ربيع القمع العربي

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: كتبنا كثيرا عن الربيع العربي، وفرحنا به وبنتائجه الأولية أيما فرح وأيما حبور، حيث فرَّ هاربا دكتاتور تونس وضاقت عليه الارض بما وسعت، وتجندل حسني مصر من عرشه العتيد العالي، فيما عُثِرَ على الدكتاتور معمر القذافي مختبئا في مجاري مدينة سرت مسقط رأسه وقُتل شر قتلة، وأطيح باليمني علي عبد الله صالح وأجريت انتخابات رئاسية شعبية مقبولة، وتواصل المد المنتفض الى معظم ربوع العرب، بل والى الشرق الاوسط وبعض الدول الاوربية.

كانت الاحداث الدراماتيكية التي بدأت بإشعال بو عزيزي لجسده، محط دهشة وإعجاب العالم اجمع، وتم وصف المرحلة بتسميات عدة، كلها تنتمي الى التحرر، وتؤكد انتهاء عصر التسلط والاستبداد والقمع، واشهر التسميات واكثرها رسوخا وثباتا تسمية (الربيع العربي)، فهل كانت المرحلة ربيعا عربيا للحرية، ولعهد جديد خال من القهر السياسي والحقوقي، أم هي بداية لمرحلة أخرى، تليق بها وتتناسب معها تسمية (ربيع القمع العربي)؟.

لإلقاء نظرة حيادية متفحصة على ما جرى، بعد الفورة الاولى لما سمّيَ بالربيع العربي، لابد أن نؤشر الافرازات البيّنة التي تؤكد (بما لا يقبل الشك) إنحراف قطار الربيع العربي من سكة الحرية، الى سكة القمع والتكميم وكبت الحريات، مع صعود بعض القيادات الاسلامية (وبعضها متشددة) الى السلطة عبر انتخابات، لم تعكس الارادة الحقيقية لشعوب الدول التي جرت فيها الانتخابات، إذ لا تزال حالة الارباك والفوضى والعشوائية، تسيطر على نبض الشارع بل نبض الحياة كلها، فشعوب مصر وتونس واليمن وسواها، لا تزال تعيش صدمة ما حدث، ولا تزال ايضا تعاني من القهر الدكتاتوري للانظمة المطاح بها، ومن المؤكد أنها - حين أُجريت الانتخابات- كانت لا تزال تحت ضغط ردة الفعل للقمع الماضي، لذا وجدت نفسها مجبرة امام خيار واحد، هو خيار الاحزاب الاسلامية، فصعدت الى الحكم جماعات سياسية اسلامية متشددة، لم تجرب ادارة السلطة السياسية سابقا، ولا تعترف بآراء غيرها، وتشعر أن فرصتها في استثمار السلطة ومزاياها الى اقصى ما يمكن قد سنحت لها الآن، لذا بدأت أولى خطواتها باتخاذ وتطبيق منهج تعطيل الحريات والرأي ومحاصرة الصوت الآخر، وتشريع ما يلزم من الخطوات التي تؤدي الى محاصرة بل وقتل الدولة المدنية تماما، وفرض الحكومة الاسلامية ذات الاتجاه التقليدي الأحادي الذي لا يعترف بغيره من الآراء والافكار والمبادئ والخيارات.

توضّح هذا بصورة جلية في مصر، حين بدأ رئيسها باتخاذ بعض الخطوات التي تستهين بالقضاء من خلال إلغاء قرار المحكمة الدستورية، التي حلّت مجلس الشعب، ليعيده الرئيس الى العمل، متحديا بذلك سلطة الدستور في اولى الخطوات اللادستورية التي يقدم عليها، لتتوالى بعد ذلك سلسلة من الاجراءات التي تحاصر الأفكار الاخرى، والفن والمنظمات الثقافية، وكل ما يمت بصلة الى الدولة المدنية، يحدث الشيء نفسه في تونس على مستوى اقل وضوحا، وفي اليمن ايضا، فيما يبدو الحال مع العراق اكثر وضوحا، لاسيما بعد قرار تكبيل البرلمان بسلطة دينية عليا، تدل على خطوة قاتلة للدولة المدنية العراقية.

ان ما يحدث في العراق في مجال محاصرة الدولة المدنية وإعاقة مؤسساتها، يبدو واضحا لمن يترقبه بعمق ودقة، حيث يجري كل شيء بهدوء ودونما ضجة، وفق نظام (النار الهادئة) التي لا تثير لغط او مخاوف المعنيين، لكنها في الوقت نفسه تقوم بمهام الحرائق الكبيرة مع مرور الزمن، فيصبح حلم إقامة الدولة المدنية مستحيلا، مع الاجراءات التي تتخذها جماعات وقيادات سياسية (اسلامية الاسم)، تهدف الى تحويل العراق الى دولة احادية يقودها نظام قمعي مستبد.

وكما هو متفق عليه، أن الكوارث الخطيرة والكبيرة والمدمرة، دائما تبدأ بخطوة متناهية الصغر، فيغفلها المعنيون والمراقبون، او يتغاضون عنها، لعدم خطورتها، ولكنها ما تلبث أن تكبر وتنمو وتتصاعد حتى تصبح بمثابة الكارثة، وهذا ما يحدث الآن في مصر في ظل حكومة الاخوان المسلمين، حيث بدأت حملة القمع والتكميم ومحاصرة الحريات بصورة لا تقبل الدحض، معلنة بذلك بداية جديدة وخطيرة، لمرحلة مخيّبة للامال ومخيفة ايضا، يمكن تسميتها دونما تردد بـ مرحلة (ربيع القمع العربي).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/آب/2012 - 22/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م