس بن زهير سيّدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ، فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلا ابن السّوداء. فعرّض به عنترة، مفتخراً بشجاعته ومروءته:

إنيّ امرؤٌ من خيرِ عَبْسِ منصِباً- شطْرِي وأَحمي سائري بالمُنْصُلِ

وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظتْ- ألفيت خيراً من مُعٍِّم مُخْوَلِ

والخيلُ تعلمُ والفوارسُ أنّني- فرّقتُ جمعَهُم بضربةِ فيصلِ

إن يُلْحَقوا أكرُرْ وإن يُسْتَلْحموا- أشدُد وإن يُلْفوا بضنْكٍ أنزلِ

حين النزولُ يكون غايةَ مثلنا- ويفرّ كل مضلّل مُسْتوْهِلِ

وكان النصر لبني عبس فاحتفت القبيلة بعنترة وكرمته.

والشجاعة معروفة كذلك بالثبات و الجرأة و تنقسم إلى نوعين:

شجاعة طبيعية: وهي شجاعة تجاه الألم الطبيعي و المشقّة أو التهديد بالموت.

 شجاعة أخلاقية: وهي القدرة على التصرف بشكل صحيح تجاه المعارضة الشعبية و الخزي والفضيحة أو الإحباط.

في اللغة: يرد معناها إلى أصل واحد هو الجرأة و الإقدام. في لسان العرب: شَجُع شجاعة: اشتد عند البأس و الشجاعة: شدة القلب في البأس.

وأما في الاصطلاح فقد عرفها بعضهم بأنها: الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف مع الاستهانة بالموت.

إن الأخلاق بصفة عامة منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، وقد ذكر العلماء العديد من الوسائل النافعة لاكتساب الشجاعة وتقويتها في نفوس أهلها ومن هذه الوسائل:

1- التمرين العملي، وذلك بالتعرض للمواقف الصعبة التي لا يُتخلص منها إلا بالشجاعة.

2- الإخلاص لله تعالى والإيمان بالقضاء والقدر، فإن المخلص الذي لا يريد إلا وجه الله تعالى وثوابه لا يبالي بلوم اللائمين، إذا كان في ذلك رضا رب العالمين.

ومتى قوي إيمان العبد بقضاء الله وقدره علم أن الخلق لا يضرون ولا ينفعون، وأن نواصيهم بيد الله تعالى، عندئذٍ يطمئن الفؤاد ويقوى القلب على كل قول وفعل ينفع الإقدام عليه.

3- الاطلاع على سير وقصص الشجعان للاقتداء ومحاولة التشبه بهم.

4- مكافأة الشجعان عن طريق العطاءات المادية والثناء والتمجيد وهي من أعظم الوسائل في التربية بشكل عام ولاسيما اكتساب الفضائل الخلقية.

والإنسان (الشجاع) هو مَن يغلِّب فضائلَ القلب (كلمة courage الفرنسية [شجاعة] مشتقة حصرًا من كلمة cœur [قلب]) باعتباره مقرَّ الإرادة والطاقة والخصال التي تشكِّل (قوة النفس) أمام الخوف والمجازفة والتهديد والخطر والعذاب والموت. الشجاعة هي فضيلة الإنسان القوي الذي يصمد عند الامتحان. ولما كان خوف الإنسان متأصلاً دومًا في خشية الموت، فإن خصلة الإنسان الشجاع هي سيطرته على خوفه من الموت، مجازفًا بحياته للذود عن قضية عادلة، كرامته مرهونة لها.

في موروثاتنا الثقافية، تُمتَحن شجاعةُ الإنسان عند الحرب؛ فيُتغنَّى بالشجاعة عند ذاك بوصفها فضيلةَ المحارب الذي يُقدِم ويستبسل أمام المخاطر. وتُعتبَر الحربُ اللحظةَ التي يقوم فيها المواطن، إذ يتخلى عن مصالحه الخاصة، بتحقيق كيانه الأخلاقي والروحي بالتحلي بشجاعة المخاطرة بحياته لخدمة المصلحة العامة. منذ قرون والمجتمعاتُ تتعهد العنفَ وتمجِّده وتقدِّسه بوصفه فضيلة الإنسان القوي الذي يتحلَّى بشجاعة ركوب أعظم الأخطار للذود عن شرفه وحريته وعن شرف أبناء جلدته وحريتهم. يضمن هذا الإشراطُ الاجتماعي والإيديولوجي، من جيل إلى جيل، استنساخَ سلوكياتِ إذعانٍ وطاعةٍ لأوامر السلطات التي تأمر بالقتل حفاظًا على المصالح العليا للجماعة.

تظهر نبالةُ فضيلة الشجاعة في وضوح حين تُقارَن بالجبن، المشين دومًا. لكن ثقافة العنف تسجن المواطن في وضع يشعر فيه أن لا خيار له، إذ يواجه الظلم، إلا بين العنف والجبن؛ فيُهاب به إذ ذاك أن يبرهن على شجاعته باختياره العنف. ولأنه يرفض أن يكون جبانًا، إنْ في نظره أو في أعين الآخرين، يقبل عمومًا أن يكون عنيفًا. وبهذا تمارس إيديولوجيا العنف ابتزازًا حقيقيًّا على المواطنين بتأكيدها على أن الطريقة الوحيدة للتحلي بالشجاعة هي الاتصاف بالعنف وباتهامهم مسبقًا بالجبن إذا رفضوا أن يكونوا عنيفين.

بعد هذا وذاك، الا يليق بنا ان نكف عن الكثير من المنقولات التي نتغنى بها دون معرفة صدقها من كذبها؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 14/آب/2012 - 25/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م